90

Darajat Sitt

الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

Noocyada

من منظور علماء الاقتصاد، ربما تكون النقطة الأكثر إثارة للجدل (إن لم تكن الأهم) التي أشار إليها تشاك والمؤلف الذي شاركه تأليف الكتاب، مايكل بيور، هي أن نظرية الشركات ظهرت بعد أن صار الأمر واقعا بالفعل؛ فلم يشرع علماء الاقتصاد في وضع نظرية عن الشركات إلا بعد أن استقر نظام التصنيع واسع النطاق بالفعل على نموذج التكامل الرأسي وما يتصل به من اقتصاديات الحجم الكبير، ومن ثم لم يحاول هؤلاء العلماء شرح سوى نوع واحد من الشركات - ذات التسلسل الهرمي الكبير المتكامل رأسيا - كما لو أنه ما من نظرية أخرى عن المؤسسات الصناعية يمكن أن تكون منطقية، لكن بالعودة إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما ظهرت الصورة المعاصرة للشركات الصناعية للمرة الأولى، أوضح بيور وسابيل أن التسلسل الهرمي لم يكن الشكل الوحيد الناجح للمؤسسات الصناعية، ولم يعتمد تميزه النهائي بالضرورة على مبادئ اقتصادية عامة.

لم يصبح التكامل الرأسي، بالطبع، الشكل السائد للمؤسسات الصناعية بالصدفة، بل كان الخيار الأمثل آنذاك لعدة أسباب، لكن ما قاله بيور وسابيل هو أن الأشكال المؤسسية قد ظهرت كحل لمشكلات بعضها اقتصادي والبعض الآخر اجتماعي وسياسي وتاريخي، وأبلغ دليل على اعتماد القرارات الاقتصادية على أمور غير اقتصادية هو أن التاريخ التكنولوجي يواجه بين الحين والآخر نقاطا فرعية؛ تعرف باسم «التقسيمات»، وهي النقاط التي تتخذ عندها القرارات من بين الحلول المتباينة لمشكلة عامة، وما إن يتخذ أحد القرارات حتى يستقر الحل الفائز في التفكير المعاصر والتاريخي على حد سواء، فينسى العالم تماما أنه كان له بديل.

أشار بيور وسابيل إلى أن التقسيم الصناعي الأول كان الثورة الصناعية نفسها؛ ففي أثناء تلك الثورة تفوق النموذج المتكامل رأسيا للمصانع الضخمة وخطوط الإنتاج عالية التخصص والأيدي العاملة غير الماهرة بوجه عام، على نظام الحرف السائد قبل ذلك والمتمثل في الحرفيين المهرة الذين يديرون ماكينات وأدوات ذات أغراض عامة، بل قضى عليه أيضا. وعلى مدى قرن بعد تلك الفترة اتبعت المؤسسات الصناعية نموذج التسلسل الهرمي، ومثلما ركز الباحثون على نموذج علمي معين، افترض علماء الاقتصاد وقادة الأعمال التجارية وصانعو السياسات ببساطة أنه ما من شكل آخر للمؤسسات يمكن تصوره، واعتبر أن مفاهيم تقسيم العمل والمؤسسة الصناعية والتكامل الرأسي مرتبطة ارتباطا وثيقا بعضها ببعض.

لكن مع أواخر سبعينيات القرن العشرين، شرع العالم في التغير، فبدأ النمو السريع للنظم الاقتصادية الصناعية في العالم لفترة ما بعد الحرب في الوصول إلى حدود طلبات الأسواق الاستهلاكية المحلية، وتطلب المزيد من النمو عملية عولمة ضخمة لكل من الإنتاج والتجارة. في الوقت نفسه تقريبا، وللسبب ذاته جزئيا، بدأ نظام سعر الصرف الثابت الذي نصت عليه اتفاقية بريتون وودز لعام 1944 في الانهيار، وظهرت الصدوع الأولى في جدران الحماية التجارية التي التجأت خلفها الكثير من استراتيجيات التعمير لفترة ما بعد الحرب التي تبنتها الكثير من الدول. وما أدى إلى تفاقم هذه التغيرات الهائلة في الاقتصاد العالمي كان سلسلة من الهزات الاقتصادية والسياسية - أزمتان بتروليتان سريعتا التعاقب، والثورة الإيرانية في عام 1979، ومزيج من البطالة والتضخم المتناميان في الولايات المتحدة وأوروبا - وهي الأمور التي محت جميعها رؤية العالم الصناعي لمستقبل باهر ممتد بلا نهاية. وفي خلال عقد من الزمان صار العالم مكانا أكثر قتامة والتباسا، ولزم على قادة الأعمال التجارية البدء في التفكير خارج إطار المعرفة الاقتصادية التقليدية لكي يتمكنوا من البقاء، ومع أنه كان من الواضح لأي شخص مهتم بمتابعة الأمر أن رخاء ما بعد الحرب قد ولى، فلم يبد أن أحدا قد أدرك أن النظام الاقتصادي القديم نفسه سقط، وأن العالم كان يدخل، في الواقع، التقسيم الصناعي الثاني له.

