أقسم أمينوفيس بالأب والابن والروح القدس أنه لم يهتم بالسياسة في يوم من الأيام، وأن عضويته في الاتحاد الاشتراكي عضوية روتينية، عادية، شأن بقية المصريين.
أطرق رئيس مجلس الإدارة، الذي كان هو نفسه من كبار المسئولين عن التنظيم السري داخل التنظيم العلني، ثم قال: «عارف يا أمينوفيس، عارف. نفس ما قلته لهم.» وأضاف أنه شهد لصالحه مستندا إلى تقاريره النموذجية التي سيتم تدريسها يوما ما بكليات الصحافة والإعلام، وأن الواشي في رأيه ليس إلا مجرد طامع في رئاسة القسم الذي يتولاه أمينوفيس بكفاءة.
تعدد الطامعون، وتكررت الوشايات، لكن أمينوفيس صمد في موقعه وازداد تشبثا به، فرغم أنه كان يواصل الترقي حتى أصبح في درجة نائب رئيس التحرير ومن حقه أن يرأس صالة التحرير، إلا أنه رفض التخلي عن قسمه؛ إذ انحصر كل طموحه في الحياة في إنجاز موسوعته التي ازدادت ضخامة نتيجة تدفق الأعلام والمشاهير على البلاد بعد انفتاحها على حركات التحرر في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
خلال ذلك كانت ذات، التي لم يفارقها شعورها بالتطفل على مجتمع من العاملين المؤهلين جيدا للعمل الذي يتفانون في عدم أدائه، تدفن رأسها بين الصحف والمجلات، لا ترفعها إلا حين تحين فرص التلقي. فبسبب الهدوء الذي يسود المكان؛ نتيجة انهماك أمينوفيس ومساعديه في عملهم، أو نتيجة لغلبة النساء بينهم على الرجال؛ وبالتالي وجود فائض قابل للتصريف، أو لمجرد الملل الذي يعانيه من يبذلون جهدا خارقا في عدم العمل، فإن القسم صار ملتقى لعدد من المحررين يعقدون فيه جلسات البث المتبادل التي تحرمهم منه صفحات الجريدة، بينما تجلس ذات صامتة، مبحلقة العينين، تتلقى الصدمات تلو الأخرى، وخاصة من مصور سمين خفيف الدم يدعى منير زاهر، ظهر في القسم أول مرة حاملا مسجلة، ودون أن يعبأ بأمينوفيس الذي كان مستغرقا في مراجعة كشوف ركاب الترانزيت في مطار القاهرة الدولي، أدار أحد الأشرطة. عدوية؟ ولا حتى الشيخ إمام: «يا أهالي أجهور، أنا سعد إدريس حلاوة، منكم وفلاح زيكم. بازرع أرضي بإيدي وعرقي. ما سبتهاش ورحت أبيع الجاموسة، أو أرهن البيت واستلف بالفايظ عشان أشتري تذكرة سفر، أو عقد عمل مزور للعمل في ليبيا أو السعودية .. النهارده 26 فبراير 1980، النهارده بالذات السادات فتح لإسرائيل سفارة في الدقي ورفعوا عليها علمهم. يا أهالي أجهور .. أنا خلاص قررت أدفع دمي عشان نبقى فوق .. أنا معايا اتنين رهاين من أفراد الشعب الغلبان .. وإذا كان الخديوي السادات خايف على حياتهم؛ يطرد السفير الإسرائيلي فورا من القاهرة خلال 24 ساعة وإلا أقتل الرهاين وأقتل نفسي.»
الصدمات كانت متنوعة؛ آلة الطباعة بالغة الحداثة التي أمر رئيس مجلس الإدارة بشرائها بعشرات الآلاف من الدولارات، ثم أودعت البدروم بعد أن تبين عدم الحاجة إليها، وبعد قليل تم تكهينها وبيعت لأحد أقاربه بعشرات المئات من الجنيهات. صاحب العمود اليومي الذي شن حملة على اختفاء قطرة للعين، ثم قام برحلة لأوروبا على حساب الشركة التي تنتجها. المحرر الذي تخصص في تزويد رئيس التحرير لا بالأخبار وإنما بالفتيات، والآخر الذي يزود السيدة الأولى بالأخبار والتبرعات، والثالث الذي يحج كل عام إلى بيت الله الحرام على حساب خادمه (البيت لا الصحفي)، والرابع الذي ترقى من كتابة تقارير المباحث إلى إعداد خطب رئيس الجمهورية.
