1 - حليم
2 - الحب
3 - المدن الثلاث
4 - الحديقة
5 - تمهيد الجلسات الثلاث
6 - الجلسة الأولى
7 - الجلسة الثانية
8 - الجلسة الثالثة
9 - وضع الجنون موضع العقل
10 - تحالف الأرض والسماء
Bog aan la aqoon
الخاتمة
1 - حليم
2 - الحب
3 - المدن الثلاث
4 - الحديقة
5 - تمهيد الجلسات الثلاث
6 - الجلسة الأولى
7 - الجلسة الثانية
8 - الجلسة الثالثة
9 - وضع الجنون موضع العقل
Bog aan la aqoon
10 - تحالف الأرض والسماء
الخاتمة
الدين والعلم والمال
الدين والعلم والمال
المدن الثلاث
تأليف
فرح أنطون
المقدمة
بقلم فرح أنطون
الإسكندرية في 1 يوليو (تموز) سنة 1903
Bog aan la aqoon
من الروايات ما ينشأ للتفكهة والتسلية، ومنها ما ينشأ للإفادة ونشر المبادئ والأفكار، والذين أنشئوا رواياتهم للإفادة في الغرب معدودون في مقدمة مشاهير المؤلفين كتولستوي وزولا وكيبلنغ وغيرهم، فإن كل واحد من هؤلاء الكتاب لا يرى في وضع الروايات حطة وضعة، بل يعتبر الرواية منبرا ينشر منه آراءه وأفكاره بطريقة تبلغها إلى أذهان القراء بسهولة، ونحن في الشرق محرومون هذه الطريقة لعدم رواجها لأسباب لا محل لذكرها هنا؛ ولذلك كانت الروايات التي تنشر عندنا لا غرض منها غير التفكهة إلا بعضها.
ولما وصلنا في إبراز مواد «الجامعة» إلى المواضيع المهمة التي تكمل مباحثها السابقة خطر لنا أن نهجر أسلوب المقالات المتقطعة والفصول المتفرقة إلى أسلوب الرواية؛ لأنه أجمع وأوعى، فضلا عن كونه أشد تأثيرا وأحسن وقعا، فعزمنا بحوله تعالى على إبراز عدة روايات كل واحدة منها تبتدئ وتنتهي في جزء واحد تسهيلا لمطالعتها واستيعابها لأن الانتظار يقطع الرغبة فيها، وسيكون اهتمامنا فيها بالمبادئ والأفكار مقدما على الاهتمام بالحوادث والأخبار، ولكن هذا لا يمنع من التزام ما تقتضيه الروايات من الوصف وتصوير العواطف والحوادث تصويرا طبيعيا، لأن فن الروايات فن بسيكولوجي جماله وتأثيره متوقفان على حسن سبكه ولطف أسلوبه ودرس باطن الإنسان وأخلاقه وبيئته درسا دقيقا.
وهذا الكتاب «الدين والعلم والمال» هو الرواية الأولى من هذه الروايات، وموضوعه معروف من عنوانه، وقد سميناه هنا (رواية) على سبيل التساهل لأنه عبارة عن بحث فلسفي اجتماعي في علائق المال والعلم والدين، وهو ما يسمونه في أوروبا «بالمسألة الاجتماعية» وهي عندهم في المنزلة الأولى من الأهمية لأن مدنيتهم متوقفة عليها .
وربما قيل: إن هذا الموضوع غير لاصق بنا كل اللصوق لأن «المسألة الاجتماعية» لا تزال صغيرة عندنا، فالجواب أن هذه المسائل هي مدخل للمباحث التالية في الكتب التالية؛ ذلك لأن المباحث الاجتماعية والفلسفية مرتبطة في الحقيقة بعضها ببعض، فلا يمكن تحقيق أحدها دون الغوص إلى أعماقها لمعرفة أساسها، وقد أظهرنا الأساس في هذا الكتاب، فعسى أن ينال من رضى ساداتنا القراء والكتاب ما ينشطنا في خدمتنا.
الفصل الأول
حليم
والمدن الثلاث التي كان يحج إليها الناس
فقال له الشيخ: وهل تقيم عندنا طويلا يا بني.
فأجاب الشاب: نعم يا عم فإنني جئت من أقاصي البلاد لأشاهد المدن الثلاث التي سار بذكرها الركبان، وربما استغرقت إقامتي عندكم شهرا على الأقل، لأنني سأزورها واحدة واحدة وأبحث في شؤونها بحث مؤرخ دارس لا بحث متفرج.
فتنفس الشيخ الصعداء وقال: أف أف، كم يزور الناس هذه المدن الثلاث، فهم يظنونها عجيبة من عجائب الدنيا مع أننا نحن لا نراها إلا مدنا كباقي المدن، انظر إليها، أي فرق بينها وبين باقي المدن سوى قيامها في هذا السهل الفسيح بشكل مثلث.
Bog aan la aqoon
فنظر الحاضرون إلى حيث أشار الشيخ فشاهدوا أمامهم سهلا فسيحا لا يعرف الطرف آخره، وكان في هذا السهل ثلاثة بلدان جميلة البنيان محاطة من كل جهة بالحدائق والبساتين والحقول الصفراء من منظر الزرع تتخللها المواشي المختلفة وهي ترعى بحراسة فتيان وفتيات كانوا جالسين أفرادا وأزواجا وجماعات تحت الأشجار المثمرة أو في ظل بعض السياجات.
فقال الشاب بعد أن سرح طرفه في هذا المنظر البري، حقا إنه منظر بديع.
وكان المكان الذي يقيم فيه الشاب والشيخ مع بعض من الزائرين منزلا صغيرا في قرية صغيرة قريبة من «المدن الثلاث» وكانت هذه القرية في أول السهل على مقربة من النهر الجميل الذي كان ينساب في السهل انسياب الأفعى ليسقي زروعه وأشجاره، وقد سمى الناس هذه القرية «الدخول» أو قرية الدخول لأنها المدخل إلى المدن الثلاث، إلى تلك البقعة التي كان يحسبها الناس جنة الله في أرضه.
فبعد أن أمعن الشاب النظر قليلا في المدن الثلاث التفت إلى الشيخ وقال: هل تعرف يا عم تاريخ تأسيس هذه المدن بالتدقيق.
فأجاب الشيخ: كل الناس هنا يعرفون هذا التاريخ يا بني لأنهم لا ينسون ذكر ذلك الرجل الكريم والإنسان الذي لا مثيل له بين البشر، مؤسس هذه المدن ومنشئها، انظر إلى تلك الحديقة البعيدة الكائنة في وسط المدن الثلاث، هذه حديقته وقد أقام له فيها أهل هذه المدن تمثالا عظيما يحتفلون بتذكاره مرة في كل عام.
فقال الشاب: إنك تتكلم عن المرحوم الشيخ سليمان فاحك لي قصته وقصة تأسيس هذه المدن من أولها.
فسعل الشيخ قليلا وأصلح جلوسه فوق الوسادة ثم أخذ يقول: منذ نحو مائة سنة يا بني كان الشيخ سليمان فتى فقيرا يتيما يتجول في المدن يطلب عملا، فذاق في صباه كل أنواع العذاب في هذه الحياة، ومما كان يزيد عذابه نفسه الحساسة الكبيرة، طبقا لما قيل:
وأتعس الناس حالا من تكون له
نفس الملوك وحالات المساكين
ولكن يظهر أن العناية الإلهية يا بني لا تخص بعض هذه النفوس بالشقاء والنقم والعذاب إلا لمقاصد سامية، فإنه إذا كانت المصائب تسحق النفوس الصغيرة وتفل عزائمها فإنها تشدد عزائم النفوس الكبيرة لأنها تعلمها بالاختبار ما لا تتعلمه بسواه، فهي كالعود الطيب الذي لا تنتشر رائحته إلا متى مسته النار، أو كالزيت الذي لا يضيء إلا بالاحتراق، وهذا ما جرى للشيخ سليمان، فإنه بعد أن ذاق من مصائب الحياة ما ذاق في إبان الفقر والضيق لم تسمح له طبيعته الكريمة أن ينسى ذلك في أيام الثروة والرخاء.
Bog aan la aqoon
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا
من كان يألفهم في المنزل الخشن
ولذلك كان همه أول ما أثرى وجمع مالا طائلا أن يقوم بمشروع كانت تحدثه نفسه به منذ صباه.
فإنه في ذات يوم أعلن في البلاد كلها إعلانا غريبا ألصقه في الشوارع وفرقه في الناس وبعثره في الطرق والأسواق، ومحصل هذا الإعلان أن كل فتى وكل فتاة يجولان في الشوارع بلا شغل ولا رزق إذا قصداه فإنه يعطيهما شغلا ورزقا واسعا، فلم يمض على هذا الإعلان أسبوع واحد حتى بلغ عدد الفتيان الذين قصدوه 3245 فتى وعدد الفتيات 3120، فاشترى الشيخ سليمان هذا السهل الواسع الذي أمامنا ومساحته 5000 فدان، وأسكن أولئك الفتيان والفتيات فيه وأحضر لهم زراعا وصناعا يدربونهم على الزراعة والصناعة، وأقام منهم حكومة لهم، وسن لهذه الحكومة قوانين وجعل فيها قضاة وجندا ورئيسا أعلى، نعم إن ذلك كان مضحكا في بدء الأمر ولكنه لم يلبث أن صار جديا مهما، فإن أولئك الفتيان والفتيات الفقراء الذين اجتمعوا من كل الجهات انتقلوا بهذه المعاملة من حالة إلى حالة، فبعد أن كانوا مثلا يجمعون أعقاب السكائر من الشوارع والأسواق ليبيعوها إلى تجار الدخان، أو يطوفون المدينة بالنهار بأثواب بالية قذرة يستعطون قوتهم أو يطلبونه من فضلات المنازل في المزابل، وفي الليل ينامون أكداسا أكداسا في زوايا الطرق على البلاط البارد حتى في أشد ليالي الشتاء بردا كأنهم حيوانات لا بشر - صاروا يشتغلون بشرف واجتهاد في أماكن معدة لذلك ويلبسون من أجرة شغلهم ثيابا نظيفة ويتغذون بأطعمة مغذية، ولم تعد ترى في عيونهم ذلك القلق الشديد الذي كان فيها حين كانوا في تيار تلك المعيشة الهائلة التي لا يكون فيها الإنسان على ثقة حتى من بلغة يسد بها رمقه في المساء أو في الصباح لتدوم له حياته، بل حل محل ذلك القلق طمأنينة تامة لثقة ذلك العامل الصغير بأن حياته صارت مضمونة، ولذلك صار يبتسم للحياة ابتسام الراحة والارتياح بعد أن لم يكن يبتسم من قبل إلا ابتسام عدم المبالاة بشيء حتى بالحياة، ومما زاده راحة وسعادة حكومته نفسه بنفسه تحت مراقبة الشيخ سليمان وصيته، فإنه لم يمر على هؤلاء الأولاد نحو سنة من الزمان حتى صاروا يشعرون بالتبعة التي عليهم ولذلك صاروا يراعون الحدود في سلوكهم، ومن هذا اليوم يبدأ تاريخ نهوضهم من عثرتهم.
