وكان والدي يرسلني إلى محل الطرشي بدرب البزازرة أمام جامع البنهاوي لشراء طرشي، وأوصي البائع بمزيد من ماء اللفت، فكنت أذهب بطبق مفتوح وأعود وقد انسكبت منه معظم مياه اللفت على الأرض. وفي المرة الثانية أردت أن أعرف طعم ماء اللفت هذا الذي يصر عليه والدي، فقمت بتذوقه بدلا من انسكابه على الأرض بفعل المشي، فوجدت طعمه لذيذا، وذهبت إلى الوالد وماء اللفت ناقص أيضا. ثم أرسلني الوالد إلى بائع الطرشي لأقول له إني أتيت من طرف عم حنفي، فزاده إلى الثمالة. ولم نكن نعرف في ذلك الوقت أن طبق الشراب في حاجة إلى غطاء لكي يحفظه داخل الإناء.
وأرسلني والدي إلى الكتاب في سن الرابعة لأن الحكومة لا تقبل في المدارس الأولية قبل الخامسة، وكان الكتاب يسمى باسم مدرسة «الشيخ سيد»، ويقع في آخر درب الشرفا، عطفة العبساوي. صالة في الدور الأرضي مفروشة بالحصير، تستخدم للصلاة أيضا. وكانت التكاليف رغيف خبز وطبق مخلل بشرابه أو طبق سلطة. وكان التدريس بطبيعة الحال تحفيظ القرآن، وتعليم بعض قواعد اللغة العربية، وعلامات الإعراب. وكان الجلوس على الأرض تربيعا وحافين. والأطفال بالجلابيب مثل الشيخ بالجبة والقفطان والعمة. وكان صوت الأطفال جماعيا مرتفعا حتى يسمع الحاضر الغائب. وبمجرد أن ينتهي الدرس يهرع الأطفال بالخروج إما للعب أو إلى أهله. وكانت عيون الشيخ تروغ يمينا ويسارا إذا ما أحضرت الأم طفلها بنفسها، وسلمته للشيخ كأمانة فتقترب من الشيخ أكثر فأكثر، ولا ينسى الشيخ أن يبلغ السلام لأم الطفل مع ابنها في نهاية الأسبوع أو بدونها. لم أستسغ هذه الطريقة، ولم أستطع أن أكمل الكتاب، ولا طريقة الشيخ في تحفيظ القرآن، ولا العصا (الخرزانة) التي في يده، ولا صمت الأطفال إلا من صوت ترديد آيات القرآن وراءه، ولا هذه العلاقة بين السيد والعبد؛ علاقة العصا. فقدت اللعب، ولم أجد شيئا أفضل منه؛ حارة مسدودة، وعقل شارد، ولكن القلب ما زال ينبض.
وتروي الوالدة أنني بعد الطهارة كنت كلما أتانا ضيف أرفع الجلباب وأقول له: «أنا اطاهرت.» كنت فرحا بالحدث، وكنت أريد أن تشارك الضيوف فرحتي، وكان رباط الشاش ما زال موجودا، وكنت أسمع من يقول: «عيب يا ولد.» ولا أدري من القائل، ولكن لزقت في ذهني أن هذه المنطقة عيب أعريها، وأنني يجب أن أغطيها، وهكذا بدأت التفرقة بين مناطق الجسد؛ بين «التابو» الذي يجب أن يختبئ، وباقي مناطق الجسد التي يمكن أن تعرى. ورأيت ذلك في غسل الميت فيما بعد، عندما كانوا يخبئون هذه المنطقة بالمنشفة.
