لقد وجد كل من اشترك معي في كتابة البيان عذرا، ولم يوقع واحد منهم على البيان الذي اشتركنا في كتابته. وأصبح إرسال البيان عبثا. فأنا ونجيب نستطيع أن نمثل أنفسنا، ولكننا بحال من الأحوال لا نستطيع أن نمثل جميع المثقفين، وهذا هو نجيب محفوظ.
عين نجيب محفوظ رئيسا لمجلس إدارة مؤسسة السينما، وكانت له سيارة مخصصة من المؤسسة، وكانت ماركة مرسيدس، ولم يكن عند نجيب سيارة خاصة. فإذا هو في بساطة وفي تواضع يأبى أن يركب سيارة المؤسسة ويتركها لمن يليه في الوظيفة، وقد كان شيوعيا معروفا بشيوعيته، وشيوعيته لم تمنعه من ركوب السيارة، ولا يفوتني أن هذا الرجل من خيرة الناس الذين عرفتهم رغم شيوعيته.
ولكن هذا هو نجيب محفوظ.
بيان البيان:
وقد مرت بي وبالأستاذ نجيب محفوظ وبعميدنا الأستاذ الكبير توفيق الحكيم تجربة فريدة في يناير عام 1973م، وقد رأيت أن أثبتها هنا ما دمت قد تعرضت لنجيب، فمن الطبيعي أن نذكر أحداث هذا البيان الذي عرف وقتها باسم بيان توفيق الحكيم ونجيب محفوظ وثروت أباظة. وقد كتبت ظروف هذا البيان للذكرى، وإني أنقلها مما كتبت في ذلك الحين، كنت أكلم توفيق بك في التليفون، فطلب إلي أن أذهب إليه في الغد؛ لأنه كتب شيئا ويريد أن يطلعني عليه. فلما كان الغد ذهبت إليه في مكتبه في الأهرام، ولم أكن عينت به بعد، فوجدت عنده إبراهيم منصور ووظيفته الرسمية شيوعي، وكان الأستاذ نجيب محفوظ في مكتبه الخاص بالأهرام مشغولا بحديث إذاعي. وحين جلست إلى توفيق بك قرأ علي بيانا أعده يعبر عن أفكار طالما تحدثنا فيها سواء في سميراميس أو في بترو بالإسكندرية أو في غرفته في جريدة الأهرام، ووجدت البيان معبرا تماما عن رأينا، ولم أعدل فيه شيئا إلا أنني طلبت حذف بعض الجمل في صدر البيان تتحدث عن أمجاد رئيس الجمهورية وعظمة تاريخه الوطني، وأذكر أنني قلت: لا داعي لذكر هذا التاريخ. وقبل توفيق بك حذف هذه الجمل، وخرج البيان في صورته التي ظهر بها.
أرسل توفيق بك البيان ليكتب على الماكينة، وفي أثناء انتظاره سألت: «من الذي سيوقع على البيان؟» فأخرج لي إبراهيم منصور قائمة بالذين يتوقع أن يوقعوا على البيان، وحين قرأتها وجدتها جميعا من الشيوعيين، فقلت له: «إن البيان بهذا الشكل سيكون معبرا عن رأي الشيوعيين وحدهم، ولا يكون معبرا عن رأي الأدباء والكتاب الذين جاء في صدر البيان أنه يعبر عن رأيهم.» وسألني إبراهيم منصور: «ومن ترشح للتوقيع غير هؤلاء؟» قلت: «أرشح كثيرين.» وأمسكت بورقة، وكتبت فيها أسماء تزيد في عددها عن الأسماء التي كتبها، وجميعهم من غير الشيوعيين. وأذكر أنه في أثناء النقاش سألني عن بعض أسماء من التي كتبها إن كنت أعتقد أنها شيوعية، فقلت: «نعم، إنهم شيوعيون.» فقال : «وماذا تفعل إن كان الكتاب شيوعيين؟» فقلت له: «هذا غير صحيح، فأغلب الذين ذكرتهم ليسوا كتابا بالمعنى المفهوم، وإنما هم نقاد؛ أما الكتاب فقلة بين الشيوعيين والأغلبية الكاثرة من الكتاب الخلاقين لا يدينون بالشيوعية.» وحينئذ سألني عمن أرشح، فكتبت الأسماء، فقال: «هل تعتقد أن هؤلاء سيوقعون البيان؟ قلت: أنا لا أدري ما يمنعهم من توقيعه.»
وجاء البيان وكان الأستاذ نجيب محفوظ قد فرغ من حديثه الإذاعي، فانضم إلينا في غرفة الأستاذ توفيق الحكيم. وراجع الأستاذ توفيق البيان، فوجد فيه بعض أخطاء مطبعية رأى أن يصلحها، وكنت على موعد أزف، فسألته: هل سيغير شيئا في الصفحة الأخيرة؟ فقال: «لا.» فقلت: «إذن أوقع أنا وأذهب إلى موعدي. ووقعت البيان مراعيا أن أترك مكانا لمن هم أكبر مني سنا ليوقعوا قبلي، وتركتهم، وذهبت إلى موعدي.»