فقطع الشاب كلام الشيخ وقال: إذا أجداد سكان هذه المدن الثلاث كانوا من فضلات الأزقة والشوارع.
فقال: نعم يا بني ولكن تذكر أن الورد لا ينبت إلا من الشوك والنرجس لا يخرج إلا من بصل، على أننا نحن سكان هذه القرية كنا نود لو اقتصر سكان هذه المدن الثلاث على المعيشة التي عاشها أجدادهم أولئك الفتيان العاملون؛ لأن في ذلك راحتنا من الاضطرابات والفتن التي قام قائمها بين السكان في الأزمنة الأخيرة، فأولئك الفتيان كان لا هم لهم غير زراعة أرضهم وإتقان مصنوعاتهم والمعيشة بسلام بعضهم مع بعض، أما أصحابنا هؤلاء فإن دأبهم النزاع والخصام، فنعم الآباء ولكن بئس ما ولدوا.
فقال الشاب: وما سبب نزاعهم وخصامهم؟
فقال الشيخ: أنت ترى يا بني أن هذه المدن ثلاث، فإحداها تدعى مدينة المال لأن أهلها كلهم يشتغلون بجمع المال، والثانية تدعى «مدينة العلم» لأن أهلها كلهم يشتغلون بالعلم، والثالثة تدعى «مدينة الدين» لأن أهلها كلهم منقطعون إلى الدين، وقد حدث هذا الانقسام على ما ترى منذ زمن بعيد، فإن أولئك الفتيان والفتيات الذين أسسوا هذه الجمهورية الصغيرة بعد اشتغالهم بزراعة الأرض وإتقان المصنوعات أصابوا نصيبا من الثروة والسعة، فلما تزاوجوا وتكاثروا جاء أبناؤهم أرقى منهم وأكثر ميلا إلى الشؤون النفيسة، فعكف بعضهم على التجارة وبعضهم على العلم وبعضهم على الأدب وبعضهم على الدين، كل بحسب استعداد نفسه وقابليتها، فلم يمر زمن طويل حتى قام النزاع بينهم على ساق وقدم، فارتأى بعض منهم زيادة في توسيع المعيشة على السكان أن ينشئوا بلدتين أخريين قريبتين من البلدة الأصلية، ثم رغبة في حصر النزاع في مكان واحد أو منعا للنزاع قرروا أن تسكن كل طبقة في بلدة، فطبقة المال تسكن في البلدة الشرقية وطبقة العلم في البلدة الغربية وطبقة الدين في البلدة الجنوبية، ولكن هذا التدبير قد ذهب سدى بلا جدوى لأن النزاع ما زال قائما بينهم.
الفصل الثاني
الحب
Bog aan la aqoon
في قلب لم يعرف الحب
وكان الشاب الذي ألقى على عمه الشيخ تلك الأسئلة في نحو الثلاثين من العمر وقد جاء سائحا لمشاهدة هذه المدن الثلاث التي سمع بها من بلده، وكان رجلا قد درس علوم المتقدمين والمتأخرين ووقف على المبادئ القديمة والحديثة وصار يطلب ضالته بينها على غير فائدة، فلا المدنيات القديمة كانت تعجبه لأن حقوق الضعفاء كانت مهضومة فيها وبناءها قائم على القوة والعنف، ولا المدنيات الحديثة كانت ترضيه لأنها جعلت الحياة عراكا هائلا وجهادا عظيما بين الناس، وكان وهو في المدرسة قد لمح في ذهنه عصرا يسميه مؤرخو اليونان العصر الذهبي، ويسميه كتاب المسيحية عصر الفردوس الأرضي، فبقي منه في فكره أثر كان يحضر فيه كلما رأى زحام الحياة وجهادها بين أفرادها، فلما سمع بهذه المدن الثلاث ومعيشة سكانها في وسط الطبيعة معيشة خالية من أدران الاجتماع ورذائله خيل له أنها بداية العصر الذهبي الموعود به الإنسان في الأرض
1
فقال في نفسه: فلنذهبن لمشاهدة تلك البقعة التي ابتدأ بها العصر الذهبي فإنه قد آن للإنسانية في الأرض أن تصل إليه وتجد شيئا من الراحة بعد جهاد القرون الماضية.
لكن لما سمع الشاب ما حدثه به الشيخ عن نزاع تلك المدن الثلاث سقط أمله وخاب ظنه، على أنه كان من الذين يستفيدون من كل شيء، فقال في نفسه: إنني مولع بدرس كل ما له علاقة بتنازع المال والعلم والدين، فربما قدرت في هذه المرة على اكتشاف أسرار جديدة بهذا الشأن، بل ربما كان تنازع هذه المدن الثلاث المنصوبة إحداهما تجاه الأخرى كمنجانيق للحرب مؤديا إلى حل لهذه المشكلة القديمة.
وبينما كان الشاب يفكر في هذه الأمور إذ سأله الشيخ: متى تدخل إلى هذه المدن يا ولدي حليم؟ فأجاب الشاب: سأدخلها غدا، فقال الشيخ: وهل تعرف فيها أحدا يا بني؟ فتنهد حليم وأجاب مبتسما: كلا، فقال الشيخ: لقد رابني في جوابك شيئان: تنهدك وابتسامك، فأصدقني، فزاد حليم في الابتسام وقال: وما يمنع من أن أصدقك لو كنت أعرف فيها أحدا.
إلا أن حليما لبث بعد هذا الجواب مبهوتا، وقد تنهد هذه المرة تنهدا لم يدع عمه الشيخ يشعر به وشخصت عيناه حينئذ إلى المدينة الشرقية، مدينة المال، ثم انتقلت من مدينة المال إلى حديقة واقعة تجاه القرية على شاطئ النهر عند مدخل السهل، ولما وقع نظره عليها أغمض عينيه كما يغمضهما من لا يريد أن ينظر ما أمامه أو من يريد أن ينظر في داخله صورة نفيسة مخبوءة فيها، وكان غرض حليم الأمرين معا.
وكان مع حليم رفيق أكبر منه سنا وأضخم منه جسما، فلما شاهد حركاته هذه ابتسم له، فتوردت وجنتا حليم لهذا الابتسام لأنه فهم معناه، فخشي رفيقه أن يكون قد أساء إليه بهذه الإشارة فمال نحو أذنه وهمس فيها قائلا على سبيل المداعبة: أما تظن أن العصر الذهبي قد ابتدأ.
فازدادت حمرة حليم وأجاب صديقه ضاحكا: مهما كان في عبارتك من التهكم فإنها مقبولة لأنها اختراع حليم.
فقال له صديقه على سبيل المداعبة أيضا: أنت أجمل يا صاح، ولكن لا تله نفسك الآن بهذا الكلام عن الأمور المهمة، ثم أشار نحو الطريق.
Bog aan la aqoon
فلفت حليم نظره إلى حيث أشار صديقه فتمشى قلبه في صدره لمنظر رآه بعيدا، ذلك أنه شاهد خمسة جياد عليهن خمس فتيات يركضن عليهن خببا، فطار نظره في الحال إلى التي تلبس ثوبا أبيض بينهن، فرآها تسير في الوسط وهي أخفهن حركة وجوادها أسرع خطى، فلبث شاخصا نحوها، أما صديقه فتركه في مناجاته ولم يزعجه هذه المرة بالمزاح الثقيل لأنه كان يعلم أن النفوس الحساسة المخلصة لا تطيق المزاح أحيانا في بعض الأشياء، ذلك أن المزاح سهم يخدش دائما وإن كان خدشه خفيفا، والرجل الكريم يغار على ما هو نفيس عنده ومحبوب أن يخدش حتى بوردة، ومن الغريب أن سؤالا واحدا كان في تلك البرهة يشغل فكر حليم وفكر صديقه معا، وهذا السؤال هو: هل تلتفت الفتاة إلى النافذة أم لا، إلا أن حليما كان يشك في التفاتها، وأما صديقه فإنه كان على يقين منه، ذلك لأنه رأى منها في البستان الذي شاهداها فيه مع رفيقاتها قبل وصولهما إلى هذه القرية ما لم يره حليم منها، وكانت عالمة أنهما سينزلان في ذلك المنزل، ولكن مع ذلك صدق ظن حليم وخاب ظنه هو، فمرت الفتاة مع رفيقاتها في الطريق البعيدة دون أن تلتفت إلى النافذة.
