Diin
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Noocyada
الفصل الأول
العوامل الأولى لإيقاظها في النفوس ودعائمها في العقل الغريزي
(1) قانونا السببية والغائية
أشرنا في البحث السابق إلى أن ظاهرة التدين تستند في أصلها إلى مبدأين مرتكزين في بداهة العقول، وهما قانونا «السببية والغائية»، ونبادر الآن فنكرر أن هذين القانونين متى فهما على كمالهما انتهيا إلى أسمى العقائد الدينية: عقيدتي التوحيد والخلود؛ وأن عقائد الشرك والوثنية والفناء إنما هي وليدة ضرب من الغفلة أو الكسل العقلي يقف بها في بعض الطريق.
أما قانون السببية فيقرر أن شيئا من «الممكنات»
1 «لا يحدث بنفسه من غير شيء»؛ لأنه لا يحمل في طبيعته السبب الكافي لوجوده، «ولا يستقل بإحداث شيء»؛ لأنه لا يستطيع أن يمنح غيره شيئا لا يملكه هو، كما أن الصفر لا يمكن أن يتولد عنه عدد إيجابي، فلا بد له في وجوده وفي تأثيره من سبب خارجي، وهذا السبب الخارجي إن لم يكن موجودا بنفسه احتاج إلى غيره، فلا مفر من الانتهاء إلى سبب ضروري الوجود يكون هو سبب الأسباب.
وأما قانون الغائية فمن موجبه أن كل نظام مركب متناسق مستقر لا يمكن أن يحدث عن غير قصد، وأن كل قصد لا بد أن يهدف إلى غاية، وأن هذه الغاية إذا لم تحقق إلا مطلبا جزئيا إضافيا منقطعا، تشوفت النفس من ورائها إلى غاية أخرى ... حتى تنتهي إلى غاية كلية ثابتة هي غاية الغايات.
نعم، إن طاقة البشر، وطبيعة المخلوق، أعجز من أن تحصي مراحل الأسباب والغايات مرحلة مرحلة، وتتابع سلسلتها حلقة حلقة، حتى تشهد بداية العالم ونهايته؛ ولذلك يئست العلوم التجريبية من معرفة أصول الأشياء وغاياتها الأخيرة، وأعلنت عدولها عن هذه المحاولة، وكان قصاراها أن تخطو خطوات معدودة إلى الأمام أو إلى الوراء، تاركة ما بعد ذلك إلى ساحة الغيب التي يستوي في الوقوف دونها العلماء والجهلاء.
ولكن هذا اليأس الإنساني من معرفة أطوار الكائنات تفصيلا في ماضيها ومستقبلها، يقابله يقين إجمالي ينطوي كل عقل على الاعتراف به طوعا أو كرها، وهو أنه مهما طالت سلسلة الأسباب الممكنة والغايات الجزئية، وسواء أفرضت متناهية أو غير متناهية؛ فإنه لا بد لتفسيرها وفهمها ومعقولية وجودها من إثبات شيء آخر يحمل في نفسه سبب وجوده وبقائه، بحيث يكون هو الأول الحقيقي الذي ليس قبله شيء، والغاية الحقيقية التي ليس بعدها شيء، وإلا لبقيت كل هذه الممكنات في طي الكتمان والعدم، - إن لم يكن لها مبدأ ذو وجود مستقل - أو لبقيت لغزا وعبثا غير معقول - إن لم تكن لها غاية تامة تنقطع بها لجاجة النفس ويستقر مضطربها.
نقول: إن وجود هذه الحقيقة الأولى والأخيرة ضرورة عقلية لا مناص من التسليم بها، ولا مجال لأحد أن يكابر فيها متى فكر قليلا في الوضع الذي يئول إليه إنكارها، اللهم إلا إذا فرضناه كائنا أخرق، لا يذعن لقواعد المنطق والحساب، ولا يبالي أن يبطل كل شيء في الأذهان.
Bog aan la aqoon