ولما بلغت الخامسة في 1940م انتقلت إلى المدرسة الأولية، مدرسة سليمان جاويش، في شارع مواز لدرب الشرفا من ناحية وشارع الحسينيين من ناحية أخرى، ويفتح على باب الفتوح وشارع المعز لدين الله الفاطمي في وسط زقاق ضيق. والمدرسة ذات فناء واسع، وفصولها خشبية «داير داير» الفناء، والإدارة بعد الباب بعدة سلالم يمينا ويسارا. وكان التلاميذ في الفسحة يخرجون من الباب ليشتروا الصميط من صابر الذي وضع بضاعته على صاج أسود كبير على الأرض، والتلاميذ يتسابقون للشراء؛ منهم من يدفع، ومنهم من يتظاهر بالدفع. ولا يستطيع صاحب الصاج في الزحام والصراخ أن يضبط كل شيء، كل يد ممدوة إلى صاجه، وأحيانا أكون واحدا منهم ما دام الأمر سهلا. يكفي صاحب الصاج أن يجمع التعريفات في حجره، وهو كسبان في النهاية. وكانت الغاية من المدرسة ليس التعليم بل الحفاظ على التلاميذ من ألعاب الطريق. فإذا أكمل التلميذ سنوات المدرسة الأولية الخمس فإنه يكون في الطريق إلى المدرسة الأزهرية، وليس الجامعة. وكنت ألبس البدلة والطربوش كي أكون أفنديا، والطربوش كان مغريا كي يكون كرة قدم، فأرجع إلى المنزل والطربوش قد تمزق، فآخذ درسا في أن الطربوش رمز النضج والكبر، فكيف ألعب به كرة في لعبة كرة القدم؟ وفرق بين الطربوش المطبق الذي يظهر من خوصة فتحات القماش الأحمر والطربوش المكوي المستقيم جنباته، وأحيانا تضاف رابطة العنق إلى البدلة حتى تكتمل صورة الأفندي. واكتشفت الأسرة أن عندي قصر نظر لأني لا أرى إلا القريب دون البعيد، وقمت بعمل نظارة طبية. وكانت العدسات في ذلك الوقت من الزجاج، ينكسر بسهولة إذا وقعت النظارة على الأرض. ولما كنت سريعا ما أصطدم بصبي آخر لضعف بصري وأنا أجري فتقع النظارة على الأرض، وينكسر الزجاج، ويصرخ الأهل ليس خوفا من التكاليف ولكن قد يدخل الزجاج في عيني، ولم أكن أدري ما العمل للجمع بين النظارة واللعب جريا واصطداما؟ لم يكن هناك تلفزيون في ذلك الوقت، والذي دخل فقط عام 1960م كي أتشبه بأفنديته. وكنا نذهب إلى بني سويف في الصيف خوفا من غارات الألمان على القاهرة وأصوات المدافع. ولما توفت ستي نقلناها إلى مقابرنا في الضفة الأخرى للنيل. أما خالتي فدفنت في القاهرة في المقابر التي اشتراها أبي، وساعدناه ماليا، أخي سيد وأنا، ودفن فيها، وعليها اسمه حتى الآن حنفي حسانين أحمد. وبها، بالإضافة إلى خالتي، أمي، وحماتي، وشقيقتي فاطمة وزوجها فريد، وأخي سيد، وعلي النجار من أقرباء أمي، ثم أخيرا زوجة أخي.
ولما كانت المدرسة الأولية طريقا مسدودا إلا نحو مدرسة المعلمين العليا، ولا تؤهل للثانوية والجامعة، انتقلت إلى مدرسة السلحدار الابتدائية في أول شارع المعز لدين الله الفاطمي من ناحية باب الفتوح، وهو جزء من السور القديم، وكانت مملوءة بالآثار الإسلامية في النحت، نلعب بها، ولا ندري ما قيمتها، نختبئ وراء رءوس الرخام، وعواميد القصور. بها فضاء فسيح نلعب فيه، وفيها بدأ التعليم. ومدرسون يعطون مجموعات تقوية بدلا من الدروس الخصوصية بخمسين قرشا في الشهر. وكنت التلميذ الوحيد الذي رفض أولا لأنني لا أحتاج. ثانيا أن الثمن كان خمسين قرشا، وهو كثير على مصاريف الأسرة. أوقفني المدرس ووجهي للحائط عقابا لي، وكأنني المسئول عن ذلك. كنا نخرج كل يوم 11 فبراير كل عام في طوابير للذهاب إلى قصر عابدين، بقيادة مدرس اللغة العربية أو الدين، بالعمة والقفطان، جمعا بين الدين والسياسة بدلا من الجمع بين الدين والعلم والوطن؛ للهتاف بحياة الملك، وهو النشيد الآتي:
للمليك اهتفوا
يا أسود الحمى
للمليك اهتفوا
دائما دائما
للمليك يا بلادي اسعدي
Bog aan la aqoon