كان حليم شابا كريما، وكان قد صرف عمره في مطالعة الكتب وانتقاد أحوال الاجتماع، ومن سوء حظه لم تعرض في طريقه فتاة تريه خطأ ذلك الانتقاد، ولذلك كان حليم إلى تلك الساعة بلا حب، ولكن لا يجب أن يستدل بهذا القول على أن قلبه كان جامدا كالحجارة ولذلك لم يتحرك قبل الآن، كلا، إن قلب حليم كان بسلاسة الماء ولطف النسيم ولين الشمع، ولكنه لم يكن يجد في طريقه من تقدر أن تؤثر عليه وتحرك هذا القلب، فهل الذنب ذنبه في هذا الأمر أم ذنب الناس، وكيف تريدون من النار أن تشتعل إذا لم يكن هنالك حرارة للإشعال، أو من الحديد أن يجذب إذا لم يكن هنالك مغناطيس للجذب، وقد كان يقال له أحيانا: كيف يمكن أن تحب وتتزوج إذا بقيت بعيدا عن الناس كما أنت، هل الحب هواء يطير ويدخل في الأجسام ليأتيك وأنت بعيد عنه بين المحابر والألوان والأقلام، كلا، إذا فعاشر وساير إن رمت أن تحب، أما هو فقد كان يجيبهم باسما: إنني من الذين يقرأون الرسالة من العنوان ويعرفون الشجرة من الثمرة، فأنا في واد ونساؤكم وبناتكم في واد، على أنني لست ألوم النساء إذا لم يفهمن أخلاقي وعواطفي ما دام الرجال أنفسهم لا يفهمونها، فالانفراد عن هذه الهيئة الباطلة الكاذبة التي نعيش فيها غير مبالين بها ولا بمسراتها ولا بآمالها - لأنها تختلف عن مسراتنا وآمالنا - خير من الانضمام إليها وسريان عدواها إلينا.
ولذلك كان حليم يقابل السيدات بلا مبالاة ولا مجاملة كما يقابل الرجال، وبينما كنت ترى جميع الشبان في الحفلة يطوفون بكراسيهم أجمل السيدات والبنات ويبذلون جهدهم في خدمتهن كأنهم كلاب صيد لا شأن لهم في الجلسة إلا إحضار ما يطلبنه أو ندامى لا غرض لهم إلا بسطهن وتسليتهن - كنت ترى حليما جالسا في زاوية يضحك من أولئك وهؤلاء، ويتسلى بمراقبة الحركات الباردة والكلمات الشاردة والنظرات المجاهدة، وعند كل واحدة منها كان يضحك في نفسه ويقول: ما أكذبك أيها الإنسان.
ولكن لما قدم حليم في هذه المرة إلى هذه القرية قاصدا السياحة في المدن الثلاث ووجد في طريقه قبل الوصول إلى القرية تلك الفتاة بين رفيقاتها، تغير وجه المسألة في نظره، والغريب أن هذا الوجه قد تغير بلا سبب مغير أي من غير أن يحادث حليم هذه الفتاة ويختبر أخلاقها ليعرف ما وراء جمالها وهل هي أرقى من بنات بلده حقيقة لتستحق ميله وحبه، فهل ترى كان ذلك التغيير من تأثير السفر على الأخلاق لأنه يهيئها لقبول كل تأثير يعرض لها لأنها تكون في حاجة إليه في غربتها؟ أم ذلك لميل النفوس دائما إلى البعيد ونبذها القريب المألوف طبقا لقول العامة: «الدير القريب لا يشفي»؟ أم ذلك لأن عواطفه المضغوطة في قلبه قد وجدت هذه المرة منفذا ففاضت رغما عنها إذ طال بها عهد انتظار الحب وهو لا يأتي؟ أم ذلك لأن علم حليم بأن تلك الفتاة من إحدى المدن الثلاث قد جعل لها في نفسه مكانا سنيا في الحال فنظر إليها بعين الكمال بعد أن كان ينظر إلى بنات جنسها بعين النقص؟ أم ذلك لأن كهربائية حليم وكهربائية الفتاة قد اتحدتا لأول نظرة؛ لأنهما خلقا ليتحدا معا طبقا لاعتقاد بعض المتقدمين بأن الله يصنع النفوس أنصافا أنصافا وأن الحب هو عبارة عن وجود النفس نصفها الثاني المكمل لها؟
الفصل الثالث
المدن الثلاث
مدينة المال، مدينة العلم، مدينة الدين
وفي صباح اليوم الثاني استعد حليم ورفيقه صادق للدخول إلى المدن الثلاث، فنهض حليم إلى ثيابه يصلحها بتأنق خلافا للعادة، فنظر إليه صديقه وابتسم، فعبس حليم قليلا وقال له: يظهر أن صحبتك ستكون ثقيلة قليلا بعد الآن، فأجابه رفيقه: قل ما تشاء في ذمي ولومي ودعني أرى فيك ما لم أره قبل الآن، وهو اهتمامك بظاهرك، فقال حليم: وقد رام تغيير الحديث: بأي مدينة نبتدئ؟ فابتسم رفيقه وأجاب: هل من حاجة للسؤال فإننا سنبدأ بمدينة المال، ففهم حليم حينئذ أنه انتقل من الرمضاء إلى النار فأجابه ضاحكا ومتوردا خجلا: حقا إنك لا تستطيع ترك المزاح.
وما طلعت الشمس في ذلك النهار تبعث إلى الخليقة حرارتها المحيية ونورها المنعش حتى خرج حليم وصادق من القرية وقصدا المدن الثلاث، فوجدا في الطريق الزراع خارجين إلى حقولهم وبساتينهم، والرعاة يسوقون مواشيهم إلى مراعيها الخصيبة وفي مقدمتها ومؤخرتها الكلاب لحراستها وهم سائرون وراءها في أيديهم قصب رخيم الصوت ينفخون به نفخا يذكر السامع نفخ مزمار الرعاة في جبال لبنان وأوديته أو غناء الرعاة في عصر الإله أبولون لما نزل إلى الأرض وجعل نفسه راعيا وعلم الرعاة أناشيد الآلهة، ثم سارا بضع خطى فوجدا أعمى يستعطي جالسا تحت سياج بستان على الطريق ووراء السياج في داخل البستان رجل في يده كيس كبير يملأه من الثمار، والقلق باد على وجهه مما يدل على أنه يسرق تلك الأثمار، ثم بعد برهة شاهدا صيادا يطارد الطيور ليصطادها رغبة في لحمها ويترك بعد ذلك صغارها تنتظرها في أعشاشها حتى تموت بردا وجوعا، وبعيدا في رأس شجرة منفردة صبي لا يتجاوز عمره عشر سنوات ينصب قضبان دبق للطيور ليمسكها بها، وقريبا من هذه الشجرة رجلان كل منهما آخذ بخناق رفيقه وهما يتشاتمان ويتضاربان بحدة وجنون كأنهما كلبان يقتتلان على عظمة، وفي الجانب الآخر وراء جذع شجرة فتى يرافق فتاة لا هي أخته ولا هي نسيبته.
فلما شاهد حليم هذه المشاهد قال في نفسه باسما: نحن في واد والعصر الذهبي في واد، فإن هذه المصائب والقبائح تدل على أننا قرب مدن كالمدن المألوفة الاعتيادية.
Bog aan la aqoon
وبعد المسير نحو ساعة وصل الصديقان إلى مدينة المال، فدخلا إليها بلهفة وشوق ليروا داخلها.
وكانت هذه المدينة أكبر المدن الثلاث وأوسعها، وكانت ممتازة عن المدينتين الأخريين بقصورها الشاهقة ودورها الباذخة وجنائنها المحيطة بمنازلها، فلما أخذ حليم ورفيقه يجولان في أسواقها وشوارعها لم يكونا يسمعان إلا نداء الباعة وأصوات التجار ورنين المال يدفع أو يقبض ودوي أصوات البضائع تحمل أو تنزل، ونظر حليم إلى أهلها نظر منتقد فرآهم بأجسام سمينة وعيون هائمة لا تستقر في مكان لألفتها النشاط والحدة والتفتيش، وثياب نظيفة مرتبة تدل على سعتهم، فخيل له أنه بين قوم سعداء بمالهم أقوياء بنشاطهم وجدهم، لكنه كان من الذين لا يكتفون بظواهر الأشياء للحكم عليها حكما سديدا، فقال في نفسه سنرى النتيجة بعد زيارة المدينتين الأخريين.
ومما لا يحتاج إلى بيان أن حليما كان يفتش بعينيه كثيرا عن فتاته لعله يلمحها في نافذة مفتوحة أو شرفة أو حديقة، ولكن تعبه ذهب بلا جدوى، فإنه كان يرى في النوافذ والشرفات والحدائق والطرق كثيرات من الحسان وكلهن كأنهن أقمار فوق أغصان بان، إلا أنه لم يقف على أثر لحسنائه، فكان كلما رأى حسناء وظنها إياها ثم ظهرت له خيبة ظنه يردد قول الشاعر:
أليس عجيبا أن نكون ببلدة
كلانا بها ثاو ولا نتكلم
وبعد أن جال حليم وصديقه في مدينة المال ساعتين خرجا منها إلى مدينة العلم، فمرا في طريقهما إليها بالحديقة العظيمة الواقعة بين هذه المدن الثلاث وهي ملتقى أهلها ومجمعهم ومتنزههم، فشاهد فيها حليم ورفيقه رهبانا وقسسا وشيوخا وأئمة ورجالا وشبانا يحملون بأيديهم كتبا وصحفا وهم تارة يقرأون فيها وطورا يتأملون وآونة يتذاكرون، فقال حليم لرفيقه هذه طلائع مدينتي العلم والدين، ثم مرا قاصدين مدينة العلم دون أن ينتبه إليهما المقيمون في الحديقة.
ولما وصل حليم ورفيقه إلى مدينة العلم وجدا السكون والهدوء مخيمين عليها حتى إنك لتسمع حين مرورك في الشوارع طنين الذباب في طيرانها، وكانت منازلها صغيرة حقيرة وشوارعها ضيقة، فارتاحت نفس حليم لما وجده من الهدوء فيها وقال: أين نحن من جلبة تلك المدينة. غير أن البياض إذا اشتد صار برصا، ولذلك لم يوغل حليم في المدينة حتى صار ذلك الهدوء التام ثقيلا على نفسه، فإنه لم يكن يسمع حركة ولا يرى شخصا في الشارع ولا يلمح يدا ولا وجها في النافذة، فكان كأنه في مقبرة أو مدينة أموات لا أحياء، إلا أنه كان أحيانا في مروره ببعض المنازل يرى شابا مستلقيا على سريره وكتابه في يده، أو رجلا يروح ويجيء في غرفته وهو يفكر ويتأمل كأنه متجرد عن هذا العالم، أو قارئا كتابه في يده ولكن فكره يسبح بعيدا في الفضاء الأبدي.
