ووضعت فيه فرنكا واحدا، وأخذت كارت الإقامة الذي يتجدد كل عام بنفس الطريقة.
وبعد أربع سنوات عدت إلى مصر لحضور حفل زواج شقيقتي المتوسطة فاطمة؛ إذ إن الشقيقة التي كانت بعدي، سعاد - أطال الله في عمرها - لم تكن قد تزوجت بعد. أما الشقيقة التي بعدي فقد كانت ما زالت تعد الدكتوراه. أما الصغرى فكانت ما زالت طالبة في مدرسة التجارة المتوسطة وليس المعلمات التي تخرجت منها جميع الإخوة البنات. فقررت أن أعود إلى القاهرة في صيف 1960م، وتركت غرفتي بالبيت الألماني للإيجار حتى أعفى من إيجارها الصيفي. وكان علي أن أشتري هدية لأختي العروس وباقي الأخوات وأخي والوالدين. وجاءت سامية أسعد من قسم اللغة الفرنسية التي كانت تسكن ببيت الطالبات بشارع بول ميش، يولفار سان ميشيل، وذهبنا إلى السوبر ماركت لافاييت عند سيفر بابليون، واشترينا أقمشة فساتين للبنات. وكان أحد الطلبة الألمان، كبير السن، قد قرر أن يذهب إلى مارسيليا بالسيارة، فذهبت معه كي آخذ السفينة من هناك إلى الإسكندرية، وكان يقود ليلا وبسرعة، فأرى الأشجار يمينا ويسارا تتوالى في ضوء كشافات العربة. أما أنا فكنت أنام بين الحين والآخر، فيوقظني غاضبا حتى لا ينتابه النوم هو أيضا. ووصلنا في الصباح، وذهبت إلى ميناء مارسيليا، وأخذت السفينة إلى الإسكندرية. وكان أخي بانتظاري والوالد والوالدة وزوج شقيقتي الكبرى سيد. ووصلنا إلى القاهرة، وكانوا قد غيروا السكن من باب الشعرية إلى العباسية، من شارع البنهاوي درب الشرفا إلى شارع أحمد سعيد في فيلا ذات دور واحد بحديقة مكثت فيها شهرين، وحضرت العرس. وأردت توزيع الهدايا على إخوتي فردا فردا، فأخذتها أختي العروس كلها بحجة أنها هي التي تحتاج إلى الأقمشة، ولم يحزن أحد. وفي ليلة العرس لبست شقيقتي الأكبر من العروس فستانا عاري الصدر، فرفض والدي وأخي، وأقنعتهما أن هذا طبيعي؛ فالأصغر منها تتزوج وهي الأكبر لم تتزوج؛ فلعل في هذا العرس يأتيها من يطلب يدها، وأنا قادم من باريس ولا حرج. وفي طريق العودة حيث كانت السفينة تتوقف ليلة في أثينا حيث يرى البحارة ذويهم، رأيت عبد المعطي شعراوي الذي كان يدرس فيها، وقضيت الليلة معه حتى عدت في الصباح إلى السفينة لاستئناف الرحلة إلى مرسيليا، ومن هناك أخذت القطار السريع إلى باريس، ولا يتوقف إلا في ليون بعد اختراع القطارات فائقة السرعة، أربع ساعات بدلا من ثمان.
