Diin
الدين: بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان
Noocyada
المبحث الثاني
في علاقة الدين بأنواع الثقافة والتهذيب
الفصل الأول
الدين والأخلاق
(1) علاقة الدين بالأخلاق من الوجهة النظرية
ها هنا نوعان من الدراسة للصلة بين الدين والأخلاق: دراسة «نظرية، تجريدية» تنظر إلى الأشياء كما يمكن أو كما يجب أن تكون، ودراسة «واقعية، تاريخية» تنظر إليها كما كانت بالفعل. «فمن الناحية التجريدية» يمكننا بوجه من النظر أن نجعل من هذين المعنيين حقيقتين متغايرتين، وبوجه آخر أن نجعل منهما مفهومين متداخلين.
ذلك أننا إذا نظرنا إلى «الدين» من حيث هو معرفة «الحق» الأعلى وتوقيره، وإلى «الخلق» من حيث هو قوة النزوع إلى فعل «الخير» وضبط النفس عن الهوى، كان أمامنا حقيقتان مستقلتان، يمكن تصور إحداهما بدون الأخرى، فتختص أولاهما بالفضيلة النظرية، والأخرى بالفضيلة العملية.
غير أنه لما كانت الفضيلة العملية يمكن أن تتناول حياة الإنسان في نفسه، وفي مختلف علائقه مع الخلق، ومع الرب، كان القانون الأخلاقي الكامل هو الذي يرسم طريق المعاملة الإلهية، كما يرسم طريق المعاملة الإنسانية. وكذلك لما كانت الفكرة الدينية الناضجة هي التي لا تجعل من الألوهية مبدأ تدبير فعال فحسب، بل مصدر حكم وتشريع في الوقت نفسه؛ كان القانون الديني الكامل هو الذي لا يقف عند وصف الحقائق العليا النظرية، وإغراء النفس بحبها وتقديسها، بل يمتد إلى وجوه النشاط المختلفة في الحياة العملية، فيضع لها المنهاج السوي الذي يجب أن يسير عليه الفرد والجماعة، وهكذا يصل القانون الديني - إذا استكمل عناصره - إلى بسط جناحيه على علم الأخلاق كله، بل على سائر القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد والشعوب، بحيث يجعلها جزءا متمما لحقيقته ويصبغ كل قواعدها بصبغة القدسية، فيصبح اتباع الفضائل الفردية والاجتماعية نوعا من الطاعة لأوامر الدين، وبابا من أبواب القربات والعبادات الإلهية؛ فضلا عن كونه تحقيقا لمبدأ العدالة الإنسانية، وتلبية لداعي الفطرة السليمة.
وخلاصة القول في هذه الناحية التجريدية أن الدين والأخلاق في أصلهما حقيقتان منفصلتا النزعة والموضوع، ولكنهما يلتقيان في نهايتهما، فينظر كل منهما إلى موضوع الآخر من وجهة نظره الخاصة، كمثل شجرتين متجاورتين تمتد فروعهما، وتتعانق أغصانهما، حتى تظلل إحداهما الأخرى. (2) علاقة الدين بالأخلاق من الوجهة التاريخية «أما من الوجهة الواقعية» فإننا لا نرى الصلة بين الدين والأخلاق تبلغ دائما هذا الحد من التساند والتعانق، لا في مبدأ نشأتهما في نفس الفرد، ولا في دور تكونهما وتركزهما في قوانين وقواعد مقررة في المجتمع، أما في الحياة الفردية فإن هذا الاتصال يبدو واضحا في عهد الطفولة والصبا؛ فالشعور الأخلاقي أقدم وأرسخ في نفس الطفل من الشعور الديني؛ ولذلك نراه يبدأ في سن مبكرة جدا باستحسان بعض الأفعال، واستنكار بعضها، والاستحياء من بعض آخر. ولا يشعر بالحاجة إلى تعليل ظواهر الكون وتقديس سر الوجود إلا في دور ثان يكون فيه أنمى عقلا، وأهدأ بالا، وأشد تيقظا، وأدق ملاحظة.
وأما في المجتمع فإن امتزاج القوانين الدينية والقوانين الأخلاقية نراه لا يجري على سنن واحدة في العصور والبيئات المختلفة، فكثيرا ما ظهرت في التاريخ نظم أخلاقية لا تعرض لواجب الآلهة قط، ولا تستقي تشريعها للفضائل الأخلاقية من وحي الدين، بل من قوانين العقل، أو وحي الضمير، أو سلطان المجتمع، أو حسب المصالح والمنافع، أو غير ذلك. كما ظهرت في التاريخ مذاهب دينية لا تعنى هذه العناية بالناحية العملية الاجتماعية، بل كثيرا ما تجعل المتدين ينطوي على نفسه، متخذا مثله الأعلى في العزلة والصمت والتأملات العميقة.
Bog aan la aqoon