ولو لم يكن حليم ممن ألف هذه الحالات وأحبها لداخلته خشية منها وعراه نفور عنها، لأن هذا الهدوء هدوء الأموات، وذلك الانقباض البادي في وجوه النفر الذي رآه لمما يبعث في النفس شعورا رهيبا لمعرفتها أن ما يقع في ذلك الحين في وسط ذلك الهدوء الشديد مع ذلك الانقباض الأليم يجب أن يكون أمرا رهيبا خطيرا تقف عنده النفوس رهبة وإجلالا، والنفس غير مخطئة في شعورها هذا لأن ذلك الأمر هو عبارة عن عراك ونضال بين الأرض والسماء، والمعلوم والمجهول، والمادة والروح، والمحدود وما لا حد له، ذلك أن الإنسان الترابي القاصر الضعيف يطلب الوصول بفكره إلى الذي لا يصل إليه فكر، والعقل المحدود يروم الاستيلاء على العقل الذي لا حد له.
وبعد ساعتين خرج حليم ورفيقه من مدينة العلم وقصدا مدينة الدين، وكان حليم يمشي وفكره مشغول للعواطف التي قامت في نفسه حين مروره في مدينة العلم، فهناك تجددت هواجسه كلها وبلغ اضطرابه معظمه، هناك كان ينتظر أن يرى العلم ضاحكا باشا لأنه وجد ضالته فإذا به يراه كما عهده منقبضا مظلما يطلب ويفتش عبثا، فانقبض صدر حليم ونسي في هذه الدقيقة حسناءه نسيانا حقيقيا، ومن هنا تقدر أن تستدل على أخلاق هذا الشاب استدلالا مهما وتعرف السبب الذي جاء من أجله إلى هذه البلاد، فإن الناس يضعون عادة حبهم فوق كل أمر، وقد وضعه الملوك مرات كثيرة فوق تيجانهم وعروشهم، أما حليم فلم يكن يعرف أحب إليه من أن يعرف.
1
Bog aan la aqoon
ولكن لم يلبث حليم أن دنا من مدينة الدين، وكان يسير إليها وهو مطرق مفكر بكل ما في فكره من القوة، ولكنه ما قرب من باب المدينة حتى سمع أصواتا شقت الفضاء وأناسا بأنغام رخيمة يصيحون من أعالي المآذن: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فالتفت حليم بغتة وقال: هل وصلنا؟ ثم سرح بصره في المدينة التي أمامه، وكان حينئذ دخول الظهر والمؤذنون يدعون في المآذن إلى الصلاة، فلبث حليم يتأمل فيهم من بعيد بلذة لا توصف وهو يتبع كل حركة من حركاتهم، وما كاد ينتصف الأذان حتى علت أصوات الأجراس أيضا من قبب الكنائس، فامتزجت أصوات الأذان بأصوات الأجراس تذكر البشر في الأرض بالخالق جل جلاله وتنبههم إلى واجباتهم وتنذرهم بأنهم ضيوف في هذا العالم، أما رفيق حليم فإنه ضحك وقال: في بلادنا تستمر الصلاة إلى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر في يوم الأحد أما في هذه البلاد فالظاهر أنها تستمر إلى الظهر، غير أن حليما لم تكن نفسه مستعدة للضحك في تلك الساعة لأنها كانت تفكر في موضوع أرفع وأسمى، فسرح نظره في مدينة الدين بين أصوات المؤذنين الشجية ونغمات الأجراس الرخيمة التي تناجي السماء فراقه جمال هذه المدينة بجوامعها النحيفة الجميلة ومآذنها الأنيقة وكنائسها وقبابها المبنية أجمل بناء، وصار يقول في نفسه: هذه مدينة السلام لكثيرين من الناس، هنا مستقر السعادة والراحة لملايين من البشر، هنا وطن الإخاء والحب والحرية والسواء، هنا مدفن أحقاد الإنسانية ومصائبها ومتاعبها وصغائرها لو كانت تعلم.
ولما دخل حليم إلى مدينة الدين استغرب ما رآه فيها من آثار الثروة والنعمة والغنى، فإن جوامعها وكنائسها - وكلها كانت كنائس وجوامع - كانت مبنية بإتقان وزخرف يستوقف النظر، وكانت شوارعها فسيحة فيها الناس يروحون ويجيئون إلى الجوامع والكنائس ومنها، وهم بين رجال ونساء بأفخر زينة.
فبعد أن جال حليم ورفيقه ساعة في المدينة وشاهدا ما فيها قال لرفيقه: لقد شاهدت الآن ما أردت مشاهدته من هذه المدن فهلم بنا الآن نذهب إلى الحديقة التي هي مجمع أهلها ومتنزههم فقد بقي علينا الوقوف على دخائلها بعد أن وقفنا على ظواهرها.
فقال صديقه: ولكن الحديقة تكون خالية في وقت الظهر فأجل إلى المساء دخولنا إليها وهلم بنا الآن إلى فندق لنتغدى ونستريح فقد تعبنا.
الفصل الرابع
الحديقة
والظاهر أن حليما ورفيقه قد ناما قليلا في الفندق بعد الغداء ولذلك لم يخرجا منه إلا بعد العصر، فأقبلا نحو الحديقة وكانت غاصة بالناس من كل الطبقات.
وكان في الحديقة ثلاث قاعات كبرى كل واحدة منها قائمة في أحد جوانب الحديقة، فكان كل فريق من سكان مدينة العلم والدين والمال يجتمع في إحدى هذه القاعات للبحث في شؤونهم وأحوالهم، فكانت قاعة أهل المال عبارة عن بورصة صغيرة وقاعة أهل العلم عبارة عن مكتبة كبيرة، وقاعة أهل الدين نصفها مكتبة ونصفها مجتمع للحديث.
فلما دخل حليم ورفيقه إلى الحديقة شاهدا الناس منتشرين في أطرافها بين أشجارها الجميلة وأزهارها العطرية، وأكثرهم يتحادثون ويتجادلون بحدة، غير أن دخول هذين الزائرين الغريبين إلى الحديقة نبه المتنزهين فيها إليهما فصاروا يقلبون أنظارهم في هيئتهما وملابسهما، فقال حليم حينئذ لرفيقه: إن القوم قد التفتوا إلينا فإذا سألك أحد عن اسمي فقل له: إنني أدعى حليما وصناعتي التجارة وقد جئنا نستبضع من مدينة المال، وإياك أن تذكر لأحد اسمي فإنني أكره الرسميات في سياحتي هذه.
وبينما كان حليم يوصي رفيقه بهذا الأمر على مقربة من قاعة أهل العلم كان ثلاثة شبان وقوفا قرب هذه القاعة وهم يتفرسون بهما جيدا، ثم سمع أحدهم يقول: لا شك أنه هو لأنني شاهدت صورته قبل اليوم في إحدى مجلاتنا، فقال الآخر: لا يبعد أن يكون هو بعينه فإن منظره اللطيف الهادئ لا يكذب شهرته الواسعة. وحينئذ انفرد المتكلم الأول عن رفيقيه وسار نحو حليم وصديقه بخطى واسعة وهو يبتسم.
Bog aan la aqoon
فلما رآه حليم قادما بهذه الهيئة لم يشك في كونه قادما لمخاطبته فتشاغل عنه بمحادثة رفيقه، أما الشاب القادم فإنه لما صار على مقربة منه مد يده إليه مسلما وقال باحترام وبشاشة: أرجو أن تسمح لي بسؤال يا سيدي، هل تريد أن تشرفني بمعرفتك، فتلعثم حليم قليلا لأنه كره الكذب ثم أجاب: نحن ضيوف يا سيدي في المدن الثلاث الجميلة وقد جئنا لمشاهدتها والاستفادة من أهلها الكرام، فقال الشاب: نعم، لا ريب عندي في أنكم ضيوف، ولكني أول ما وقع نظري على جنابك تذكرت أنني شاهدت هذا الوجه قبل الآن في إحدى مجلاتنا، ألست جنابك الخواجا حليم المصور الطائر الصيت.
فلما رأى حليم أنهم عرفوه ضحك وأجاب: إن ذكاءكم في هذه البلاد غريب يا سيدي فإنكم تعرفون الرجل من غير أن تعرفوه.
فلم يتمالك الشاب أن عاد وثبا إلى رفيقيه وأخبرهم أن ذلك الضيف هو المصور حليم نفسه، فانتشر هذا الخبر بسرعة البرق في الحديقة كلها، فصار الناس يتداعون لمشاهدة الرسام الطائر الصيت الذي بارى في هذا الفن أشهر الرسامين وطارت شهرته في جميع أقطار العالم، ولم تمض دقيقتان حتى اجتمع كل من في الحديقة من أهل العلم والمال والدين حول حليم ورفيقه وصارت الأعناق تتطاول إليهما من كل صوب، فازداد الورد في وجنتي حليم خجلا من ذلك لأنه كان كثير التواضع قليل الجرأة على مقابلة آلهة الشهرة، ولكنه لم يكن ضعيفا إلى حد الجبن، ولذلك رفع رأسه بعد ذلك الحياء بجرأة وبشاشة وحيا بهز رأسه باسما، وكان الجمع الذي حوله في حركة في ذلك الحين ثم انفرد منهم خمسة بينهم رجال من أهل المال والعلم والدين وتقدموا نحوه، فتبعهم باقي الجمع زاحفين نحو حليم كالجند وهم كالبناء المرصوص، فخطا حينئذ حليم نحوهم بخطى واسعة وهز الأيدي التي كانت تمد إليه من كل جانب كأنها أغصان مشتبكة.
ومنذ هذا الحين فقد حليم نصف لذة السفر لأنه صار مقيدا بعد أن كان مطلقا يروح ويجيء كما يشاء، إلا أن خسارته هذه لا تعادل الفائدة التي استفادها في ساعة واحدة بعد أن عرفه أهل هذه البلاد، فإنه صار دفعة واحدة في وسطهم فأصبح قادرا على الوقوف على كل ما أراد الوقوف عليه منهم.