وبعد العودة إلى فرنسا عام 1960م، والرجوع من مصر بعد رؤية العائلة، وحضور حفل زفاف شقيقتي فاطمة أحسست بتغير في نفسي في طريقة رؤيتي للعالم وسلوكي في الحياة؛ فبدلا من أن أبدأ بالفكر بدأت بالواقع، وهو ما سميته بعد ذلك «من النص إلى الواقع». وبعد أن كنت مثل باقي الإخوة المسلمين أتطلع إلى أعلى أصبحت أتطلع إلى الأمام. وهو ما سميته فيما بعد «من الفناء إلى البقاء». وبدلا من حرصي على الشعائر كمظاهر أبقيت على مضمونها الاجتماعي وهو ما سميته فيما بعد «من أحكام الشريعة إلى أحكام الوجود». وبدلا من أن أهاب وأخشى المرأة بدأت بالمغامرة معها والتعلم من التجارب معها. وبدلا من قراءة النصوص بدأت أعيش الحياة، التجربة الحية. وبدلا من حرصي على الصلاة اليومية أو الأسبوعية أصبحت حريصا على زيارة الأوبرا باعتباري طالب كونسرفتوار مجانا؛ فكان لطلبة الموسيقى بنوار خاص لخمسة أفراد. كنت أرى الطالب يأخذ صديقته الطالبة، تخلع حذاءها وهو يهرش لها قدميها، وأنا أبكي على حالي، وأحزن لثقافتي. ورأيت جميع الأوبرات، وشاهدت جميع المسرحيات، واستمعت إلى مقطوعات الموسيقى السيمفونية مجانا باعتباري طالبا في المعهد. ومرة وأنا أسمع حفلة موسيقية وضعت ما معي من كتب اشتريتها على الأرض، وأزيحها بقدمي تحت جاري، وهو يرجعها بقدمه تحتي حتى شخط في، فأدركت قبح ما فعلت.
وعرفت طبيعة الأوروبي دون تعميم على كل أوروبي؛ فقد عرفت جاك فاندنبرج عندما أتى إلى مصر في كتابة رسالته عن الاستشراق، ولما عاد إلى هولندا واحتجت أعمال هوسرل التي طبعت في هولندا، فأرسلها لي، وكان ل «الفلوران» العملة الهولندية سعران، واحد رسمي وآخر في السوق السوداء، أصر على موقفه، السوق السوداء، وأصررت على موقفي، السعر الرسمي. ولما ذهب إلى مصر حاول أخي إعطاءه المبلغ بالسعر الرسمي فرفض، فجمع له بعض العملة الهولندية وأعطاها له، ومن بعدها وقد سقط من عيني، مع أنه أصبح من كبار المستشرقين الآن، ويعمل في سويسرا، وبذقنه السوداء الطويلة، وشفتيه الحمراء تخيلت أنه دراكولا، مصاص الدماء.
وطالب آخر كان جاري في مدينة أنطوني الجامعية التي كنا نذهب إليها بالصيف حتى تقوم المدينة بإصلاح ما عاب من منازلها، سمعت أنه مريض، فأخذت بعض الفاكهة لزيارته لأن الحائط في الحائط، فشكرني وقال لي للأسف لا يستطيع أن يقدم لي شيئا لأن علبة السكر بها ثلاثون ملعقة، واحدة كل يوم، وعلبة الشاي بها ثلاثون ملعقة، ولا فائض له كي يعمل كوب شاي لي، فاعتذرت أنني لا أشرب الشاي، وتذكرت المثل العربي «اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب.» فما الضامن أنه سيعيش إلى آخر الشهر وهو مريض؟
كانت ألمانيا وبرلين في ذلك الوقت مقسمة إلى قسمين: الغربية والشرقية، وبينهما حائط من الجهة الغربية مكتوب عليها كل ما ينكر حرية الغرب واستبداد الشرق، قبل أن يتحطم حين انهيار الكتلة الشرقية في أوائل التسعينيات. وكان هناك ترام يربط بينهما من خلال فردرش شتراسه. وبعد أن زرت المتحف الذي به رأس نفرتيتي الشهير داخل صندوق من الزجاج والذي يقف أمامه الألمان طوابير من الصباح، ورأيت باقي الآثار المصرية القديمة ذهبت إلى برلين الشرقية كي أرى جزيرة المتاحف التي بها كم كبير من الآثار الفرعونية والبابلية والآشورية. ورأيت أهم شارع، وهو طريق ستالين، بعرضه وطوله ومنازله المتشابهة على خط واحد. وكان المارك الغربي بستة دراهم شرقية تقريبا، مع صعوبة نقل أعمال ماركس وإنجلز ، فاشتريتهما مع صورته، ونقلت ذلك على الدراجة عائدا إلى باريس. ولما توجهت وأردت العودة إلى باريس أخذت القطار من ستراسبورج عائدا إلى باريس، وهي المدينة التي عليها خلاف بين الألمان والفرنسيين. ولما كنت مغرما بالألمان فقد لففتها بالدراجة ثلاث مرات، من الغرب إلى الجنوب حتى منشن والتي يسمونها ميونخ، ومن الغرب إلى الوسط حتى فرانكفورت ونورنبرج، ومن الغرب حتى الشمال حتى همبورج حتى حفظتها عن ظهر قلب. وما زالت آثار الحرب والتدمير في ذهني ومنها تسمية كنيسة الذكرى
Gedächtnis Kirche .
