الفقر السعيد
نشأت في أسرة تحت المتوسطة وفوق الفقيرة؛ فعشت لا فقيرا ولا غنيا، ولكني كنت للفقر أقرب.
كان والدي شاويشا في الجيش المصري في «فرقة البيادة» أي الفرقة العسكرية الموسيقية التي تتقدم صفوف الجيش، وكان يلعب «الترمبون» وهي آلة نفخ طويلة، تتغير نغماتها بضم المنفاخ نحو الفم أو إبعاده عنه.
كان مرتبه أقل من عشرة جنيهات شهريا، ونحن أسرة مكونة من تسعة أفراد: الأب والأم، وولدان، وخمس بنات. وكانت والدتي تطلب منه أن يعزف بعد الظهر في فرق خاصة في الأفراح والملاهي الليلية أسوة بزملائه؛ كي يزداد دخلنا، وكان يرفض؛ لأن ذلك عيب لا يليق بموسيقي الجيش، ولا يستطيع أن يأخذ العدة الموسيقية من المعسكر إلى المنزل ثم يعيدها في الصباح، واغتنى زملاؤه من العزف ليلا بآلات الجيش ليزداد دخلهم، إلا والدي الذي فضل أن يكون فقيرا مكتفيا بمرتبه على أن يترك أسرته صباحا ومساء.
ولد والدي ووالدتي في بني سويف، وكان جدي والد الوالد تاجر دقيق، وله محل بجوار محطة القطار، ما زال موجودا حتى الآن، ساعدته في العمل زوجته الثانية النشطة بعد وفاة زوجته الأولى، وكان الحاج حسنين جدي أحمر الوجه، وليس أسمر كباقي سكان المحافظة، فلما سألته عن السبب قال لأنه نازح من الأندلس بعد خروج العرب منها، فاستقر في المغرب العربي، ثم نزح إلى مصر وهو في طريقه إلى الحج، وسكن حي المغاربة بجوار جامع الشيخ في الإسكندرية، ذهب إلى الحج وعاد واستقر في بني سويف.
ولدت شقيقتي الكبرى في بني سويف، وكان لجدتي أم أمي (الحاجة يامنة) أربعة منازل ريفية في وسط العاصمة، كل منزل من دورين، تعيش من دخلهما، كما كان لها بنتان؛ والدتي وخالتي، وابن ثالث توفي في حادثة لا أذكر كيف، غرقا أم انهيار منزل عليه.
ولما كبر والدي ووصل إلى سن الجندية أراد أن يزوجه والده قبل أن ينزح إلى القاهرة؛ فذهب إلى الحاجة يامنة وطلب منها ابنتها نبيهة لابنه. وكانت الطفلة نائمة، فكشفت جدتي الغطاء عن وجهها، ونظر إليها؛ فسألوه: هل تعجبك؟ قال: نعم. فاستيقظت أمي وكانت قد خطبت وتستعد للزواج.
وكانت منازل جدتي خلف المركز بجوار مدرسة زعزوع، وكان جدي والد والدي يقيم في آخر شارع الجبالي بالقرب من محطة القطار، وذلك قبل زواجهم.
أما خالتي فقد تزوجت عدة مرات ولكنها كانت عقيما، وكانت جدتي «يامنة» قد قسمت منازلها الأربعة على ابنتيها؛ نبيهة أمي، وخالتي أم عبد الله، وكانت خالتي تشتري بنصيبها أساور ذهبية ترتديها طوال الوقت؛ ولذلك طمع فيها الأزواج وهم يعلمون أنها عقيم ويتزوجونها طمعا في مصاغها.
أما والدتي فكانت تأتي بنصيبها إلى القاهرة، تعين به والدي على الصرف، واحتياجات الأسرة.
Bog aan la aqoon