حاولت في يوم الإثنين 8 يناير أن أتصل بالأستاذ يوسف السباعي لأخبره عما فعلنا، فلم أجده.
شغلت في يوم الثلاثاء ببعض شأني، وذهبت يوم الأربعاء 9 يناير إلى مكتب توفيق بك بالأهرام. فوجدت نجيب بك محفوظ وعبد الحكيم قاسم، ودار بيننا حديث لا أذكر تفاصيله إلا أنني أذكر منه أنني قلت إننا يجب أن نرسل البيان إلى جهات رسمية، حتى لا يتخذ شكل المنشور، وسأل عبد الحكيم قاسم: «وماذا يضر لو أصبح منشورا؟» فقلت: «هذا عمل لا يليق بنا، ونحن نعمل عملنا في وضح النهار، ولا نعمل شيئا من شأنه أن يخفى.» وأذكر أيضا أنني قلت: «إننا يجب أن نختار الأسماء التي توقع على البيان؛ فالاسم الذي يحمل تاريخا غير الأسماء الصغيرة.» ولكن يبدو أن هذا الرأي كان متأخرا؛ لأن إبراهيم منصور كان قد جمع فعلا أغلب التوقيعات التي رشحها في بادئ الأمر.
وقال توفيق بك: «لقد رشحت أسماء للتوقيع.» فقلت: «إنني قادم خصيصا لأخذ النسخة التي سيوقعون عليها.» وقلت: «إن الأستاذ عبد الحميد جودة منتظرني في مكتبه؛ ليوقع على البيان ، وسأذهب بعده إلى الأستاذ يوسف السباعي.» فقال توفيق بك: «عظيم.» وأعطاني نسخة من البيان. فطلبت منه أن يوقع عليها ، فقال: «لقد وقعت.» فقلت: «ولكنك لم توقع هذه النسخة، ولا بد أن توقعها أنت ونجيب بك.» ووقع توفيق بك ونجيب بك، ووقعت وطلبت من عبد الحكيم قاسم أن يوقع فتحرج قائلا: إنه قادم ليوقع، ولكنه كان يفكر أن يوقع على الصورة التي مع إبراهيم منصور. فقلت له: «إنه لا فارق بين الصورتين.» ووقع عبد الحكيم قاسم، وهممت أن أدع الغرفة، ولكن توفيق بك استوقفني ليحملني رسالة إلى الأستاذ يوسف السباعي في مكتبه، وأخبره توفيق بك أنه وقع بيانا هو ونجيب بك وثروت، فقال يوسف بك: «وأنا أوقعه.» وأعطاني السماعة، فقال يوسف بك: «ما دمت وقعت البيان، فإني أوقعه.» فقلت: «أنا قادم إليك.» فقال: «أنا منتظرك، وليس معي سيارة، وسأنزل معك لتوصلني إلى نادي القصة.» فقلت: «أنا في الطريق.» ونزلت وذهبت فورا إلى دار الهلال، فوجدت يوسف بك ومعه السيدة سكينة السادات. وقال يوسف بك إنه علم أن الأستاذ توفيق الحكيم كتب بيانا في غاية العنف، فقلت: «أنا لا أرى هذا الرأي.» وقدمت إليه البيان، وقرأه، فرأى أنه فعلا عنيف، وقدم البيان إلى السيدة سكينة السادات، وقرأته، فإذا بها تثور، وتقول: «أين كنتم قبل اليوم؟ وأنا سأخبر نجيب محفوظ أنه ما كان يجوز له أن يوقع مثل هذا البيان، وأي جديد في أن البلد تغلي، الكل يعرف أن البلد تغلي، وهذا كلام لا يصح أن يكتب.» وقال لها الأستاذ يوسف السباعي: «اتركي لي الموضوع، فليس من المفروض أن تكوني قد قرأت البيان.» فقالت وهي ثائرة: «أنا لا شأن لي، وسأترككم.» وخرجت دون أن تهدأ ثورتها، وقال يوسف بك: «كيف توقع بيانا كهذا؟» قلت: «أنا لا أرى فيه شيئا.» وسألني: «أين توفيق بك؟» فقلت له: «في مكتبه.» وكلمه يوسف بك، وقال: «إن الرئيس لو قرأ البيان لصعق، وعلى كل حال ما حاجتك أن تكتب هذا البيان؟! تستطيع أن تقابل الرئيس، وتقول له ما تشاء.» ووافق توفيق بك، واتفقنا على أن يذهب توفيق بك ونجيب محفوظ في صحبة يوسف بك إلى الرئيس لمقابلته وإبلاغه فحوى البيان، وطويت أنا البيان، ونزلت دون أن ينزل معي يوسف بك، فقد عدل عن الذهاب إلى نادي القصة.
Bog aan la aqoon