وكبرت رغبتي في الوصول إلى هذا الصندوق بل أصبحت كلما دخلت غرفة جدتي ألعب حول الدولاب الذي يستقر فيه الصندوق، أملي ومطلبي، لم أكن أفكر فيه إلا لأنه الشيء الوحيد الذي منعتني عنه جدتي، وحين كبرت بعض الشيء وذهبت إلى المدرسة ووجدتني أقلب في كراسات وأكتب فيها وأقرأ، أصبحت أعجب من نفسي أنني لا أبكي كما تبكي جدتي حين تنظر في كراستها، وهكذا أصبح الصندوق والكراسة التي تستلقي في أحضانه سرا عجيبا لا يفارق ذهني غموضه ولا يكف تفكيري عن محاولة الوصول إلى حقيقته واستجلاء ما يخفيه من أسباب تستجلب هذه الدمعات إلى عيني جدتي، إنني أقرأ فلا أبكي فماذا يبكيها هي، إنني قد أبكي حين أعجز عن القراءة وتمتد عصا المدرس إلي ولكنني حين أقرأ لا أجد ما يبكي، ولقد حاولت مرارا أن أثير في نفسي مكامن الدموع حين أقرأ فإذا الدموع جامدة وإذا البكاء عصي عنيد لا يسعفني فيزداد سر جدتي وصندوقها استغلاقا علي.
وفي مرة فاجأت جدتي وهي تقفل كراستها وقد بلغت مرحلة الدموع وراحت دمعات تنهمر على وجهها الناصع البياض تركت فيه آثار السمن الذي أصبح نحافة وآثار السنين التي مرت غضونا كثيرة.
ونظرت إلى جدتي مليا وسألتها: لماذا تبكين؟
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي ألقيت فيها هذا السؤال ولكنها كانت دائما لا تقول شيئا سوى أن تنظر إلى صورة جدي التي علقتها بحيث تظل رانية إليها من أريكتها التي لا تكاد تتركها، ثم هي تتمالك أمر نفسها في سرعة حازمة وتحيد عن السؤال الذي ألقيته وتقدم بين يدي قربانا جديدا مما تحفظه عندها لألعب به وأحطمه، وكنت دائما أنخدع بهذا القربان عن السؤال الذي أبحث عن جوابه وأنصرف إلى ما قدمته إلي ألعب به أو أحطمه حسبما يقضي الحظ. وفي هذه المرة حين سألت جدتي أجابتني بنفس طريقتها وقدمت إلي كراسة وقلما وقالت: اكتب هنا ما تعلمته اليوم.
وكنت قد أعددت نفسي ألا أنخدع، إلا أن الهدية كانت شيقة؛ فقد كنت أحب الكراسات حبا عارما لا أدري لماذا؟ ألأنني ظللت سنوات عديدة أهفو إلى كراسة جدتي أم لأن شكل الكراسة الجديدة كان أثيرا عندي دائما؟ لا أدري! ولكن الذي أذكره أنني خدعت في هذه المرة أيضا وتناولت الكراسة ورحت أهوش صفحاتها بحروف ما تلبث أن تصبح رسوما، وقامت جدتي إلى الدولاب فأودعته صندوقها وعادت إلى جلستها وراحت ترنو إلي وأنا أكتب أو ألهو في كراستي التي كانت جديدة، وكان لا بد لعينيها أن تتجها إلى ما أخطه في الكراسة وثبتت نظرتها في كتابتي فترة طويلة ثم قالت: هشام، أتعلمني؟
ونزل علي السؤال كحدث مفاجئ لم أتوقعه ولم أجد بين شفتي إلا: ماذا؟
فعادت جدتي ترنو إلي في ابتسامة طيبة ودود وقالت: أتعلمني؟
قلت لجدتي وأنا أضحك: أتضحكين علي ؟
وظلت ابتسامتها الطيبة على وجهها وهي تقول: لماذا؟
فقلت في براءة: إنك تقرئين الكراسة كل يوم وتبكين.
Bog aan la aqoon