وعاد الذعر إلى الأم: ماذا، ألا تريدها؟ - بل أريدها. - فهي لك. - لا، لا أريدها هكذا. - وكيف تريدها إذن؟ - إذا قبلت أنت أن تزوجيها لي فمعنى هذا أنك أنت ترضين عني، أو أنك ترضين عن الوظيفة التي أشغلها والمرتب الذي أناله وأنا أريد أن ترضى هي، وأن ترضى برغبتها الخالصة دون أي تأثير منك أو من عمي.
وعادت الإشراقة إلى نفس الست؛ فقد كانت تدرك ما تعانيه ابنتها من مخاوف.
وكان الزواج، وأقبلت هبة عليه إقبالة خائفة أول أمرها؛ فما تدري ما مصيرها مع شخص لم تفكر يوما أنه سيكون زوجها وإنما هو ابن العم الخجول، والمحب الواله الذاهل إذا نظر إليها. ما الزواج من رجل لم تره إلا فاغرا فاه من الدهش، والفم الفاغر لا ينطق فهو لا ينطق، أتراه يتضح عن رجل يجيد فن الحياة كما يجيد أن يفرج شفتيه، وكما يجيد أن يطيع الرؤساء وينفذ أوامرهم؟ أتراه، يحسن من الحياة ما يحسن من الوظيفة؟!
وأقبل مسعود على الزواج إقبالة مذهول أيضا؛ فقد كانت الآمال - إن شاءت هذه الآمال أن تبلغ به أقصى غاياتها - تهيئ له أنه يستطيع أن ينال من هبة نظرة رضا. أما أن تهب له ابتسامة عطف أو حتى ابتسامة بغير عطف أما هذه فإن آماله لم تجرؤ أن تصل إليها، ولكنه اليوم ينال هبة بجميعها بابتساماتها بل بقبلاتها، ماذا؟ نعم بقبلاتها بل بكل شيء بل والأعجب من هذا أنها لا تستطيع أن تمنح إنسانا آخر في العالم ما تمنحه له من نفسها، ولا استثناء من هذه القاعدة. لا ينال إنسان آخر في العالم ما يناله هو من هبة، لماذا، ماذا أنا، وماذا أصبحت حتى أنال كل هذا الهناء، أتراها تحبني أم أنها ...؟ أم أنها ماذا؟ ما الذي يجعلها تقبلني زوجا إن لم تكن تحبني أتحبني، وما لي لا أسألها؟ عجيب أمر الناس. أتراها ستقول لي أكرهك إن كانت تكرهني، وإن كانت تكرهني وكانت عندها الشجاعة التي تقول لي أكرهك أتراني أصدقها؟ سأقول لنفسي حينئذ، لا، إنما هي تريد أن تلهب حبي لها ولا يمكن أن تكرهني؛ فإن أحدا لا يصدق أن من يحبها تكرهه، وترى هل أصدقها إن قالت إنها تحبني، أتراني إذا خلوت إلى نفسي أصدق من أعماق قلبي أنها تحبني؟! عجيب أمر نفسي هذه، كثيرة الشكوك لا تصدق ما يحلو لها، ولا تصدق ما يسوءها، دائمة الحيرة عديمة الاطمئنان ثائرة متقلبة. وكيف لها أن ترضى أو تطمئن وهي لا تدري ماذا يرضيها، وهي لا تدري أين الحقيقة في مشاعر من تحب، بل هي لا تدري إن كانت تريد هذه الحقيقة أم لا تريدها، فما كنت لأسعى إلى معرفة الحقيقة لو أن معرفتي هذه ستنتهي بي إلى أن هبة لا تحبني، أنا لا أريد حقيقة المشاعر؛ فالمشاعر لا سبيل لي إليها، وإن كان هناك سبيل فأنا لا أريده، أنا أريد الواقع دون الباعث إليه، أريد ما أراه أمامي ولا أريد أن أعرف لماذا يحصل. ما لي وللنفوس وما تخفيه، إنها أحراش وغابات تستخفي بين شعابها الكثة وحوش أشد ضراوة وفتكا من وحوش الغابات والأحراش، ما لي وللنفس وما تخفيه، إن هبة زوجتي ويكفيني منها أنها زوجتي، ويكفيني من الحياة أنني زوجها.