وبعد أن جلس حليم واستراح برهة حدثهم في أثنائها عن سفره وما شاهده في المدن الثلاث هم بالاستئذان فدنا منه الشاب الذي كان أول من عرفه وقال: لي على جميع أخواني حق التقدم لأنني كنت أول من تشرف بمعرفتك، فأنا أرجو أن تتخذني صديقا ورفيقا لك في هذه الديار لأدلك في سياحتك، فشكر له حليم لطفه وأدبه، ثم نهض يطلب الخروج من الحديقة وكل جوارحه تتمناه، فهمس ذلك الشاب في أذنه قائلا: ألا تحضر الاجتماع الليلة في الحديقة، فقال حليم: وأي اجتماع؟ فقال الشاب: إن الليالي الثلاث القادمة ليالي في غاية الأهمية، فإن السكان عزموا على الاجتماع فيها ثلاث مرات لحل بعض المشاكل التي بينهم والتي هي سبب النزاع والخلاف بين طبقاتهم، ولا ريب أن خراب مدننا الثلاث وعمرانها يتوقفان على نتيجة هذه الاجتماعات، والليلة الأولى مخصوصة بالمال، والليلة الثانية بالعلم، والليلة الثالثة بالدين. فقال حليم: سأحضر هذه الاجتماعات لا محالة، ثم ودع وخرج مع رفيقيه وهو يقول في نفسه: إنه قد جاء في أحسن الأوقات وأهمها.
الفصل الخامس
تمهيد الجلسات الثلاث
رجاء الشيخ الرئيس وشكاوى أهل العلم والدين والمال
وفي المساء برزت الحديقة بالأنوار الساطعة وأقبل الناس عليها من الجهات الثلاث وأكثرهم سكوت كأنهم يفكرون في أمر عظيم، وكانت أشكال ملابسهم تدل على أنهم من طبقات مختلفة بين تجار وعمال وأهل علم وأهل دين، وكان كل فريق مشغولا عن الفريق الآخر بمناجاة حزبه همسا استعدادا للجدال العلني الشديد، وما دخلت الساعة التاسعة مساء حتى غصت الحديقة بالناس على اتساعها وجلسوا ينتظرون، وكان حليم ورفيقه قد اختارا مقعدا في زاوية مظلمة قريبة من دكة الرئيس فكانا يشاهدان الحاضرين دون أن يشاهدهما أحد.
وفي الساعة التاسعة والدقيقة الأولى جلس رئيس ذلك الاجتماع على كرسيه، وهو رئيس جمهورية المدن الثلاث، وكان شيخا جليلا في نحو الثمانين من العمر وهو بقية الشيوخ الذين عاصروا الشيخ سليمان مؤسس هذه المدن، فلما سكنت الضوضاء أخذ يقول:
Bog aan la aqoon
أيها الأبناء الأعزاء:
قد عزمتم على عقد ثلاثة اجتماعات كبرى لتتباحثوا في مسائلكم المهمة والمشاكل التي نغصت عيشكم وعطلت أشغالكم وقسمت قلوبكم وعيالكم، فيسرني أنا حاكمكم وأبوكم أن تؤدي هذه الاجتماعات إلى قطع كل ما بينكم من أسباب النزاع والخلاف حرصا على سعادتكم وعلى عمران مدننا الثلاث التي تعبنا في إنشائها وترقية شؤونها، إنما قبل الشروع في المباحثة أتمنى من صميم قلبي أمرا، وهو أن يجتنب كل فريق منكم في أثناء كلامه كل قول يسوء الآخر فإن الإنسان يستطيع أن يصرح بأدب ولطف بكل ما توجب عليه مصلحته التصريح به، ولا يجدي العدوان والشدة نفعا، وإنني أسأل الله أن يوفق أعمالكم ويسدد آراءكم وينير عقولكم.
فهنا حصلت ضجة بين بعض من أهل العلم، فانتصب رجل من فريق الدين وقال بصوت جهوري: ماذا؟ هل صرتم تكرهون أن تسمعوا اسم الله أيضا، فصرخ خمسون عاملا من العملة كانوا جالسين قرب فريق أهل العلم: كذاب كذاب. فانتصب حينئذ أحد هؤلاء وكان أقربهم إلى العملة وقال مخاطبا فريق أهل الدين: لا تبدأوا بالعدوان إذا كنتم مخلصين في طلب المسالمة. فقال الشيخ الرئيس حينئذ: لست أجهل سبب الضجة التي حصلت بين بعض من الأبناء، فإنهم لا يزالون يطلبون ترك المسائل الدينية للجوامع والكنائس ولذلك لا يجيزون لحاكمهم أن يلفظ عبارة دينية في منصبه الرسمي، وأنا على ثقة من أن ذلك لم يكن منهم عن إنكار للمسائل الدينية بل عن رغبة في الفصل بين شؤون المذاهب المختلفة، ولكني أظن أنهم يجيزون لشيخ بسني صار قريبا من القبر أن يستسلم لعواطفه أحيانا.
ثم قال الرئيس: أما الآن فإننا نسمع الشكاوى التي اجتمعنا للنظر فيها بصدق وحسن نية، ولنعلمن قبل نوعها وتفصيلها.
فنهض حينئذ زعيم العملة وقال: إن شكوى العمال من طمع أرباب الأموال، فالعمال يتعبون ويجنون وأرباب الأموال يتمتعون بتعبهم ويتلذذون، فمن العدل أن يشارك أولئك هؤلاء في كل الأشياء.
فنهض النائب عن أرباب الأموال وقال: إن شكوى أرباب الأموال لم تكن من العملة أنفسهم فإننا نحب عمالنا كما نحب أولادنا، كيف لا وهم رفقاؤنا وشركاؤنا في أعمالنا، وإنما شكوانا من بعض الطامعين الذين يثيرون خواطرهم علينا ويحرضون طبقتهم على طبقتنا، فلتفصل الحكومة العمال عن هؤلاء المحرضين فيستتب السلام بين الجميع.
فنهض رجل من فريق العلم وقال: إذا صح أنه متى رفعت يد الذين يسمونهم «محرضين» من بين العمال وأصحاب الأموال فإن السلام يستتب في الحال فقد زال نصف شكوى أهل العلم، وإنما يبقى عليهم في هذا الموضوع أن يبحثوا هل يرافق السلام الذي يحصل حينئذ هناء العمال وراحتهم وسعادتهم أم يبقى سلامهم موتا أدبيا وماديا كسلام أهل القبور، وإننا معشر أهل العلم نفتخر في هذا العصر بأننا حللنا في هذه المسألة محل أهل الأديان وصار همنا الأول التفكير بإنهاض الشعوب وترقيتها بينما نرى أهل الأديان يسلمون الشعوب بأيديهم إلى الأطماع المختلفة، فكان مثلهم مثل ملوك يخلعون أنفسهم بأنفسهم، ولذلك تراهم يكثرون من التزلف للأغنياء وأرباب الأموال ويجارونهم في كل شيء حتى في ما يخالف مبادئهم الدينية وينقض أساسها ويلهون الشعب في أثناء ذلك بالتدجيل عليه ليشغلوه بالأوهام والأحلام عن مصالحه الحقيقية، فغرض العلم في هذا الزمان تفتيح عيني الشعب وترقية أحواله والضرب على أيدي المدجلين، وشكواه من كل من يحاول منعه من الوصول إلى هذا الغرض الشريف.
فهمس حينئذ واحد من أهل العلم كان قريبا من الخطيب في أذن جاره قائلا: ليت أصحابنا أنابوا عنهم خطيبا أكثر اعتدالا من هذا الخطيب فإن مقاما كهذا المقام لا يفيد فيه غير التأني والاعتدال، أما رأيت السياسة التي اتخذها نائب أرباب الأموال.
وكان قد نهض نائب فريق الدين فقال: أما شكوانا نحن خدمة الله تعالى فمن أولئك الكفرة الجاحدين الذين يبثون روح ضلالهم وكفرهم في النفوس، فإننا والحق يقال لولاهم لكنا كلنا في ألف نعمة من الله تعالى، فإنهم بدأوا ضلالهم بيننا بتعليم أولادنا مبادئهم الطبيعية الممقوتة والعياذ بالله، ثم تدرجوا منها إلى إنكار المذاهب المختلفة فالوحي وجحود الخالق سبحانه وتعالى، فما دام هؤلاء المفسدون يفسدون عقول الناس فلا سلام ولا راحة عندنا.
فقال الشيخ الرئيس حينئذ: نعم هذه هي الشكاوى المختلفة التي مر علي عشرات السنوات وأنا أسمعها، فأستحلفكم بكل ما هو عزيز مقدس لديكم، أستحلفكم بالشيخ الجليل المحسن إلى هذه المدن والواقف الآن بيننا في وسط الحديقة على تمثاله الرخامي يسمع كلامنا وينظر إلينا، أن تكسروا حدتكم قليلا وتتباحثوا في مشاكلكم بسلام وأدب، فإننا كلنا يا أبنائي إخوان، وكلنا في هذه الأرض ضيوف وغرباء.
Bog aan la aqoon
أجارتنا إنا غريبان ها هنا
وكل غريب للغريب قريب
وأنتم تعلمون أن الإنسان لا يعيش في الأرض عمرين وأن أيامه فيها معدودة، فلماذا لا يصرف هذه الأيام بما يدعو إلى الراحة بدل أن يصرفها في خصام صبياني، هل أن حطام الدنيا وخيراتها الزائلة ومسراتها الفانية تستحق هذا الاقتتال الشديد عليها، أما سمعتم ذلك القول البديع المنسوب لحكيم عظيم:
1
أخي خل حيز ذي باطل
وكن للحقائق في حيز
فما الدار دار مقام لنا
وما المرء في الأرض بالمعجز
ينافس هذا لهذا على
أقل من الكلم الموجز
Bog aan la aqoon
وهل نحن إلا خطوط وقع
ن على نقطة وقع مستوفز
محيط السماوات أولى بنا
فماذا التنافس في مركز
فتباحثوا الآن في مسائلكم واذكروا أن عمران مدننا وخرابها متوقفان على نتيجة بحثكم، ولنبدأ أولا بمشكلة العمال وأرباب الأموال وإن كانت هذه المسائل كلها مرتبطة بعضها ببعض.
