43

ونعود إلى «العواطف» بمعناها المقصود عند هيوم (وليس بينها الشعور باللذة والشعور بالألم) فنجدها بدورها تنقسم أنواعا؛ فأولا هنالك الشهوات الفطرية التي ينشأ عنها جانب كبير من متعتنا؛ فمن الجوع تنشأ لذة الطعام، فها هنا ترى «الجوع» عاطفة فطرية (باصطلاح هيوم) هي الشرط اللازم تحققه لتتحقق معه لذة من لذائذنا؛ والجوع بدوره مشروط بحالات الجسم، وهذه الحالات بدورها متوقفة على مجموعة كبيرة من الظروف؛ ولكن «عاطفة» الجوع رغم اعتمادها على ظروف جسدية معينة، إلا أنها غريزية في ذاتها، أعني أنها لا تتوقف في حدوثها على خبرة لنا سابقة بلذة أو ألم؛ «فأمثال هذه العواطف - أي الشهوات الجسدية - تحدث اللذة والألم، ولكنها لا تنشأ عنهما»،

96

وفي رأي هيوم أن هذه المجموعة الجسدية من العواطف، أي الشهوات وما إليها، تشمل إلى جانب الجوع وشهوة الجنس، حب الحياة، والرأفة بالأطفال والحنو عليهم وغير ذلك؛ فكلها عواطف لا تنبني على خبرات سابقة بلذة أو ألم، بل إنها تنبثق من الفطرة رأسا بغير علة ظاهرة، ولذلك يسميها بالعواطف الأولية.

والمجموعة الثانية من «العواطف» (باصطلاح هيوم) تشمل الحالات الوجدانية، التي إن اتفقت مع الغرائز الفطرية - كالجوع وشهوة الجنس - في أنها هي الأخرى مميزات تصف الطبيعة البشرية، وأنها كذلك تتوقف في حدوثها على تركيب الفطرة الإنسانية، إلا أنها تعود فتختلف عن الغرائز في أن السبب المباشر لحدوثها هو دائما خبرة سابقة بلذة أو ألم؛ فمثلا إذا أحسسنا جوعا، وكنا في سابق خبراتنا قد أكلنا طعاما معينا أشبع فينا حالة مماثلة من حالات الجوع، فقد نتذكر الآن هذا الطعام، فيثير هذا التذكر شعورا باللذة، هو الشعور الذي كنا قد نعمنا به في تلك الخبرة السابقة؛ وهذه اللذة المستثارة بدورها تثير فينا انطباعا متميزا مستقلا قائما بذاته، هو الذي نطلق عليه اسم «الرغبة»، فإن هذه «الرغبة» الحاصلة هي من قبيل عواطف المجموعة الثانية، وهي عواطف - كما أسلفنا - تشبه عواطف المجموعة الأولى في أنها ناتجة عن الفطرة الحيوانية أو الإنسانية، لكنها تختلف عن عواطف المجموعة الأولى في أنها مسبوقة بخبرات ماضية من لذائذ وآلام؛ ولذلك يسميها بالعواطف الثانوية، فلئن صح أن نسمي المجموعة الأولى ب «الغرائز» فقد يصح أن نسمي المجموعة الثانية ب «الحالات الوجدانية»؛ ومن قبيل هذه الحالات الحزن والفرح والأمل والخوف واليأس ثم الإرادة مضافة إلى كل منها؛ هذه هي «عواطف» المجموعة الثانية التي يصفها هيوم بأنها «العواطف المباشرة».

97

ومجموعة ثالثة من العواطف تنشأ - كما تنشأ عواطف المجموعة الثانية - نتيجة لاستثارة خبرة ماضية خبرناها من حيث الشعور باللذة أو الألم، إلا إن هذا الشعور - في هذه الحالة - حين تستثار ذكراه، يجيء مصحوبا بأفكار بينها وبين «النفس» صلة أو صلات؛ ومعنى ذلك أن العاطفة في هذه الحالة حين يترتب حدوثها على خبرة ماضية باللذة أو الألم، فإنها لا تجيء وحدها، بل تجيء مصحوبة بصفات أخرى، ويصف هيوم هذه المجموعة الثالثة من العواطف بأنها «العواطف غير المباشرة» وعددها أربعة: الزهو والضعة، والحب والكراهية، وسنعود بعد قليل إلى ذكرها وتحليلها.

ولما كانت العواطف المباشرة وغير المباشرة على السواء ناتجة عن خبرة ماضية بشعور اللذة أو الألم، فإن هذين النوعين من العواطف قد يحدثان معا في وقت واحد؛ إذ يجوز - مثلا - أن تنتج عن الخبرة الماضية باللذة أو الألم إحدى العواطف المباشرة كالحزن أو الفرح، كما تنتج في الوقت نفسه - بسبب وجود صفات أخرى غير مجرد اللذة أو الألم - إحدى العواطف غير المباشرة كالحب أو الكراهية، فيكون الموقف الواحد باعثا على الفرح والحب معا، أو على الحزن والكراهية معا؛ بل إن نوعي العواطف - المباشرة وغير المباشرة - إذا ما استثيرا معا في موقف واحد، كان كل منهما عاملا على الزيادة من قوة الآخر.

98

وهنالك - أخيرا - مجموعة رابعة من العواطف، تختلف عن المجموعات الثلاث التي أسلفنا ذكرها، في أمرين: تختلف عنها أولا في أنها هادئة دائما، لا تتسم بما تتسم به أنواع العواطف الأخرى من عنف وشدة، ولعل هدوءها هذا - كما يقول هيوم - هو السبب في أنها كثيرا ما كانت تعزى إلى العقل بدل أن تعزى إلى الشعور ، كأنما هي من قبيل الأحكام العقلية والاستدلالات المنطقية لا من قبيل العواطف؛ ثم هي تختلف - ثانيا - عن سائر أنواع العواطف في أنها تنشأ نتيجة لمجرد تأملنا للجمال أو القبح الذي يكون في الأفعال أو الأشياء؛ فهي عواطف أقرب إلى أن تكون بمثابة الرضى أو السخط يبديه الإنسان إزاء فعل معين أو كائن خارجي معين؛

99

Bog aan la aqoon