وهكذا، كان التقسيم الصناعي الثاني في جزء منه تعبيرا عن ضرورة التفكير المستقل بعيدا عن المؤثرات الخارجية، وجزء منه محاولة للتوصل إلى وجهة نظر بديلة أفضل. لم يختف تماما نظام الحرف، الذي أشار إليه بيور وسابيل ؛ فظل قائما في المناطق الصناعية في شمال إيطاليا، بل في بعض الأجزاء من فرنسا وسويسرا والمملكة المتحدة، ويرجع أحد أسباب استمرار هذا النظام في تلك المناطق إلى ما تتمتع به من تاريخ متميز، وشبكات اجتماعية بين نظم الإنتاج التقليدية القائمة على الأسر، والتركيزات الجغرافية للمهارات المتخصصة التي تمثلها، لكن الإنتاج الحرفي استمر أيضا لما يتمتع به هو نفسه من مزايا؛ إذ تفوق في أدائه على اقتصاديات الحجم الكبير المتكاملة رأسيا في الصناعات سريعة التغير التي لا يمكن التنبؤ بها؛ كصناعة الأقمشة التي تعتمد في مكسبها على عالم الأزياء دائم التغير.

لكن الأهم كثيرا من استمرارية نظام الحرف نفسه هو أن السمة الأساسية له، التي أطلق عليها بيور وسابيل اسم «التخصص المرن»، قد تبناها بتمهل عدد وافر من الشركات، حتى في أقوى الصناعات القائمة على اقتصاديات الحجم الكبير. على سبيل المثال، تخلت صناعة الصلب الأمريكية على مدار الثلاثين عاما الماضية عن تقنية أفران صهر المعادن التقليدية لمصلحة المصانع المصغرة الأكثر مرونة والأصغر حجما، ويعد التخصص المرن نقيض التسلسل الهرمي المتكامل رأسيا من حيث استغلاله لاقتصاديات «المجال» بدلا من اقتصاديات الحجم؛ فبدلا من إنفاق كميات كبيرة من رأس المال على منشآت إنتاجية متخصصة تنتج فيما بعد خطا محدودا من المنتجات على نحو سريع ومنخفض التكلفة، يعتمد التخصص المرن على الماكينات ذات الأغراض العامة والعاملين المهرة في إنتاج مجموعة متنوعة من المنتجات على دفعات صغيرة.

تذكر أن عوائد التخصص تنشأ من التكرار الدائم لنطاق محدود من المهام، ولا يكون التكرار ممكنا إلا في حالة عدم تغير المهام نفسها؛ لذا، في البيئات بطيئة التغير، التي تروق فيها المنتجات العامة لعدد كبير من المستهلكين ويكون فيها نطاق الخيارات المتنافسة محدودا، تكون اقتصاديات الحجم الكبير هي الخيار الأمثل، أما في أواخر القرن العشرين، حين اتجه العالم نحو العولمة على نحو متسارع، وعلقت الشركات بين التنبؤات السياسية والاقتصادية المبهمة من جانب، وأذواق المستهلكين متزايدة التفاوت من جانب آخر، اكتسبت اقتصاديات المجال مزية هامة. بعبارة أخرى، رجح كل من الشك والغموض والتغير السريع كفة المرونة والقدرة على التكيف على الحجم الضخم، وعلى مدار عقدين من الزمان منذ أن أوضح سابيل وبيور هذه النقطة للمرة الأولى، لم يزد عالم الأعمال إلا غموضا.