الفصل السادس
الجلسة الأولى
المال ومشاكله
فساد حينئذ في الحديقة سكوت تام لم يسمع في أثنائه سوى حفيف الأوراق وهمس بعض السيدات اللواتي كن جالسات على مقعد في زاوية مقابلة للزاوية التي جلس فيها حليم ورفيقه، وكان حليم قد بدأ يرمي ببصره إلى هؤلاء السيدات منذ لمح وجودهن هناك لعله يجد ضالته بينهن.
دعوى زعيم العمال
Bog aan la aqoon
وبعد دقيقة تقدم زعيم من زعماء حزب العمال وقال مفتتحا البحث:
لقد أحسنتم في تخصيصكم الجلسة الأولى بمشاكل العمال وأصحاب الأعمال لأن هذه أكبر المشاكل في الحقيقة، ومتى حللناها حللنا معها سواها، ولكن لا سبيل إلى حلها إلا بطريقة واحدة، وهي إشراك العمال في ربح الأعمال؛ فإننا الآن نخدم أصحاب الأعمال كما يخدم العبد سيده، وأسعدنا حظا وأعظمنا قدرا يتناول في الشهر مائة فرنك، أي يأخذ في السنة أجرة لعمله 1200 فرنك، فإذا افترضنا أن عددنا في العمل 30 عاملا كان مجموع ربحنا جميعا في العام 36 ألف فرنك، على حين أن ذلك العمل يربح في كل عام مليون فرنك ربحا مجردا، وكل هذه القيمة تذهب وتنصب في صندوق صاحب العمل مع أننا نحن السبب في ربحها، فأية عدالة عند الله والناس تجيز هذا الأمر، وأي دين يرضى بأن يسعى مائة وواحد يأكل.
ولكن فلنترك مسألة الربح جانبا ولننظر إلى مسألة أخرى، وهي أن بين العمال المستخدمين قوما لا يتناولون في اليوم أكثر من فرنك واحد أجرة لهم، فكيف يمكن أن يكفيهم هذا الفرنك خصوصا إذا كان لهم أولاد عليهم القيام بأودهم، أليس ذلك عبارة عن ضرب الشقاء والذلة عليهم مدى العمر.
ثم إن العامل قد يمرض وقد يعجز وقد يموت، فماذا يحل به وبعائلته إذا كان قد صرف حياته كلها في خدمة صاحب العمل ولم يعد قادرا في مرضه وفي آخر عمره أن يكسب رزقه بعرق جبينه، أيموت جوعا هو وعائلته، أم يدور في المدينة يستعطي.
لذلك نطلب منكم نحن العمال باسم الإنسانية والإخاء البشري أن تنصفونا فإننا نحن الأكثرية في البلاد، وبدوننا لا تقدرون أن تصنعوا شيئا، فنحن نحارب لرد غارة العدو، ونحن نفلح الأرض لنخرج منها القوت والغذاء، ونحن نخدم في دوائر الحكومة والمحال العمومية والخصوصية، ونحن ندير المصانع لصنع المصنوعات ونسج الأنسجة، فحرام أن نصنع كل شيء وعلى ظهورنا تلقى كل الأحمال ثم تترك الحكومة فريقا قليلا من أصحاب الأموال يحتكر منافع البلاد وفوائدها وخيراتها ويسخر لنفسه الأمة كلها.
فصاح به حينئذ صائح من فريق المال: ولكن ماذا تريدون أن تصنع الحكومة، هل من حقها أن تتداخل بينكم لتجبر أرباب الأعمال على زيادة أجوركم أو مقاسمتكم أرباحهم، ألا تعلمون أن لأصحاب الأموال الحق المطلق في التصرف في أموالهم وأملاكهم كما يريدون، وأن الحكومة لا يمكنها التعرض لحق الملكية لأنه من الحقوق الطبيعية التي لا تنقض.
فأجاب الخطيب زعيم العمال: هذه شنشنة عرفتها من أخزم، فكأنكم نسيتم أن هنالك مذهبين متناقضين واحد معكم وواحد عليكم، ومما يحق لنا الفخر به نحن العمال الصغار أن مذهبنا في هذه المعضلة موافق لمذهب جميع شارعي الأديان من موسى إلى يسوع إلى محمد، فإن هؤلاء الكواكب الثلاثة الذين أناروا سماء الشرق والعالم قاطبة لو عادوا اليوم إلينا لكانوا من حزبنا، ذلك لأنهم يعلمون أن كل هيئة اجتماعية تبنى على ظلم الفئة الكبرى وراحة الفئة الصغرى هيئة فاسدة ستسقط لا محالة، فإذا كان في حزبكم فلاسفة كبار وعلماء أعلام ففي حزبنا من هم فوق العلماء والفلاسفة، ثم هل تريدون منا فلاسفة فاسمعوا رأي الفيلسوف كارل ماكس.
فضحك هنا بعض فريق المال وقال أحدهم: ما شاء الله، تستشهدون بأشد أنصاركم غلوا.
فقال الزعيم: لا، بل نستشهد بفيلسوف من الفلاسفة رأيه يناقض رأيكم في الملكية، فإنكم تقولون: إن أرباب الأموال مطلقو التصرف في معاملهم ومصانعهم ومتاجرهم، أما نحن فنقول لكم مع هذا الفيلسوف: إنكم في خطأ عظيم، فإن معامل الأمة ومصانعها ومتاجرها وأراضيها هي من مرافقها ومنافعها كالأنهر والأبحر والهواء، ولذلك لا يجوز أن تكون ملكا لفرد أيا كان، بل هي ملك لجميع الأمة، فعلى الأمة إذا أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها، أي أن الحكومة تجعل نفسها التاجر الكبير الوحيد الذي تنحصر في يده تلك المتاجر والمصانع والمزارع وتستخدم فيها أفراد الأمة وتعطيهم أجرتهم من تلك البضائع نفسها أي من عين المال، كلا بقدر حاجته وكفاءته، والعامل يستطيع أن يستبدل البضائع التي تجتمع عنده بأي بضاعة احتاج إليها، هذا ما يراه بعضهم عدلا وإنصافا، ونحن لا نطلب منكم كل هذا فإننا نترك لكم مصانعكم ومعاملكم ومتاجركم وأراضيكم، وإنما نطلب منكم أن تعطوا نصف ربحها في كل عام للعمال والمستخدمين الذين تخدمونهم فيها وتبقوا النصف الثاني لكم.
ولا تقولوا إننا قد طلبنا شيئا كثيرا فإننا لا نطلب إلا حقوقنا، لقد كرهت نفوسنا الخدمة بالأجرة كالأجراء، لقد كرهنا هذه العبودية الجديدة التي اخترعها التمدن الجديد، فإذا لم تنصفونا وتريحونا منها فاعلموا أننا نحذو حذو شمشون إذ نأخذ بأعمدة الهيئة الاجتماعية ونشدها قائلين: «علينا وعلى الجميع يا رب»، فيسقط البناء علينا وعليكم.
Bog aan la aqoon
أيها الإخوة، إن نور الشمس ونسيم الصباح وحنان الأمهات ورغد العيش ومسرات الاجتماع وراحة البال، كلها لم تخلق فقط لأرباب الأموال ، فإن الله العادل خلقها لجميع البشر على السواء، ونحن معشر الفقراء المساكين من جملة البشر، فانظروا إلينا وارحمونا، صدقونا إن لنا نفوسا كنفوسكم تتألم من المصائب والفقر والشقاء، وإن لنا أولادا كأولادكم ونساء كنسائكم يجب علينا سد حاجاتهم، صدقونا إن الطبيعة - تلك الطبيعة القاسية الظالمة - لم تخصنا بخواص الجماد، فإنها من - سوء حظنا - جعلت لنا معدا تتألم من الجوع، وقوى تخور إذا لم تغذ، ونفسا تفضل الجحيم أحيانا على هذه الحياة، وهذا ما يدفعها مرارا إلى أقصى حدود الوحشية: كالفوضوية وما أشبهها، ففي أيديكم الآن يا أبناء الوطن خراب بلادكم أو عمرانها.
وما سكت زعيم العمال حتى قامت ضجة في صفوف أهل المال فصاح أحدهم: يتهددوننا بالفوضوية، وصاح آخر: لا نخافهم فوراءنا جيش الحكومة، ولكن لم يلبث أن نهض زعيم أهل المال وأشار إلى رفاقه بالسكوت ثم أخذ يقول:
دعوى أهل المال
أيها السادة:
مسألتنا مع عمالنا مسألة قديمة منذ وجود الإنسان في هذه الأرض، فمنذ وجد فيها رجل نشيط قوي مدبر عامل ورجل ضعيف ساذج مهمل تسلط الأول على الثاني واستخدمه في ما فيه مصلحتهما معا، وإن هذا الاتفاق بين القوي والضعيف - بين الرأس المدبر الآمر والجسد المدار المأمور - بقي وثيقا وطيدا إلى ذلك اليوم الذي قام به الحسد والطمع يحرضان الضعيف على القوي ويغريانه بأن يعطل أعماله إن لم يشاركه فيها، فالحسد والطمع سبب كل هذا الخلاف.
ولقد كان العمال قبلا يشكون من أن أجورهم قليلة وشغلهم كثير، فإنهم كانوا يعملون من شروق الشمس إلى ما بعد غروبها، وأسعدهم حظا كان يتناول فرنكين في النهار، فرأينا أن نخفف عنهم فجعلنا أوقات عملهم 8 ساعات في النهار
1
وأبلغنا راتب الواحد منهم إلى مائة فرنك، ثم أنشأنا لهم منازل صحية رخيصة الأجرة ليقيموا فيها، واعتنينا بنسائهم وأولادهم في أوقات الولادة والمرض، ولكن كل هذا لم يقنعهم بل تدرجوا من طلب إلى طلب حتى وصلوا إلى طلب مشاركتنا في مصانعنا ومتاجرنا ومزارعنا، فإذا أجبناهم اليوم إلى ذلك فإنهم لا يلبثون أن يطلبوا غدا طردنا منها ليستولوا عليها من دوننا.
