ولما استوطن الأمراء وعشائرهم في الأماكن التي اختاروها وجهوا همهم وصرفوا عنايتهم إلى العمران، ومحوا آثار الهمجية والبداوة؛ فابتنوا القرى وشادوا القصور والحصون، وغرسوا الأشجار وأقاموا الحدائق الغناء، وسكنوا في أرضهم آمنين؛ فبرز لبنان الجنوبي إلى مقام العمران، وأصبح في وقت قصير يفاخر في الترقي والنجاح لبنان الشمالي الذي كان قد سبقه إلى العمران من زمن ليس بقليل.
وبنى الأمير فوارس تنوخ في عبيه قصرا منيعا لم تزل آثاره باقية إلى الآن، وقد أصبح هذا القصر بعد قليل مقر ولاية الأمراء التنوخيين، ثم انبث روح الحسد في نفوس بقية الأمراء، فجعلوا يتنافسون في بناء القصور والقلاع وانتقاء الأبطال والفرسان ورشق الجريد على ظهور الخيل؛ حنانا في نفوسهم إلى ما رضعوه مع الألبان من العادات من ثدي البداوة، فامتاز بذلك الأمير فوارس تنوخ وبنوه الأحد عشر، فاتخذوا في عبيه ميدانا فسيحا؛ لذلك كانت تقصده الأمراء من سائر الأنحاء، ولم يكن بينهم من كان يستطيع أن يثبت في الميدان أمام الأمير فوارس وبنيه.
ومن سوء الحظ أن هؤلاء القبائل التنوخيين الذين حلفوا عند المقام التنوخي على التعاون والتناصر لم يغنهم الحلف عن التحزب الموروث من أسلافهم شيئا، فأتوا لبنان حزبين قيسيا ويمنيا. وكثيرا ما أدى هذا التحزب إلى إراقة الدماء بسبب العداء، ولم تخف وطأته وتتناس آثاره حتى حل محله غيره كالتحزب المعروف بالجانبلاطي واليزبكي في لبنان عموما والأعوري والهلالي في قضاء المتن خاصة، وقد علمنا في الكلام على المردة بشمالي لبنان ما ألم بهم من التحزب المعروف بالملكي والمردة كأن كتب للبنان أن لا تجتمع فيه كلمة أهله مع ما هو عليه من ضيق النطاق والحاجة إلى التعاون لنيل البغية من المصلحة.
وما أقبلت تلك القبائل على لبنان إلا بعد أن كانت امتدت سلطة الدولة العربية الإسلامية؛ فدخلت هذه الدولة بلاد الشام وافتتحت دمشق بعد أن خرج الروم منها، وضربت سلطتها على كل البلاد من دمشق إلى بغداد التي جعلتها مقر الخلافة. ثم استفحل أمرها وعظمت سلطتها وامتدت كثيرا، فامتلكت كل المدن القائمة عند البحر، وشادت المباني العظيمة والآثار الدالة على الهيئة ورسوخ القدم في الأماكن التي افتتحتها.
ولما استقرت أقدام الفاتحين في هذه البلاد واستأثروا بالسلطة المطلقة وصفا لهم الزمان؛ عكف الخلفاء على العلوم والمعارف، فنبغ بينهم علماء أفاضل في كثير من الفنون، وساد العلم والأدب، وانتشرت أنوار المعارف حتى شملت جميع البلدان التي خضعت للدولة الإسلامية.
أما أمراء لبنان الأولون فلم تنلهم سيوف الفاتحين كما تقدم ذكر ذلك، بل لبثوا ساكنة نفوسهم مستقرة خواطرهم يتقلبون بين خيرات أرضهم ما شاءوا، حتى قدم الإفرنج للحرب الصليبية الأولى تحت قيادة كودفري دي بوليون؛ وذلك لاستخلاص القدس من أيادي المسلمين. وتحرير ذلك أنه كان كثيرون من المسيحيين يعتقدون أن القبر المقدس في أورشليم معروف مكانه معرفة حقيقية؛ ولذلك كانوا منذ الجيل الرابع يأتون القدس لزيارته، وقد أبيح لهم ذلك في أيام دولة الإسلام، ولم يصدهم عنه أحد حتى ارتقى إلى كرسي الخلافة بمصر الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله سنة 1020 فصد الزائرين عن تلك الزيارة مبيحا - في ما قيل - دماءهم، كما صدهم بعض السلجوقيين سلفاؤه من قبل، وأساءوا معاملة النصارى من أهل البلاد، فجاء بطرس الناسك من أوروبا زائرا، وخلا بالبطرك سمعان فقص البطرك عليه ما كان من بلايا قومه، فعاد بطرس إلى بلاده واجتمع بالبابا أوريانوس الثاني، وأكب على قدميه يسأله إثارة حرب يكون الغرض منها استخلاص القبر المقدس من أيادي المسلمين.