طرحت مؤخرا على تشاك سؤالا عن رأيه بشأن تعطل ظهور الأفكار التي أوضحها في كتابه لمدة عشرين عاما تقريبا منذ تبشيره بها للمرة الأولى. هل ثبت أنه وبيور كانا على حق؟ حسنا، نعم ولا. نعم، لأن هيمنة ما يعرف بالأشكال المؤسسية الحديثة على التسلسلات الهرمية التقليدية المتكاملة رأسيا صارت الآن أمرا غير قابل للنقاش على الإطلاق (خلا في الدوريات الاقتصادية الأكثر تحفظا ربما). ونعم، من حيث الاتفاق بوجه عام على أن السبب وراء هذا التحول هو الزيادة الحادة في الشك، والتغير المرتبط ببيئة العمل العالمية في العقود القليلة الماضية، في الأقسام الرئيسية للاقتصاد القديم، كالأنسجة والصلب والسيارات والبيع بالتجزئة، بالإضافة إلى صناعات الاقتصاد الحديث، المتمثلة في التكنولوجيا الحيوية وأجهزة الكمبيوتر، لكن لسبب ما، وبخاصة على مدار العشر سنين الماضية، رأى تشاك أن حل التخصص المرن الذي اقترحه هو وسابيل كان غير كامل على نحو خطير. (4) الغموض

تتمثل الفكرة القائم عليها التخصص المرن في أن المهام اللازم إنجازها في إحدى الشركات الحديثة - سواء أكانت صناعة سيارة، أم ابتكار قماش جديد لكتالوج الربيع، أم تصميم نظام تشغيل الكمبيوتر التالي - تكون عرضة للتغير السريع وعدم إمكانية التنبؤ بها على الإطلاق. وفي ظل هذه الظروف، بدلا من إغراق كميات كبيرة من رأس المال في منشآت الإنتاج المتخصص، تتبنى الشركة منهج اقتصاد المجال، بحيث تضم فرق عمل منظمة تنظيما مرنا من العاملين ذوي المهارات العالية الذين يمكنهم إعادة مزج مهاراتهم المتخصصة على نحو سريع ومتكرر لإنتاج دفعات صغيرة من مجموعة عريضة متنوعة من السلع. قد تبدو هذه معادلة قوية، وهي كذلك بالفعل، لكنها تخفي نوعا ثانيا من الغموض، وهو نوع ذو طبيعة أعمق جوهريا؛ فالشركات لا تواجه شكا فحسب بشأن المهمة المحددة التي يطالبهم بها السوق الخارجية، بل أيضا لا تكون على يقين بشأن ما يجب عليها فعله لإتمام أي مهمة، أو ما يمكن أن تكون عليه معايير النجاح المكافئة.

يكمن في أعماق هذا اللغز - وهو ما يتضح في جميع نظريات الشركات تقريبا - الافتراض القائل إنه إذا كان إنجاز مهمة معقدة عملية لامركزية تتطلب جهودا منسقة متزامنة يبذلها الكثير من العاملين المتخصصين، يكون تصميمها مركزيا بطريقة ما، ومفروضا إلى حد ما «من أعلى». وما تمكن تشاك من إدراكه على مدار السنوات منذ «التقسيم الصناعي الثاني» هو أن هذا الافتراض ليس سوى وهم مريح، أما في الواقع، عندما تباشر إحدى الشركات مشروعا جديدا كبيرا، فإن المشتركين فيه فعليا لا يعلمون كيف ينفذونه. وفي الصناعات سريعة الحركة بدءا من برامج الكمبيوتر وصولا إلى السيارات، نادرا ما تكون التصميمات نهائية قبل بدء التصنيع نفسه بالفعل، بالإضافة إلى ذلك، لا يتحدد دور الشخص في المخطط الكلي على وجه الدقة مسبقا أبدا، بل يبدأ كل فرد بمفهوم عام حول ما هو مطلوب منه، ويصقل هذا المفهوم عن طريق التفاعل فحسب مع الآخرين ممن يحلون المشكلات (الذين يفعلون، بالطبع، الأمر نفسه). بعبارة أخرى، لا يتمثل الغموض الحقيقي لعمليات الأعمال العصرية في أن البيئة تحتم إعادة التصميم المستمر لعملية الإنتاج، بل أيضا في أن التصميم نفسه، إلى جانب الابتكار واستكشاف الأخطاء وإصلاحها، يعد مهمة واجبة الأداء، ليس فقط في وقت مهمة الإنتاج نفسه، بل أيضا على النحو اللامركزي ذاته.

Bog aan la aqoon