Darajat Sitt
الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك
Noocyada
تعد النظريات الاقتصادية التقليدية لصنع القرار أقل فائدة في هذا الصدد. تذكر أن الاقتصاد هو نقيض السوداوية؛ فهو يدعي أن الناس يتسمون بالأنانية، لكنهم «عقلانيون» أيضا، ومن ثم تخفف المعرفة من وطأة الجشع ولا يكون هناك خوف على الإطلاق، والنتيجة - كما جاء في نبوءة آدم سميث الشهيرة - هي أن العقلانيين، في سعيهم لتحقيق أقصى قدر ممكن من مصالحهم الأنانية، «ستقودهم يد خفية» إلى نتيجة جمعية جيدة، والحكم - الذي يمكن القول إنه لا يقتصر على الحكومة فحسب، بل يشمل أيضا المؤسسات واللوائح والقيود المفروضة من الخارج بكافة صورها - لا يؤدي إلا إلى اضطراب العمل السليم للسوق، ومع أن سميث كان يكتب بوجه خاص عن الاقتصاد السياسي للتجارة الدولية، فإن منطقه طبق بعد ذلك على جميع أشكال الأسواق، بما في ذلك الأسواق المالية التي من الطبيعي ألا يكون بها أي أزمات.
إن القاعدة التي تقوم عليها وجهة النظر المتفائلة هذه هي أنه من منظور التجار، باعتبارهم أفرادا عقلانيين يسعون إلى ما هو أمثل، لا يمكن للفقاعات أن تحدث دون مضاربين مزعزعين يدفعون إليها، ومن المفترض عدم وجود مثل هؤلاء المضاربين المزعزعين. لماذا؟ لأنهم يبيعون ويشترون الأصول ليس وفقا لأي قياس لقيمتها «الحقيقية»، لكن باتباع اتجاهات الأسعار ، فيشترون مع انتعاش السوق ويبيعون مع ركوده، وبناء عليه، يعرف هذا النوع تحديدا من المضاربين عادة ب «متبع الاتجاهات»، على النقيض من «مستثمر القيمة» الذي لا يشتري أي أصل إلا عندما يدرك أن سعره أقل من قيمته (ويبيعه عندما يكون سعره أعلى من قيمته)، وهكذا، إذا ارتفع سعر أحد الأصول عن قيمته الفعلية لسبب ما، فسيندفع متبعو الاتجاهات ويشترونه، ومن ثم سيدفعون في هذا الأصل أكثر مما يستحقه بالفعل، وسيسفر ذلك بلا شك عن رفع السعر بقدر أكبر، وعن طريق بيع الأصل بهذا السعر الأكثر تضخما، يأمل هؤلاء الأفراد في تحقيق ربح ما، لكن، في مقابل كل متبع اتجاهات يبيع لتحقيق ربح ما، يجب أن يوجد شخص آخر يشتري (لأنه ما من مستثمر قيمة سيهتم بالأمر)، ومن ثم سيرتكب خطأ أكبر من سابقه.
وأخيرا، يتحتم أن تكون هناك نهاية لسلسلة الحمقى هذه، وهي المرحلة التي تنخفض فيها الأسعار، ويخسر بعض متبعي الاتجاهات المال. وإذا انخفضت الأسعار بما فيه الكفاية، كأن تصل إلى ما هو أقل من قيمتها الحقيقية، فسيأتي مستثمرو القيمة ثانية ويبدءون في الشراء من جديد، ليجنوا بذلك ربحا على حساب متبعي الاتجاهات. بصرف النظر عن عدد متبعي الاتجاهات الذين يحققون أرباحا، فإن هذه الأرباح لا يمكن جنيها إلا على حساب متبعي اتجاهات آخرين، ومن ثم فإن متبعي الاتجاهات بوجه عام سيخسرون دائما المال ليربحه مستثمرو القيمة، ونظرا لأن التحول النهائي للثروة من متبعي الاتجاهات إلى مستثمري القيمة سمة جوهرية للمضاربة، فما من شخص عقلاني سيختار أن يكون من متبعي الاتجاهات، ومن ثم يتحتم أن تعكس أسعار السوق دائما القيم الحقيقية للأصول المناظرة، وبلغة المال، يجب أن تتسم الأسواق «بالكفاءة» دائما. لكن ماذا إذا كان الناس أغبياء وحسب؟ تحمل النظرية إجابة لهذا الاعتراض أيضا: فحتى إن كان الناس أغبياء، فستدفعهم في النهاية حقيقة خسارتهم للمال إلى الخروج من السوق، على نحو أشبه بالانتخاب الطبيعي الذي تنص عليه نظرية داروين. يحصل مستثمرو القيمة على المال من متبعي الاتجاهات حتى يفلس هؤلاء المتبعون ويرحلوا، وعلى المدى الطويل، لن يتبقى سوى مستثمري القيمة، وينتصر النظام؛ لا مضاربة، لا إفراط في المتاجرة، لا فقاعات.
