وفى ليلة الزفاف الذي عقد بنادي التوفيقية بمدينة الأوقاف، وكان لأساتذة جامعة القاهرة حق الاشتراك في النادي بقيمة خمسة جنيهات سنويا. اشترى لنا يومها أخي «تورتة» متعددة الطوابق، وكان يدرس لابنة الفنانة مها صبري؛ فجاءت لتهنئته والغناء في فرحي كمجاملة منها لأخي، وكان الفنان المصري محمد العزبي زميلا لنا في مدرسة خليل أغا الثانوية. وكان يعرفنا جيدا ونعرفه، قابلته مرة مصادفة، وأبلغته بحفل زفافي؛ فأصر على أن يغني في حفل زفافي، وأتى وكان بجيبي خمسة جنيهات. وتساءلت: «هل أعطيها له فيصبح جيبي فارغا؟ أم أعطيه ثلاثة جنيهات، وأستبقى جنيهين؟» ففضلت الحل الثاني، ولم يعترض هو.
وبعد انتهاء حفل الزفاف حاوطني عمال النادي لأخذ البقشيش؛ فأعطيتهم الجنيهين المتبقيين، ودخلت منزلي بعد العرس مباشرة وجيبي فارغ تماما.
وصاحبنا مصور ليأخذ لنا صورا تذكارية، وهي الصور التقليدية التي يحمل فيها العريس عروسه بين ذراعيه. كان المصور نفسه هدية أرسلها صديق زوجتي والذي كان يعمل بالهيئة العامة للكتاب، ورفض المصور أن يأخذ أي إكرامية مع أني لم أكن أملك مالا أعطيه له، فكانت «عزومة مراكبية».
وفى صبيحة اليوم التالي أتى الأهل من العروسين لمجاملتنا، وأعطونا «النقطة». وكانت كثيرة بما سمح لنا أن نعيش شهر العسل منها، وعشت عامنا الأول من الزواج بأقل دخل ممكن، بضعة جنيهات في الأسبوع، طعامنا ومواصلاتنا وحليب طفلنا، وكنت أساهم في مصاريف الوالد والوالدة، كما كنت أفعل قبل الزواج، وكانت زوجتي الحبيبة تساهم هي أيضا في مصاريف أهلها، فقد توفي والدها ولم يبق لها إلا أمها وشقيقتها الوحيدة وأطفال شقيقتها، حيث كانت هي من تقوم بالصرف عليهم.
وكان هذا العام أصعب عام في حياتنا ولكننا كنا سعداء؛ فالحب يملأ القلب، والطموح يملأ العقل، والمستقبل واعد وموعود.
وظل الفقر السعيد يلازمنا خاصة بعد إنجاب طفلنا الأول، وكانت الجامعة تقدم لنا بطاقات للعلاج، تساهم الجامعة بالنصيب الأكبر منها ، فكان الطبيب يشرف على زوجتي الحبيبة، ويتابع حملها مرة كل شهر، وكانت عيادته بميدان التحرير، ولكنه قام بتوليدها بمستشفى الدقي، ورزقنا بطفلنا الأول في مارس 1971م. وجاءتني دعوة من جامعة تمبل بفيلادلفيا ولاية بنسلفانيا لأكون أستاذا زائرا هناك للفلسفة الإسلامية مع إسماعيل الفاروقي والذي انتقل إليها من جامعة سيراكيوز. وأبلغني رئيس الجامعة بأنه لا بد من قبول الدعوة والاختفاء بعيدا عن مصر؛ لأن محاضراتي مسجلة لدى الشرطة في قسم الدقي القريب من الجامعة، خاصة بعد النكسة والهزيمة في 1967م. وهو لا يستطيع أن يحميني إذا ما أنقضت علي أجهزة الأمن؛ فشكرته، وقبلت الدعوة.
أرسلت لي الجامعة بطاقة السفر، واقترضت لشراء بطاقة سفر لزوجتي الحبيبة من زوج أختي الكبيرة، أما ابني فكان ما يزال طفلا صغيرا.
ووجدت الصديق إسماعيل ينتظرني في مطار فيلادلفيا، ويأخذني إلى سكن الطلاب في مجمع يورك تاون، ثم انتقلت بعدها بعدة أشهر لمجمع الأساتذة بجواره في «كونى هول» حيث أقمت في الطابق الثاني، وكانت شقة واسعة بها غرفتان للنوم، وصالة متسعة، حوائطها زجاجية شفافة تطل على الفناء والحديقة أمامي، وكانت الأرضية خشبية. كان طفلي يضرب عليها بما يستطيع من أوان معدنية، فاشتكى الجيران من الضجة.
ولم يتوقف الفقر السعيد إلا بعد رجوعنا من الولايات المتحدة الأمريكية بعد أربع سنوات كاملة حيث كونت رصيدا يسمح بشراء سيارة، وكانت ماركة «نصر» بأربعة آلاف جنيه.
الفصل الثاني
Bog aan la aqoon