حصيلة وافرة لا تحلم بها واحدة من ماكينات البث المنتشرة في البيوت والمكاتب والتجمعات؛ مما دفع ذات، بعد أن استعادت ملكة القراءة، إلى محاولة التغلب على صعوبة تحريك اللسان التي لازمتها منذ الصغر وتفاقمت على يدي، أو بالأحرى عيني عبد المجيد (فما إن تبدأ في محاولة ترتيب الحروف فوق لسانها، وصياغتها في كلمات ، حتى يرميها بإحدى نظراته الصارمة، ويقاطعها بلهجته الحاسمة مؤكدا لها خطأ ما تنوي قوله، «أوف كورس»، فتتبعثر الحروف، وتمتطي ظهر بعضها البعض). وساعدها الحظ؛ إذ بدأت تظهر على عبد المجيد آثار اتساع الهوة بينه وبين أحلامه (فالحلم الرأسمالي الذي كان يبدو قريب المنال في ظل اشتراكية عبد الناصر، صار للعجب مستحيلا في عهد رأسمالية السادات).
استمع عبد المجيد دون مقاطعة لنبأ الشريط إياه، ثم علق باقتضاب قائلا إن صاحبه مجنون أو شيوعي (الأمر الذي أثار قلقها لأسباب تتعلق بأيام الدراسة)، وتلقى بغير مبالاة أنباء الفضائح والمباذل، وباهتمام واضح قصص الثروات الضخمة التي تتكون بين يوم وليلة (إذ وجد فيها شيئا من الإشباع رغم أنها كانت تتكون بعيدا عنه). وبالتدريج أخذت ذات تحمل معها يوميا جعبتين؛ واحدة للسندوتشات والمخللات تذهب بها إلى العمل، وأخرى لمواد البث تعود بها إلى المنزل وتستعين بها على مد قنوات الاتصال، التي دب إليها الوهن، مع عبد المجيد، وعلى مواجهة المنافسة الشرسة أثناء الزيارات العائلية. وسارت الأمور على هذه الوتيرة إلى أن وقعت حادثة الصورة.
فعندما مات جمال عبد الناصر وأصبح السادات رئيسا للجمهورية، أراد البيروقراطيون أن يضعوا صورة الأخير مكان صورة سلفه على جدران المكاتب الحكومية والمؤسسات المختلفة، لكن السادات رفض ذلك الإجراء، مقدما لمواطنيه درسا قيما في الوفاء؛ فقد روي عنه قوله، إن الأفضل من رفع صورة عبد الناصر تركها حتى تقع من تلقاء نفسها. هكذا استقر الوجه المتبتل ذو الزبيبة إلى جوار سلفه الباسم ذي الفودين الأشيبين حتى تحققت نبوءة السادات وأخذت صور عبد الناصر تتساقط من تلقاء نفسها (وقد بدأت هذه الظاهرة في الشركات التي تأسست طبقا لقانون الاستثمار الجديد، ثم انتقلت منها إلى بقية المؤسسات). لكن الغرفة التي تضم قسم متابعة الأخبار وتقويمها احتفظت بالصورتين متجاورتين بفضل ذات التي كانت تتلقى زيارات ليلية من العملاق الباسم ذي الفودين الأشيبين بالتناوب مع أبيها (الذي انضم إلى عبد الناصر، في السماء لا على الجدار)، إلى أن اغتيل السادات.
أصبح لدى البيروقراطيين خبرة بتغير الرئاسة ، فجرى على الفور توزيع صور الرئيس الجديد المؤطرة على المكاتب والمؤسسات. وطبقا لمبدأ الوفاء الذي أرساه الرئيس المقتول كان يتعين الإبقاء على صورته إلى جوار صورة الرئيس الجديد. ولم يتسع جدار غرفة قسم المتابعة والتقويم لصور الرؤساء الثلاثة الكبيرة بإطاراتها السميكة، فسنحت بذلك فرصة التخلص من أولهم. لكن ذات لم تقبل الإطاحة برئيسها المحبوب، وفي شجاعة نادرة لم تبدر منها من قبل أو من بعد قالت: «إذا كان لا بد أن يذهب أحد فليكن السادات.»
أدرك أمينوفيس الخطر الكامن في هذا الموقف؛ إذ سيحيي من جديد الاتهام الموجه إليه بعضوية التنظيمات السرية؛ مما قد يؤدي إلى الإطاحة به من رئاسة القسم، خاصة وأن أحدا لم يكن يعرف بعد أين يميل الرئيس الجديد، رغم أنه أعلن أكثر من مرة: «ماي نيم إيز حسني مبارك.» ولكي يخلي نفسه من المسئولية كتب تقريرا بالأمر (هو أول تقرير جديد له منذ التقارير السبعة التاريخية)، رفعه إلى رئيس مجلس الإدارة. وأسفرت القصة كلها عن الإطاحة بشخصين؛ عبد الناصر وذات.
Bog aan la aqoon