مع أن الانتصار الحتمي للعقلانية يبدو منطقيا، فإنه في الواقع يكشف عن تناقض في عمل الأسواق المالية؛ فمن ناحية، يكون على المستثمرين العقلانيين تماما في سوق يعمل بكفاءة أن يتفقوا على سعر لكل أصل يعكس على نحو صحيح قيمته الحقيقية، وذلك من خلال استغلال جميع المعلومات المتاحة، ويجب ألا يتخذ أي شخص قرارات بناء فقط على تحركات السعر نفسه، وإن حاول ذلك، فسوف يدفع في النهاية خارج السوق. من ناحية أخرى، إذا تصرف الجميع بعقلانية، فسوف تتبع الأسعار القيم دائما، ومن ثم لن يجني أحد أي أرباح، بما في ذلك مستثمرو القيمة، ولن تكون النتيجة اختفاء الفقاعات فحسب، بل لن تكون هناك أي تجارة أيضا! وثمة إشكالية تحملها هذه النتيجة فيما يتعلق بنظرية الأسواق؛ فبدون تجارة لا يكون أمام الأسواق سبيل لتعديل الأسعار لتصل إلى قيمها «الصحيحة» في المقام الأول.
إذن، ثمة منظور آخر للتعامل مع منطق العقلانية - وهو المنظور الذي يقترحه التاريخ بلا شك - وهو أن هذا المنطق لا ينطبق إلى حد بعيد على أي مما يحدث في الأسواق المالية الواقعية. نعم، يحاول الناس تحقيق أقصى ربح ممكن، ونعم، كثيرا ما يخسر المضاربون المال، وربما يكون صحيحا أيضا أنه على مدار فترات زمنية طويلة بما فيه الكفاية، يخسر جميع المضاربين كل شيء في النهاية، بما في ذلك من يحققون أرباحا مذهلة، فكما هو الحال مع المقامرين في نوادي القمار، قد يربح بعض الناس لفترة من الوقت، لكن في النهاية يكون الرابح الحقيقي الوحيد هو النادي (وهو، بالمناسبة، ما يفسر الاستمرار في بناء مثل هذه النوادي). مع ذلك، يستمر الناس في المضاربة، مثلما يستمرون في المقامرة.
لكن إذا لم يكن البشر عقلانيين تماما بالمعنى الاقتصادي البحت للكلمة، فهم أيضا لا يخضعون بالكامل لمشاعرهم الجامحة، فحتى أكثر المضاربين تحمسا، ينطوي جنونهم على منطق ما، أما بقيتنا، ففي أغلب الوقت نحاول ببساطة تدبر الأمر بتحقيق أقصى فائدة من المواقف التي نمر بها وتجنب المشكلات قدر الإمكان. لا يبدو ذلك مزيجا شديد التقلب، وصراحة هو ليس كذلك معظم الوقت. في الواقع، بينما تستقطب الفقاعات والانهيارات كل الاهتمام، كثيرا ما يكون سلوك الأسواق المالية هادئا للغاية، حتى في مواجهة الأحداث الخارجية، كالتغيرات التي تطرأ على الحكومة والهجمات الإرهابية، التي قد يتوقع المرء أن يكون رد فعل هذه الأسواق مبالغا فيه تجاهها. إذن، الأمر المحير حقا بشأن الأسواق المالية لا يتعلق بما إذا كانت عقلانية أم لا، بل بكونها تتسم بالسمتين معا، أو لا تتسم بأي منهما. في الحالتين، عندما تجتمع أعداد كبيرة من الأشخاص العاديين معا، يتصرفون «معظم» الوقت على نحو عقلاني، لكن ينتهي بهم الحال «بين الحين والآخر» إلى التصرف كالمجانين، والأزمات المالية ليست سوى مثال واحد على السلوك العقلاني المعتاد، لكن غير العقلاني أحيانا، الذي يمكن أن يصدر عن المجموعات والعامة والجماهير، بل المجتمعات ككل. (3) القرارات الجمعية
قبل الشروع في دراسة أصول الأزمات المالية بفترة ليست بالطويلة، كنت أبحث في موضوع آخر أثار اهتمامي، ألا وهو تطور السلوك التعاوني. إن التعاون سمة سلوكية بشرية واسعة الانتشار إلى حد يجعل البعض يعتقد أحيانا (خطأ) أنها أحد العوامل الأساسية التي تميز البشر عن الحيوانات، لكن مصدر السلوك التعاوني غير الإلزامي يمثل في الحقيقة تناقضا عميقا شغل أجيالا من المفكرين، بدءا من الفلاسفة ووصولا لعلماء الأحياء، ويتمثل هذا التناقض، بإيجاز، في التساؤل عن السبب الذي يجعل الأفراد المدفوعين بمصالحهم الشخصية يتصرفون على نحو غير أناني في عالم يكون فيه فعل الصواب أمرا مكلفا، ويجعل الفرد عرضة لاستغلال الآخرين له.