فاعلموا أيها السادة أنكم الآن بإزاء الطمع والحسد الاجتماعي لا بإزاء مظالم بشرية كما يقولون، والويل لحكومتنا ولهيئتنا الاجتماعية إذا تركتموها تخضع للطمع والحسد، ولا ريب عندنا أن حرصكم على مصلحة وطنكم المرتبطة بمصلحة أهل المال والأعمال أشد ارتباط سيجعلكم تردون دعوى العمال لا محالة.
ذلك أنكم تذكرون ولا بد في هذا المقام أمورا عظيمة عليها تتوقف حياتنا وحياة بلادنا:
Bog aan la aqoon
الأمر الأول:
منزلة أهل المال في الهيئة الاجتماعية، فإنكم تعلمون أيها السادة أننا مصدر ثروة البلاد وحياتها، فبتدبيرنا وسعينا ننشئ المتاجر الواسعة والمصانع العظيمة والمزارع الخصيبة، وندر على الأمة بها أخلاف الثروة، ولو شئنا أن نحبس أموالنا ونقفل صناديقنا ونبطل سعينا لماتت الأمة في سنة واحدة، والحكومة التي قراطيسها المالية في أيدينا تعرف ذلك حق المعرفة، وإن قيل لكم: إن العملة وأهل العلم سبب هذه الثروة فأجيبوهم: لماذا إذا لا يستغنون عنا ويتصرفون بهذه الثروة كما يشاءون دون حاجة إلينا إذا كانوا صادقين، ولكنهم غير صادقين لأنهم يبالغون في نسبة الفضل إليهم، فإنهم بينما يكون الواحد منهم غائصا في أحلامه وأوهامه يكون فكر الواحد منا حائما حول متاجر الأرض ومصانعها يفتش عن ثروة جديدة لبلاده، بينما يكون أحدهم منهمكا بكتابة مقالة على مائدته (حبر على ورق) أو نظم شعر في غرقته (هباء في الهواء) فإن أحدنا يسمع الأمة موسيقى أجمل من موسيقى الشعر ويريها جمالا أبهى من جمال الأدب، أعني به جمال الذهب الذي ينساب من صناديقنا قناطير قناطير وينشر الراحة والسعة والخيرات في طبقات الأمة كلها، فإذا كنتم أيها السادة في غنى عن هذه القوة التي لا تعادلها في الوجود قوة فأخبرونا ذلك ولا تخجلوا منا.
الأمر الثاني:
حفظ مركز الأمة الصناعي والتجاري والزراعي، فإنكم تعلمون أن المزاحمات الصناعية والتجارية قائمة في الدنيا على ساق وقدم، والنصر النصر في هذه المزاحمات لمن يصنع المصنوعات والبضائع بأرخص الأثمان، فإذا حكمتم علينا بزيادة أجور العمال وتقليل مدة العمل أو إشراكهم فيه كنتم كأنكم تحكمون بإقفال معاملنا ومتاجرنا لأننا بعد ذلك لا نستطيع مزاحمة المعامل الأجنبية.
الأمر الثالث:
حفظ شرائعنا المقدسة حفظا مطلقا، فإن حق الملكية حق مقدس لا يجوز للحكومة مسه، ونحن بموجب هذه الشرائع مطلقو التصرف في أملاكنا ومزارعنا ومتاجرنا، فإذا رامت الحكومة الضغط على حرية الملك نقضت الشريعة والنظام نقضا يخشى منه بعد ذلك على أساس هيئتنا الاجتماعية.
الأمر الرابع:
إيقاف تيار الاشتراكية عند حده، فإن هذه الآفة الكبرى قد عظم خطبها وجل أمرها، ولذلك طريقتان بسيطتان: (الأولى) امتناع الحكومة عن المداخلة بين العمال وأصحاب الأعمال لأن ذلك ليس من وظيفتها، (والثانية) إبطال الحكومة جمعيات العملة، أي عدم معرفتها إياها رسميا ومنع مداخلتها بين العمال وأصحاب الأموال، فإن الشر كل الشر وارد من هذه الجمعيات التي تحرض العملة وتغرر بهم بوعود باطلة، وهنا مهد الاشتراكية، إذ متى فرقت الحكومة هذه الجمعيات استؤصلت جرثومة الاشتراكية لسقوط نيرها عن أعناق العمال المساكين وصار أرباب الأعمال يحلون مشاكلهم معهم بكل لطف وسلام. (فقهقه هنا بعض في صفوف العمال وصاح أحدهم: هذا وعد الهرة للفأر أن لا تأكله)
فقال زعيم أهل المال من غير أن يجاوبه:
والأمر الخامس:
Bog aan la aqoon
هدم التجارة والصناعة والزراعة متى صار صاحب العمل شريكا لعماله، ذلك لأن هذه الفنون المتشعبة العظيمة تقتضي وحدة الإدارة وإطلاق الإرادة، فمتى كان صاحب العمل مقيدا بآراء عماله فقد خرب العمل لا محالة وخمدت نار النشاط والإقدام الشخصي على الأعمال؛ لأن الفرد لا يعود يخاطر بماله ووقته وذكائه من أجل غيره.
والأمر السادس:
أن تذكروا أيها السادة أن حكومة بلاد كبلادنا لا يليق أن تبنى على الأوهام والأحلام ويلقى زمامها إلى أصحاب التصورات والتخيلات، إن المخلوقات كلها قد خلقها الله طبقات مختلفة، ففيها القوي والضعيف والكبير والصغير والخامل والنبيه، وما الاشتراكية التي تحاول جعل جميع الناس متساوين إلا وهم وخيال، فهي تطلب مثلا أن توزع ثروة الدنيا وأراضيها على جميع البشر بالسواء حتى لا يكون فيهم فقير وغني بل يكونوا كلهم في مرتبة واحدة، فهل سمعت خرافة كهذه الخرافة: وهب أننا وزعنا أموال الدنيا وأراضيها بين الناس بالسواء فماذا تكون النتيجة؟ تكون النتيجة أن الكسالى والجهلاء والضعفاء والخاملين والمسرفين ينفقون أموالهم ويبيعون أراضيهم بعد مدة وجيزة، فيحصرها ويستولي عليها المجتهدون والمقتصدون وأهل الذكاء والتدبير، وحينئذ تعود الحالة إلى ما هي عليه اليوم ونرجع إلى ما نحن فيه، فهل تريدون ضعضعة أساس الهيئة الاجتماعية من أجل تجربة كل التاريخ البشري في الأرض يشهد بفسادها، كلا، لا تخالفوا نواميس الاجتماع والطبيعة نفسها، إن نواميس الطبيعة الثابتة تثبت هذا الامتياز بين المخلوقات، ولذلك يأكل قوي الحيوانات ضعيفها، أية قوة في العالم تقدر أن تساوي بين الذئب والحمل والهرة والفأر والبازي والعصفور، أية قوة تقدر أن تنقض ناموس تنازع البقاء وبقاء الأفضل في الأرض، إن هذا الناموس وحده كاف لنقض مذهب الاشتراكية، ففي الحياة طبيعيا واجتماعيا وسياسيا القوي يقوم والضعيف يسقط، وهذا سبب انقراض كثير من الأمم وقيام كثير من الشعوب، فمن أراد جر القوي من طبقته وإنزاله ليساوي بينه وبين الضعيف كان كمن يهدم قوة الهيئة الاجتماعية ويجعل جميع أفرادها ضعفاء خاملين بحجة المساواة بينهم.
ولقد ختم نائب العمال كلامه بذكر كارل ماكس وبتهديده لنا، فنحن نشك في رضائكم عن هذه المبادئ لأنكم تعلمون عقباها، إنكم لا تجهلون أن دعامة مذهب كارل ماكس اعتقاده بأن الحكومات لا يمكن أن تهب الشعب والعمال من تلقاء نفسها حق الاستيلاء على مرافق الأمة ومنافعها لأن رجال هذه الحكومات من أهل المال الذين هم في رأيه أعداء للعمال، ولذلك يوجب على الشعب أن يغتنم إحدى الفرص ويهاجم الحكومة ويستولي عليها، وبعد ذلك يتصرف بها طبقا لمصلحته من جعل المعامل والمتاجر والمصانع والمزارع ملكا للأمة نفسها وإعطاء أصحابها تعويضا عنها، فإذا كانت هذه مبادئهم أيها السادة فما هذا التحكيم والرغبة في المسالمة إلا رياء لا ينطلي محالة علينا.
فهم استحلفوكم أيها السادة باسم الإخاء الإنساني أن تجيبوهم إلى طلبهم أما نحن فنستحلفكم باسم دستورنا وعمران بلادنا ومستقبل أمتنا وشرف صيت حكومتنا عند الأمم أن تردوا هذا الطلب.
وما جلس زعيم أهل المال في مجلسه حتى اضطربت صفوف العمال وصفوف أهل العلم المجاورة لها، ثم انفرد أحد رجال العلم وقام، فشخصت إليه جميع الأنظار وأشرقت وجوه العملة لأنه كان معروفا عندهم، فابتدأ هذا الخطيب خطابه قائلا:
دعوى أهل العلم
أيها السادة:
كان في نيتي أن لا أتكلم اليوم بل غدا ولذلك سمعت كثيرا من الأقوال والمزاعم التي تقتضي الرد دون أن تتحرك نفسي للرد عليها، غير أن كلمة واحدة لفظها خطيب إخواننا أهل المال في آخر مقاله أثارت نفسي للكلام رغما عنها.
فهو أيها السادة استحلفكم في آخر خطابه «بمستقبل أمتنا» أن لا تجيبوا الشعب إلى ما طلب من مشاركة أصحاب الأعمال في أعمالهم، فهذا الاستحلاف «بالمستقبل» أمر مدهش أيها السادة في مسألة كهذه المسألة، المستقبل! بالله دعوا المستقبل لله، وهل تعتقدون حقيقة أن الإنسانية ستكون في المستقبل على ما هي عليه اليوم من الشقاء، أتصدقون أن أكثرية البشر سيبقون في المستقبل عبيدا وخداما للأقلية، أيدخل في تصديقكم أن الشعوب ستبقى ضعيفة ضئيلة تحت نير الاجتماع، أقوياؤها يموتون ضنى وجهادا في هذه الحياة لأنهم لا يكادون يقدرون على تحصيل رزقهم ورزق أولادهم، وضعفاؤها يموتون جوعا وبردا في الشوارع والأسواق، وعاجزوها يعاملون معاملة الكلاب، بينما أفراد قليلون في المدينة يجمعون قناطير الأموال.
