وقدم لي مرة مصري انتهى من دراسته وسيعود إلى الوطن، قدم لي صديقته الفرنسية والتي كانت تدرس الموسيقى؛ ففرحت لأننا سنتعاون معا على دراسة هذا الفن، وأين سيكون التعاون إلا في منزلي أو في منزلها. فجاءت إلى منزلي مرة لكي ندرس النوتة الموسيقية، وتأخر الوقت فقالت: «لقد تأخر الوقت، أحب أن أقضي الليلة هنا.» لم أفهم جيدا ماذا تعني! فاعتذرت وقلت لها «إن المترو ما يزال يعمل»؛ فخرجت محبطة.
وبعد وقت ليس بالطويل فهمت قصدها، وكنت أنا في طريقي للتغير من الحب العذري إلى الحب ما بعد العذري؛ فذهبت إليها لكي نكمل دروس الموسيقى، واعتذرت لها عما بدر مني عندما كانت عندي؛ ففرحت. وتركت الموسيقى، وتهيأت إلى غيرها. وكانت تلك المرة الأولى التي يتم فيها هذا التحول عندي.
وفى شهر أغسطس كانت المدينة الجامعة الرئيسية في «بولفار جاردان» تغلق لعدم وجود طلبة وطالبات في هذا الشهر. وهي قمة الإجازة الصيفية، ويرسل الطلبة الباقون إلى مدينة جامعية أخرى في جنوب باريس في الطريق إلى مطار «أورلى» الأول قبل بناء مطار «شارل ديجول» في شمال باريس. وكانت المدينة تسمى «أنطوني». ويعطى لكل طالب وطالبة غرفة بديلة عن غرفهم في المدينة الجامعة المغلقة، وكان جاري بالمصادفة أفريقيا طويلا ورفيعا. جاءته صديقته الفرنسية الطويلة البدينة في نهاية الأسبوع ولم تجده في الغرفة. وبعد أن نقرت على الباب عدة مرات ولم يفتح لها، نقرت على بابي؛ لتسأل عن صديقها الجار الأفريقي؛ فأخبرتها بأنه ربما ما زال في المطعم وأنه سوف يحضر حالا، وبدلا من أن أدعوها للجلوس في غرفتي انتظارا لصديقها تركتها واقفة على الباب وهي متململة حتى جاء جاري وشكرني على حسن الرعاية لصديقته ، وظللت أفكر هل هذا الشكر سخرية مني لأنني لم أدعها للانتظار عندي، وتركتها واقفة على باب غرفته؟ أم أنه شكر حقيقي؛ لأنني أخبرتها أنه سيأتي حالا، وجعلتها تنتظر حتى لا تتركه وحيدا في نهاية الأسبوع؟ وأنا على مكتبي أكتب الصياغة الأولى للرسالة. وحزنت على نفسي أنني في نهاية الأسبوع أعمل ولا أروح عن نفسي مثل جاري.
وفي المساء عندما أظلم الليل وجدت نافذة في المنزل المقابل للمنزل الذي أقيم فيه تطل منها فتاة برأسها، وكان على مكتبها مصباح. وكانت تعمل مثلي. فأطفأت مصباح غرفتي وأشعلته عدة مرات؛ فقامت هي بنفس الشيء، أطفأت مصباحها وأشعلته عدة مرات. وكان يمكن أن أشاور بيدي أن تأتي إلي في المدينة الجامعية والتي كان يسهل الوصول إليها عن طريق كوبري علوي فوق الطريق السريع. وظللت أقوم بهذه اللعبة إطفاء المصباح وإشعاله عدة مرات حتى ضجت وأنزلت ستار شباكها. كنت قد تعلقت بها دون أن أراها ودون أن تراني، واكتفيت بلعبة الأطفال.
وفي البيت الألماني تعرفت على صديقة أمريكية في المدينة الجامعية، وبما لدي من خبرة سابقة دعوتها إلى غرفتي لكي نتناول معا القهوة؛ فاستجابت، وبمجرد دخولها الغرفة وضعت يدي عليها، وتم المراد دون أن ألمسها ثانية؛ فاستغربت، وخرجت محبطة، شقية. وانتابني أنا أيضا الإحباط والخجل، كل ذلك كان بمثابة خبرة اكتسبتها؛ فلقد خرجت من بيئة مصرية لا تؤهل للتعليم، وعشت أربع سنوات في فرنسا، والبيئة المصرية ما زالت تحاصرني.
ويوم الجمعة مساء من كل أسبوع يكون هناك حفل راقص غنائي موسيقي نقيمه في بدروم المنزل الألماني، وبعد أن نرسم حوائطه الزجاجية بكل الألوان والصور من إبداع الطلبة والطالبات، وكانوا يشربون البيرة، ويكتبون ما يشربون في بطاقة يتم دفع الثمن آخر الشهر.
فهاجت في نفسي موهبة الرسم، وكنت أقوم بالرسم على الحوائط الزجاجية رسومات خيالية لنساء ضاحكات، فاتحات الأذرع، منكوشات الشعر، متهيآت للقاء. وكان الطلبة والطالبات معجبين بهذا الرسم الخيالي، يحفزهم على الانبساط والفرح، وكذلك مدير المنزل الألماني الدكتور الجامعي كان سعيدا بهذه الموهبة، وأثناء الرقص والشرب والغناء والصياح، كنت أجلس بجانب المائدة الصغيرة، وأنا أنظر إليهم. فشدتني طالبة وقالت لي: «لماذا أنت جالس هكذا؟ قم، تعال ارقص معي!» قلت: «لا أعرف كيفية الرقص.» قالت: «سأعلمك.» فقمت بين ذراعيها تتجه يمينا وأنا يسارا. فإذا اتجهت يسارا، اتجهت أنا يمينا؛ فتعجبت من هذا الريفي المثقف! لأن صورتي في المنزل كانت العاشق للندوات الثقافية والتي كنت أحرص على حضورها وتنظيمها؛ لأنني كنت الفيلسوف الوحيد في هذا المنزل. وكانت تناديني «يا ابني» حتى تشجعني كما تشجع الأم ابنها وتبتسم، وكانت هي التي تتبع خطواتي، وفي آخر الحفل تنتظر حتى تأتي مرحلة ما بعد الرقص، وإطفاء الأنوار، ولكنني وقفت ساهما لا أتحرك نفسيا؛ لأنني لم أقاوم من أخذ حبيبتي مني!
ويوم السبت مساء يجلس طالب أو طالبة في مدخل المنزل على مكتب الاستقبال، يغلق باب المنزل بعد العاشرة مساء. فإذا أتى طالب أو طالبة متأخرا يدفع غرامة تبلغ قيمتها فرنكا واحدا نظير أن يفتح له الباب، وكان دخل من يفتح الباب حوالي خمسة فرنكات في الليلة.
وكان الطلبة والطالبات يحبون الجلوس على مكتب الاستقبال خاصة نهاية الأسبوع؛ لأن المتأخرين كثيرون، أما وسط الأسبوع فلا يأتي أحد متأخرا؛ نظرا لحضور المحاضرات في الصباح المبكر والعمل بجدية. وينال جائزته فقط في نهاية الأسبوع.
وكنت من الذين يجلسون في نهاية الأسبوع على مكتب الاستقبال؛ كي يزيد دخلي واعتدت شرب «البيرة» في هذه الحفلات الراقصة دون أن أدون ما أشرب في البطاقة لضعف دخلي الشهري.
Bog aan la aqoon