تصور الخروج لتناول العشاء في مطعم لطيف مع مجموعة كبيرة من الأصدقاء بافتراض أنكم في نهاية الليلة ستتقاسمون جميعا قيمة الفاتورة، تحتوي القائمة على مجموعة كبيرة من الخيارات، بدءا من طبق مكرونة رخيص وبسيط، وصولا إلى شريحة لحم باهظة الثمن. إذا طلب الجميع وجبة فاخرة، فستكون ليلة باهظة التكلفة على الجميع، ومن ثم من الطبيعي أن تسدي الجميع معروفا إذا طلبت المكرونة. على الجانب الآخر، إذا اخترت شريحة اللحم، في حين طلب أصدقاؤك المكرونة، فستحظى بوجبة رائعة بنصف الثمن تقريبا، والأهم من ذلك أنك إذا لم تطلب شريحة اللحم، في حين فعل أصدقاؤك ذلك، فستدفع في النهاية قدرا كبيرا من المال في مقابل طبق بسيط من المكرونة. السؤال هنا بالطبع هو: بينما تجلسون في ذلك المطعم تفكرون فيما ستختارونه، إلى أي مدى ستهتم بمتعتك الشخصية في مقابل سعادة أصدقائك؟
مع أن هذه اللعبة قد تبدو طريفة في البداية، فإن أزمة تناول العشاء - كما أسماها عالما الفيزياء برناردو هوبرمان وناتالي جلانس، اللذان قدما ذلك المثال - هي في الواقع نموذج معتاد لما يطلق عليه «المعضلات الاجتماعية». تتعلق المعضلات الاجتماعية، التي تعرف أيضا باسم «ألعاب الصالح العام»، بمنافع جماعية، كخدمات إعادة التدوير أو نظام نقل عام، ويتطلب وجودها عددا ضخما من الأفراد للمساهمة في المنفعة على الرغم من وجود بدائل أسهل أو أكثر ربحا أو أكثر إشباعا للمتطلبات الأنانية (مثل القيادة بدلا من ركوب الحافلة). ولإدراك الصعوبة المتأصلة في المعضلة الاجتماعية، فكر في الضرائب؛ إن وجود خدمات حكومية، كالمستشفيات والطرق والمدارس والمطافئ والشرطة والأسواق جيدة الأداء والمحاكم القانونية، بل سيادة القانون نفسها، كل ذلك يعتمد (في أغلب الدول) على عائدات الضرائب. وبقدر ما قد نشكو من عدم كفاءة الحكومة، لم يتمكن مجتمع قط من أن يحيا لفترة طويلة من الزمن في غياب بعض من هذه الخدمات العامة الرئيسية على الأقل؛ لذا من الواضح أن دفع الضرائب يصب في مصلحة الجميع، ويصل ذلك إلى الحد الذي يصبح فيه عدم دفعها ضربا من الجنون، لكن كما أوضح هوبرمان وجلانس، لا يعد دفع الضرائب في أي من دول العالم عملا تطوعيا.
ألا يمكن الوثوق بنا لفعل هذه الأمور التي من الواضح أنها في مصلحتنا (الجمعية)؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال هي: نعم، لا يمكن الوثوق بنا، وذلك وفقا ل «مأساة المشاع»، وهي نظرية مؤثرة طرحها العالم السياسي جاريت هاردن في سبعينيات القرن العشرين. لنتخيل قرية على طراز عصر ما قبل الصناعة مقامة حول قطعة من الأرض كبيرة ومركزية ومشتركة تسمى «المشاع»، يستخدم سكان القرية هذه الأرض في الغالب لرعي الأغنام والماشية، التي يجزون أصوافها فيما بعد أو يحلبونها أو يذبحونها للحصول على الغذاء أو تحقيق مكسب ما، ونظرا لأن الأرض «المشاع» لا يملكها أو يحكمها أحد، فمن حق الجميع استخدامها، لكن الأرباح الناتجة عن رعي رأس إضافية من الغنم أو الماشية فيها لا تذهب إلا إلى القروي الذي يملك هذا الحيوان، ومن ثم يكون لدى كل الأشخاص حافز لزيادة عدد قطعانهم من الحيوانات، مما يؤدي إلى تحقيق قدر أكبر من الأرباح دون زيادة النفقات العامة.
Bog aan la aqoon