Bog aan la aqoon
إذا كنتم تعتقدون حقيقة بذلك فقد أنكرتم الله وجحدتم العدالة وقررتم الإباحة وبررتم قول من يقول: بطون تدفع وأرض تبلع فلا نظام ولا ناموس.
فصاح حينئذ واحد من صفوف رجال الدين: هذا قول بارد، فإن الإنسان حر، وله أن يتصرف بحريته كما يشاء، ولذلك كان مسئولا عن أعماله، وما الحيلة بسنة تنازع البقاء.
فاستشاط الخطيب حينئذ وصاح مخاطبا فريق الدين: لله ما أجهلكم.
فأجابه ذاك: لله ما أحمقكم.
فقال الخطيب: نعم نحن نحمق من جهلكم، ألا تعلمون أن سنة تنازع البقاء هذه سنة وحشية تناقض كل سنة دينية، ألا تعلمون أن السنة الدينية ما وضعت إلا لمقاومتها، ألا تعلمون أن رجال الدين إذا قالوا بها كانوا كأنهم ينتحرون وينحرون مبادئهم.
سنة تنازع البقاء معناها أن كل واحد من البشر يسعى لنفسه ويجاهد رفيقه ليستأثر بالمنافع والخيرات دونه، وتكون خاتمة هذا الجهاد أن الأقوى يكون الفائز، والضعيف يغلب ولا بأس أن يموت أيضا؛ لأن الهيئة الاجتماعية في غنى عنه، وبعض المتقدمين كانوا يقتلون أطفالهم الضعفاء وفقا لناموس بقاء الأفضل، فهذه الحالة هي حالة الحيوانات تماما أيها السادة، كذا تحيا وتعيش وتموت وتنمو أو تنقرض، فهل صار من فخرنا في تمدننا هذا أن نقتدي بالحيوانات في معيشتها الدنيئة.
فمبدأ تنازع البقاء وبقاء الأفضل مبدأ فظيع وحشي يهدم كل ما بنته الأديان وكل ما وضعه الفلاسفة وعلماء الآداب في الأرض، إذ ما الفائدة من مراعاة الآداب والفضائل ما دامت الطبيعة تسن أن للقوي أن يتمتع بكل قواه، ولماذا توضع الحدود والشرائع لكف الناس آذاهم بعضهم عن بعض ما دام القوي معذورا في اعتدائه لأنه يعمل وفقا للناموس الطبيعي، ولماذا تكذب الأديان وتحثنا على الخير والبر والرفق والزهد والوئام والسلام ما دام كل هذا مخالفا لناموس تنازع البقاء، والكلمة العليا هي لهذا الناموس دائما، أليس ذلك بمثابة غش للضعفاء من أجل منفعة الأقوياء.
فرحماكم لا تخلطوا بين الحالة الطبيعية والحالة الاجتماعية، إن تنازع البقاء وبقاء الأفضل أمران صحيحان في الحالة الطبيعية، وهنالك لا مرد لهذين الناموسين الهائلين، لذلك يأكل القوي الضعيف ويسحق الكبير الصغير كما تصنع الحيوانات الوحشية، أما في الاجتماع فإن الحالة تختلف كل الاختلاف، ذلك أن الحكومة قد أخذت على نفسها من حين عزم البشر على الاجتماع والمعيشة معا في مدينة واحدة «أن ترفع ظلم القوي عن الضعيف وتمد الضعيف بالقوة ليعيش بأمن وسلام»، وهذا ميثاق معقود بين الحكومة والناس، وبموجبه يعيش في المدن جنبا إلى جنب الأقوياء والضعفاء، الأغنياء والفقراء، المرضى والأصحاء، فلزم عن هذا إذا أن يكون للحكومة حق التداخل لرفع ظلم القوي عن عنق الضعيف كلما شكا الضعيف من الظلم، أي أن وظيفة الحكومة الأصلية التي أعطت على نفسها بها عهدا إنما هي حماية الضعفاء من الأقوياء، أي: مقاومة ناموس تنازع البقاء.
فعلى الحكومة إذا لا أن تنزل الأقوياء من طبقتهم لمساواتهم بالضعفاء بل أن ترفع الضعفاء من طبقاتهم لمساواتهم بالأقوياء، وهذا أمر ممكن وذلك بالتعليم والتدريب والمساعدة، ومتى حصل هذا وصار جميع أفراد الشعب أقوياء بتربيتهم العمومية سقطت حجة الذين يقولون إن البشر نبيه وخامل، وإنه لا بد من تسلط الأول على الثاني كما قال الخطيب.
هذا ما نسميه إصلاح ظلم الطبيعة، على أننا لو كنا حيوانات ضارية نعيش في واسع البر لكان من المحتمل أن نترك الطبيعة تفعل فعلها الذي يحلو لها.
Bog aan la aqoon
ولكنني أؤكد لكم أننا لو كنا نعيش في الطبيعة كالحيوانات لما عاش بيننا كثيرون مثل نيوتن، فإن هذا النابغة كان ضعيفا في صباه إلى درجة الموت، ولم يعش إلا بعناية أمه وعناية الله، ولو عاش بين الأسبرطيين مثلا لكانوا قتلوه لأنه ضعيف لا يجدي نفعا فذهب ضحية ناموس بقاء الأفضل وتنازع البقاء، وأنتم تعلمون كيف قلب هذا الرجل العلم باكتشافاته العظيمة، وذلك يثبت أن ناموس بقاء الأفضل وتنازع البقاء قد يكون أحيانا ضد ناموس العمران.
2
بقي بعد هذا أن نسأل: ماذا يصنع الشعب بعد أن يقوى ويتعلم ويتدرب؟ هل يعود للاستخدام كالرقيق أم يذهب ويستخدم هو نفسه بعضا من إخوانه بني الإنسان ويكون سيدا عليهم فيعمل بذلك عملا كان هو نفسه يشكو منه؟ لا هذا ولا ذاك، بل على الحكومة حينئذ أن تسلمه معامله ومصانعه ومتاجره ومزارعه، أي أن تشغله فيها تحت إدارتها هي ومراقبتها، وتوزع أرباحها عليه، وفي شيخوخته تعين له راتبا صغيرا يكفيه حتى لا يموت جوعا: هذه كل مطاليبهم أيها السادة، فإذا عرضنا هذه المطاليب على بدوي ساذج لم يدخل المدن قط لاستغرب أن يوجد بين البشر قوم ينكرونها.
يقولون: إن حق الملكية لا ينقض، ولكن لماذا تنقضه الحكومة يوم تقرر نزع ملكية الأراضي والأملاك التي تحتاج إليها في مقابلة تعويض تعطيه لأصحابها، فالمعامل والمصانع والمتاجر والمزارع تنزع ملكيتها ويعطى أصحابها تعويضا عنها.
يقولون: إنه إذا قسمت الأموال والأملاك بين الناس على السواء فإنها تعود تجتمع في أيدي المدبرين المقتصدين، نقول: ليس أحد يطلب قسمتها بالسواء فإن هذا وهم وافتراء علينا وعلى العمال، وإنما نطلب وقف المصانع والمزارع والمتاجر والمعامل للأمة وقفا لا يجوز بيعه وشراءه لأنه للجمهور، وليس يجوز للجمهور أن يتمتع بسوى ريعه، وتكون الحكومة الوكيلة العظمى لهذا الوقف العظيم.
يقولون: إن ذلك يضعف الهيئة الاجتماعية لأنه يجعل الأقوياء ضعفاء، نقول: بل بالعكس إنه يقوي الهيئة الاجتماعية لأنه يجعل الضعفاء أقوياء.
يقولون: إن ذلك يهدم التجارة والزراعة والصناعة من قلة الإقدام حينئذ عليها وتقييد صاحب العمل بآراء عماله، نقول: إذا كيف تنجح المشروعات الكبرى التي تديرها الشركات الكبرى، والحكومة أليست حاضرة للمساعدة، وهل نجحت الأعمال التجارية والصناعية والزراعية من غير تنشيط الحكومات ومساعداتها.
يقولون: إن المتاجر تكسد لأنها لا تعود قادرة على مزاحمة البضائع الأجنبية الرخيصة، نقول: إن بضائعنا ترخص أثمانها حينئذ بدل أن تغلو لأن الحكومة لا تطلب ربحا منها تخزنه في صناديقها.
يقولون: إن ذلك يضر بالحالة الحاضرة، فنقول: ولكن هل تريدون أن نخون المستقبل ونؤخره حفظا للحالة الحاضرة.
المستقبل، لقد عدنا للمستقبل، إننا نريد في المستقبل حياة أفضل من حياتنا الآن، فإن أعصاب الإنسانية الآن كلها متوترة متهيجة، كل واحد لا يأتمن أخاه على أقل الأشياء، كل واحد يحذر أخاه حذره من الذئاب الضارية، وما ذلك إلا لذلك المبدأ الملعون الذي انبث في نفوسنا وهو مبدأ تنازع البقاء، مبدأ طلب الفائدة للذات بكل الطرق وإن أضر ذلك بالغير ضررا عظيما، فنحن نريد بدل هذه الإنسانية المضطربة المتشنجة إنسانية هادئة مطمئنة متمتعة بأمن وسلام بنعم الأرض والسماء، وهذا لا يتم مع النظام الحاضر والحالة الحاضرة لأن الإنسان لا تهدأ نفسه ويسكن جأشه وتتلطف أخلاقه إلا إذا صار أمينا على رزقه، ولا أمن على الرزق ما دام الأقوياء متروكين على الضعفاء يمتصون دماءهم والضعفاء يزمجرون ويزبدون في سرهم حسدا وطلبا للنقمة.
Bog aan la aqoon