وفي اندفاعة محمومة هالعة استبق مسعود الأيام ليتم الزواج، فما هو إلا بعض زمن حتى كانت هبة ومسعود في بيت واحد، ولم يستطع مسعود على رغم ما ناقش به نفسه من كذب وصدق، لم يستطع إلا أن يسأل هبة: هبة، هل تحبينني؟ - لقد تزوجتك. - ليس هذا جواب سؤالي. - بل إن سؤالك لن يجاب بأبلغ من هذا. - قد تتزوجينني دون حب. - لو كنت نشأت في بيت غير بيت أبي لجاز لك أن تقول هذا. - لا أفهم. - أنت تعرف أن أبي لا يمكن أن يفعل شيئا لا أرضى عنه فكيف يزوجني دون رضائي؟ - قد ترضين أن تتزوجي مني ولا تستطيعين أن تحبيني. - هراء، إن الزواج أشد قوة من الحب. - فأنت لا تدرين الحب، أنا أحبك حبا لا أجد شيئا في العالم أقوى منه. - بل إنك أنت الذي لا تعرف الحب، إنني حين أقبلك زوجا أضع حياتي وحياة أولادي كلها أمانة بين يديك وليس في العالم حب أقوى من هذا. - إذن فأنت ... - لقد تزوجتك، أليس كذلك؟
ولم تكن هبة كاذبة فيما ظهرت به من حب؛ فهي منذ تزوجت مسعودا وهي تقنع نفسها أنها تحبه، ولما كانت نفسها ذات إباء وكبرياء فقد سرعان ما صدقت أنها تحبه، بل إنها زادت فاقتنعت أنها تحبه منذ هما طفلان، وهكذا اطمأنت هبة أنها لم تتزوج زيجة ملهوفة تخشى أن يفوتها القطار فهي تتعلق بالعربة الأخيرة منه، وإنما هي تتزوج زواجا تقوم أسسه على الحب، وأنها إنما تستقل من القطار أوفى عرباته راحة تصعد إليها في لا عجلة لاهفة ولا اندفاعة طائشة هالعة، إنها تصعد مطمئنة الخطوات على ريث من أمرها وتدبر هادئ مستريح. فهي إذن تحبه وهي لأنها تحبه تتزوج منه، اقتنعت ومر عام، بل لم يكد عام أن يمر، ودخلت هبة إلى زوجها حجرة مكتبه وعلى كتفها طفلهما الأول سعيد وقالت هبة وهي تغالب الدموع أن تنفجر من عينيها: هل أستطيع أن أكلمك؟
ودون أن يرفع رأسه عما يقرأ قال: تفضلي. - تذكر يوم زواجنا؟
فقاطعها: لا زلت تذكرين؟
وقالت في غيظ مكبوت: ليس الوقت طويلا على كل حال. - لقد جاء في أثناء هذا الوقت ولد بأكمله. - نعم، ولكن ليس الوقت طويلا مع ذلك. تذكر أنني قلت لك إنني أضع حياتي وحياة أولادي أمانة بين يديك. - نعم، وها أنت ترين أني أعمل ليل نهار لأوفر لك ولسعيد كل أسباب السعادة. - لقد نسيت أن بين طوايا حياتي هذه التي أودعتها أمانة في يديك كرامتي. إنها أعز ما تضمه حياتي من مقومات. - فلسفة عالية علي. - بل حقيقة إن كنت تجهلها فأنت تجهل الكرامة. - وهل مسست كرامتك؟ - أولا هذه اللهجة التي تكلمني بها. - ما لها؟
وعلا صوتها في غيظ: أنت تعرف ما لها وإلا فأنت تقبل أن يكلمك بها الناس. - لعلي كنت مشغولا، على أنني لم أقصد أن أمس كرامتك، ألمثل هذا ... - لا تكمل. لقد أردت أن أنبهك إلى شيء أخطر من ذلك، أنت تخرج مع سكرتيرتك.
Bog aan la aqoon