وكنت أريد أن أذهب إلى برلين بالدراجة، فأوقفتني شرطة ألمانيا الشرقية عند الحدود في هلمشتت وسألوني: إلى أين؟ قلت: إلى برلين. قالوا: ممنوع تمر عبر ألمانيا الشرقية إلى برلين كمدينة مفتوحة. قلت: وما المانع؟ قالوا: لا يمر إلا من كانت سرعته مائة كيلومتر. كم سرعة دراجتك؟ قلت: عشرين! قالوا: إذن ممنوع. ولا تمر إلا من ثلاثة طرق دولية، من الجنوب ومن الغرب ومن الشمال. فتركت الدراجة في المدينة الحدودية، وأوقفت عربة ذاهبة إلى برلين وركبتها أتوستوب
Autostop ، والرجل لا يتكلم فهو في أرض العدو، وقد عبر لي عن ضيقه بهذا الكبت للحريات. وبعد شهر في برلين عدت إلى المدينة الحدودية بنفس الطريقة، وأخذت الدراجة راكبا القطار من ستراسبوج الفرنسية عائدا إلى باريس. وقد ساعدني على اكتشاف الحياة الصداقات التي أخذتها من الحب الرومانسي، وسكني ببيت ألمانيا، وصديقتي الألمانية والإغراء بها. وكانت العادة القيام بحفلة رقص كل يوم جمعة مساء، وإظهار المهارات في هذا الفن الذي يعتبره البعض غير رفيع، تظهر كل فتاة ممارستها، ويظهر كل فتى براعته، فكنت أعمل مثلهم خاصة أنني كنت رائد اتحاد الطلبة في المنزل الألماني. وكانت هناك ثلاجة بها جميع المشروبات خاصة البيرة، لا يوجد أمامها بائع ولكن مجرد صندوق، يكتب كل شارب ما يشرب في بطاقة باسمه، ويدفع آخر الشهر من نفسه. ولما كنت مصريا متعودا على وجود بائع أدفع له مباشرة، فإنني كنت أشرب ما أريد دون تسجيل بطاقة، وكان من يجمع الحساب آخر الشهر من كبار الشاربين يجد المجموع أقل من المستهلك، وأولهم هو، ليس لأنه لص ولكن لأنه سكير لا يدري ما يفعل، وكان المنزل يدفع ما نقص من ميزانية البار المفتوح «اخدم نفسك بنفسك»
Self-Service . وكنت أشارك في حفلات رأس السنة بتزيين المنزل وزجاجه بالألوان. وكانت الموسيقى بالبدروم، فكنت آخذ كماني ليس فقط لأعزف ولكن أيضا للتعرف على باقي العازفات، وكانت إحداهن تعزف تشيللو، ومرة توقفت، وقالت: زهقت، قلت لها: وأنا أيضا، فتركنا الآلات وقمنا نعزف شيئا آخر. وكان معنا في المنزل طالب تمثيل «بانتوميم» جاء ليدرس مع جان لوي بارو أشهر ممثل للبانتوميم في العالم، وكان يدخل خشبة المسرح في المنزل، ويقوم بالتمرين، ولكنه كان يريد من ينظر إليه، فكان يناديني باعتباري فيلسوفا فنانا: يا حسن تعال انظر، فأحسست بضرورة وجود إدراك الذات حتى يتحقق الموضوع.
Bog aan la aqoon