جانب الحق، يرجع إلى نفس أمارة بالخير، بعيدة عن الشر، مدلولة على سبيل البر. . . ووصف أعرابيٌّ رجلًا بلونٍ من ألوان البِرّ وبالألمعية والذكاء والحصافة والأناة قال: كان - والله - الفهم منه ذا أذنين، والجواب ذا لسانين، لم أرَ أحدًا كان أرتقَ لخلل رأيٍ منه، ولا أبعد مسافة رويةٍ ومراد طرفٍ، إنما يرمي بهمته حيث أشار إليه الكرم، وما زال - والله - يتحسى مرارة أخلاق الإخوان ويسقيهم عذوبة أخلاقه. . .
كان الفهم منه ذا أذنين: يريد أنه كان يعي ويتفطن لما يرى ويسمع فطنة أوفت على الغاية، إذ أنها فطنة مضاعفة، فكأن له أذنين. أما قوله: والجواب ذا لسانين: فإنما يريد قوة العارضة واللسن، وهذا غير قولهم: فلان ذو وجهين وذو لسانين، يريدون: النفاق والذبذبة. ورتق الفتق: أصلحه، والمراد: المكان من راد يرود: إذا جاء وذهب، ويتحسى: يقال حسا الماء: شربه، وتحساه: إذا شرب في مهلة، وهو هنا مجاز.
ومن كلمة لابن المقفع يصف الرجل يتلاقى البِرُّ في برديه بألوانٍ شتى من المثل العليا وأخلاق السادة، في أسلوب بديع - وقد وردت هذه الكلمة في نهج البلاغة منسوبة لعلي بن أبي طالب ﵁: كان لي أخٌ في الله، كان أعظم الناس في عيني، وكان رأس ما عظمه في عيني صغر الدنيا في عينه، كان خارجًا من سلطان بطنه؛ فلا يتشهى ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد. وكان خارجًا من سلطان فرجه؛ فلا يدعو إليه مؤنة، ولا يستخف إليه رأيًا ولا بدنًا، وكان لا يتأثر عند نعمة، ولا يستكين عند مصيبة، وكان خارجًا من سلطان لسانه؛ فلا يتكلم بما لا يعلم ولا يماري فيما علم. وكان خارجًا من سلطان الجهالة؛
فلا يقدم أبدًا إلا على ثقة بنفسه، وكان
1 / 8