ومرة تشجعت وخرجنا معا إلى ميدان العتبة، أنا أفندي يرتدي البدلة وهي فتاة بالملاية اللف، ذهبنا إلى محل تصوير، الذي أخذ لنا صورة معا. وعدنا إلى باب الشعرية. فكان هذا أقصى طموح لنا. ونحن عائدان كانت تنظر إلى الأرض وأنا أكلمها دون أن أراها. وسمعت أحد المارة من أولاد البلد يقول مشاكسا: «مش كدا يا واد» فقلت في نفسي: وماذا فعلت؟ وبماذا أجرمت؟
فعلم الوالد بالحبيب الصغير؛ فنهرني وقال: «إنني أخاف على أخوتك البنات منك!» ولم أفهم ماذا يعني بقوله! ولكنه خاصمني، وأنا شعرت بالخجل.
كان أبوها جزارا يقلي الكبدة في مدخل درب الشرفا، الناحية الأخرى من شارع البنهاوي. فكانت الحبيبة تدق الثوم في فناء المنزل وتغلي الكبدة ويأخذها الصبي من البيت إلى المحل .
وجاءها عريس ذات يوم فقبلت به عائلتها، ويوم الفراق عندما غادرت إلى منزل زوجها كانت تغني: «على عيني فايتاك». وكان الجيران يقولون: «كفاية دق بالهون بكرة عريسك يدقك بالهون.» ولم أفهم كل ذلك ؛ لأن الحزن والشقاء كانا يخيمان علي، وما زلت أذكرها حتى الآن بأنها أول حب عذري عشته بعد مرحلة البلوغ. وأتساءل: أين هي الآن؟ هل ما زالت شابة أم أصبحت عجوزا؟ هل هي أم فقط أم أصبحت جدة أيضا؟ وقد بدأ هذا الحب العذري عام 1952م وكان عمري وقتها سبعة عشر عاما. وانقضى حوالي سبعون عاما وأنا ما زلت أذكرها؛ لأنها هي التي عرفتني بجمال المرأة، وبعد أن غادرت إلى منزل زوجها كنت أرى وجهها في كل امرأة حولي من الجيران.
وكان في المنزل المقابل امرأة صغيرة الحجم، ولكنها ضاحكة، عيناها تبرقان، وابتسامتها جذابة. فكنت أنظر إليها من خلال الشباك، وأشعر كأنها تقول: لا تحزن على فراق حبيبتك؛ فالنساء كثيرات، وأنا واحدة منهن. كان الوصول إليها يقتضي عبور العطفة للناحية الأخرى، وهذا ما لا أستطيعه احتراما لزوجها، فكنا نكتفي بالنظرات دون الكلمات؛ لأن الكلام كان يقتضي منا رفع الصوت.
1
وأنا صغير قبل أن أنام كنت أسمع والدي يقول لوالدتي قومي أطفئي الأنوار، فكانت تفهم ما يريد. ولم تكن هناك أنوار أصلا كي تطفئها. وكان يقوم وراءها في الغرفة الصماء بلا نوافذ، ويدخل الغرفة وكان هناك «ماجوران» ومقلوبان على الوجه نضع فراشا على قاعدته. ويبدو أنهما كانا يفعلان شيئا ما، كنت أشعر بذلك. وبعد مدة قصيرة أسمع صوت صنبور المياه يتدفق للاغتسال. حيث كانت شقتنا تتكون من صالة وأمامها الغرفة المصمتة، ثم يليها الغرفة التي تطل على السطح ويسارها الغرفة المطلة على الشارع.