ولما شاعت هذه الأمور في أوروبا هاج القوم وماجوا، فاجتمعت كلمتهم على المسير إلى القدس لاستخلاصها مهما سامهم ذلك من المشقة وكبدهم من الخسارة والعناء؛ فجعلوا يتواردون على القسطنطينية أفواجا أفواجا من جهة البر ومن جهة البحر، حتى احتشد فيها خلق كثير لا يبلغه عد ولا إحصاء، وما بلغت هذه الجيوش تلك المدينة إلا وكان قد هلك منها نحو مائة ألف نفس.
ولما اكتمل عددهم في تلك المدينة وعدوا ملكها ألكسيوس كومنوس باسترجاع كل المدن اليونانية إلى حكمه؛ فأذن لهم بالمسير إلى آسيا، فلما بلغ الجيش نيقية أحصوه، فكان مائة ألف فارس وثلاثمائة ألف راجل يرأسه كثير من أشهر قواد الفرنجة في ذلك الزمان؛ مثل: كودفري دي بوليون، وبلدوين أخيه، وروبرت النورمندي ابن وليم الفاتح، وإستفانوس دي بلوا الذي قيل فيه إنه فتح قلعا بعدد أيام السنة، والكونت رايمون الفرنسي، وغيرهم. فبعد أن حصروا نيقية وافتتحوها ساروا في سهول تلك البلاد وهي في قبضة السلجوقيين؛ فلم يتقاعد هؤلاء عن قتالهم في السهول والجبال، ولكن بدون أن يفوزوا بصدهم. وكان الإفرنج قد قل زادهم وتمرد بعضهم، فعاد كثيرون منهم إلى أوطانهم، وتوغل آخرون في داخلية البلاد وأنشئوا لهم حكومة مستقلة عند ضفة الفرات. وأما بقية الجيوش فأصرت على الجهاد، وثبتت على عزمها؛ فتوغلت في الفتح شيئا فشيئا. وفي سنة 1097 بلغت تلك الجيوش مدينة أنطاكية، وأقامت تسعة شهور تحت أسوارها تقاسي صنوف الويل والبلاء، حتى تمكن أحد قوادها - بوهيمون - بالاحتيال على أحد الخفراء من فتح أبواب المدينة؛ فدخلها الإفرنج وأباحوا دماء أهلها، فأعملوا السيف في رقابهم، وأجروا من المظالم ما ترتعد منه الفرائص. ولما كان لهم في المدينة ثلاثة عشر يوما - في ما قال ابن خلدون - زحف إليهم صاحب الموصل السلجوقي وحصرهم، حتى كادوا يموتون جوعا لنفاد زادهم، فدفعهم اليأس إلى تثبيت القدم وتشديد البأس، فاقتحموا صفوف المحاصرين فكسروهم، وأقروا سلطتهم في المدينة.
ثم ساروا من هناك وهم يحاربون من عرض لهم في السبيل، ويمتلكون ما وقع في أيديهم من المدن والقرى، حتى بلغوا بيت المقدس فحصروه، وقد عسر عليهم اقتحامه لمناعته وبسالة رجال الدولة المتسلطة عليه، وخصوصا لأنه لم يكن معهم من معدات الحصار وأدواته ما يمكنهم من افتتاحه، وقد قاسوا من الظمأ والحر ما فتك فيهم أكثر مما فتكت فيهم سيوف أعدائهم، ولكن رؤساءهم لم ينقطعوا عن تثبيت جأشهم وتشديد عزائمهم معللين آمالهم بامتلاك المدينة، فثبتت أقدامهم في ميدان الحرب حتى تحقق لهم الفوز، وافتتحوا المدينة بعد أن مكث حصارهم لها تسعة وثلاثين يوما؛ فكان افتتاحها في 15 تموز سنة 1099ب.م، وقد أتوا فيها من الفظائع قتلا ونهبا ما تقشعر منه الأبدان، وكانت قسوتهم على اليهود أكثر من غيرهم؛ إذ هاج في نفوسهم تذكار ما ألم بالسيد المسيح من هؤلاء فأرادوا الانتقام منهم.
وبعد افتتاح مدينة القدس انتخب كود فري دي بوليون ملكا عليها، ولما كان شهر آب سنة 1099 حدثت بينه وبين سلطان مصر موقعة في عسقلان؛ فانهزمت جيوش مصر. وفي السنة التالية مات كود فري وخلفه أخوه بلدوين وأصبح فتح الصليبيين واسع النطاق، ولكنه بسبب هجمات الإسلام العنيفة عليهم وانقطاع المدد عنهم من أوروبا أصبح محفوفا بالخطر من الضياع.
Bog aan la aqoon