وكانت هناك امرأة أخرى مطلقة تسكن في أعلى المنزل، جميلة ذات أنوثة فياضة، جسمها بض أبيض، تخرج في الصباح، وتعود في المساء؛ فقد كانت تعمل لتعول نفسها وأسرتها. وكان ابن الفران أكثر جرأة مني. ينتظرها في الصباح وهي ذاهبة لعملها تحت بير السلم، أو عند عودتها من العمل. ينتظرها تحت بير السلم كي يقبلها. وأنا أيضا معجب بها ولا أعرف كيف أحيطها علما بإعجابي. فوقفت أراقبها من النافذة وهي ذاهبة لعملها، فصببت عليها كوبا من الماء. فرفعت رأسها إلى أعلى تتعجب من هذا الحبيب الساذج، ثم وقفت على ساق واحدة لكي تمسح الماء من على الساق الأخرى. ولم أجرؤ بعد ذلك على فعل أي شيء تجاهها، سمعتها مرة وهي تقول في حفل زفاف شقيقها، وكانت واقفة على السلم «على سنجة عشرة» قائلة: «اللي يقولي تعالي دلوقتي مش هاقوله لا.» فرحت بهذه الكلمات، ولكني كنت لا أجرؤ أن أقول تعالي دلوقتي. فأين ومتى وماذا أفعل معها؟ كل ذلك حرك في ذهني حاجات المرأة، وخيبة الرجل. ومرة ثالثة كانت هناك امرأة أرملة تسكن فوقنا، وجاءت عندنا لتأخذ شيئا من السطوح، فوقفت جانبها لتصعد على الكرسي ومنه إلى السطح، فكادت أن تقع، فأمسكتها. وكانت هذه أول مرة أشعر بصدر امرأة بالرغم من أنها كانت ترتدي جلبابا أسودا فضفاضا.
وفي الجامعة في السنة الأولى التي كانت تضم أقسام علم النفس والفلسفة والاجتماع معا، وحتى السنة الثانية، ولا تفترق الأقسام إلا في السنتين الأخيرتين؛ الثالثة والرابعة. ففي السنة الأولى رأيت طالبة لها نفس المواصفات التي أحببتها في بنت الجيران؛ الجمال والرشاقة مع بعض السمنة، والوجه الصبوح، والصدر البارز. كنت أجلس في الصف الأول من المدرج الكبير، وكانت هي تجلس في الصفوف البعيدة الخلفية. كانت فلسطينية اللهجة، وكان يأتيها شاب من كلية الحقوق ليصحبها، وكنت لا أدري إن كان حبيبها أو خطيبها أو قريبها أو صديقها أو جارها. لم تحن الظروف كي أبادر وأكلمها مطلقا، وعرفت فيما بعد أنها مسيحية، وكان العقاد في ذلك الوقت قد نشر «عبقرية المسيح»، فاشتريت نسخة، وأهديتها لها واضعا إياها على مكان جلوسها، وبعد وقت قصير رأيت النسخة قد انتقلت إلى مكان جلوسي والإهداء منتزع من الصفحة الأولى. فحزنت، وقلت لنفسي: «حتى العلاقات الثقافية هي لا تريدها!»
وكان لها ابنة عم أجمل منها بابتسامتها الساحرة، وصدرها البارز. وكان أستاذ علم الاجتماع يغازلها «من تحت لتحت». وكانت ترد عليه بدلال وخفة دم. وأتساءل: «فلماذا حبيبتي قاسية القلب هكذا؟» وكنت بعد ذلك في عمان بما يزيد على خمسين عاما. وعلمت صديقتي الأردنية بأن حبيبتي كانت وما زالت حبيبتي أيضا أيام الدراسة. فاتصلت بها وجاءت ونحن في المقهى أو في الفندق لا أذكر. ولم تسلم علي ولا كلمتني، وكان معها ذلك الشاب الذي كان يقابلها ويصحبها أيام الدراسة، وفكرت ربما كان زوجها! وحزنت أكثر لأن نصف قرن لم يغيروا طبعها. وغادرت دون أن تنظر في وجهي. وأنا أتعجب من قدرة «ذكريات» على تحريك العواطف، وهي سعادة كبيرة عندما يلتقي شخصان بعد نصف قرن على مرور أيام الدراسة، ولا أعرف كيف لا يحن أحدهما للآخر! صورتها ما زالت في ذهني، وخيالها ما زال في ذاكرتي، لم يمحها النسيان.
Bog aan la aqoon