Darajat Sitt
الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك
Noocyada
كان ميلجرام يعمل بالتدريس آنذاك في جامعة هارفارد، ومن ثم كان من الطبيعي أن يرى منطقة بوسطن الكبرى مركزا للكون. وأي مكان يمكن أن يكون أبعد عنها من نبراسكا؟ ليس فقط جغرافيا، بل أيضا اجتماعيا؛ إذ بدا الغرب الأوسط بعيدا للغاية. وعندما سأل ميلجرام الناس عن عدد الخطوات التي يحتاجها وصول خطاب من مكان لآخر، كان التقدير المعتاد مئات الخطوات، لكن كانت النتيجة ست خطوات وحسب، الأمر الذي كان مفاجئا للغاية حينها، وأدى إلى ظهور عبارة «ست درجات من الانفصال» التي استمد منها جون جوار اسم مسرحيته التي عرضها عام 1990، ونتج عنها عدد من الألعاب المنزلية، ناهيك عن العدد اللانهائي من المحادثات في الحفلات.
شكل 1-2: شبكة متشعبة تامة تعرف الذات فيها 5 أفراد فقط، لكن على بعد درجتين من الانفصال، يمكن أن تعرف 25 فردا، وعلى بعد ثلاث درجات، يصبح العدد 105، وهكذا.
لكن لماذا تحديدا كانت النتيجة التي توصل إليها ميلجرام مفاجئة للغاية؟ إذا كنت ميالا للرياضيات، يمكنك إجراء التجربة الفكرية التالية، بل ربما أيضا رسم صورة مثل تلك الموضحة في الشكل
1-2 . تخيل أن لدي مائة صديق، وكل منهم لديه مائة صديق أيضا، من ثم، على بعد درجة واحدة من الانفصال، أكون على اتصال بمائة فرد، وعلى بعد درجتين يمكنني الوصول إلى ما يساوي حاصل ضرب مائة في مائة؛ أي عشرة آلاف شخص، وعلى بعد ثلاث درجات، أصل إلى نحو مليون شخص، وعلى بعد أربع درجات، يكون العدد حوالي مائة مليون، وتسعة مليارات على بعد خمس درجات. بعبارة أخرى، إذا كان لدى كل شخص في العالم مائة صديق فقط، فعلى بعد ست درجات من الانفصال، يمكنني بسهولة الاتصال بسكان كوكب الأرض جميعا. من الواضح إذن أن العالم صغير بالفعل.
لكن إذا كانت لديك أي ميول اجتماعية، فستتبين على الفور الخطأ الفادح في هذا الاستنتاج؛ فمائة شخص عدد كبير يتعذر التفكير فيه؛ لذا عليك بالتفكير في أقرب عشرة أصدقاء لك واسأل نفسك عن أقرب عشرة أصدقاء لهم، من المحتمل أنك ستجد الكثير من الأصدقاء المشتركين، وهذه الملاحظة تمثل سمة عامة تقريبا، فلا تقتصر على الشبكات الاجتماعية فحسب، بل على الشبكات عموما؛ فهي تعكس ما نعرفه باسم «التجمعات»، وهو ما يعني في الحقيقة أن معظم أصدقاء الأفراد أصدقاء بعضهم لبعض أيضا. في الواقع، الشبكات الاجتماعية تشبه إلى حد بعيد الشكل
1-3 . فنحن لا نميل إلى أن يكون لدينا أصدقاء قدر أن يكون لدينا مجموعات من الأصدقاء، كل منها تشبه تجمعا صغيرا قائما على خبرة أو موقع أو اهتمامات مشتركة، وترتبط بعضها ببعض من خلال التداخلات التي تحدث عندما ينتمي الأفراد الموجودون في إحدى المجموعات إلى مجموعات أخرى أيضا. هذه السمة الخاصة بالشبكات وثيقة الصلة تماما بمسألة العالم الصغير، لأن التجمعات تؤدي إلى التكرار. وبوجه خاص، كلما ازدادت معرفة أصدقائك بعضهم ببعض، قلت أهميتهم لك فيما يتعلق بتوصيل رسالة ما إلى شخص لا تعرفه.
شكل 1-3: تعكس الشبكات الاجتماعية الفعلية تجمعات؛ تمثل ميل شخصين لديهما صديق مشترك لأن يكونا صديقين. لدى الذات هنا ستة أصدقاء، كل منهم صديق لشخص آخر منهم على الأقل.
يتمثل التناقض الذي تتسم به الشبكات الاجتماعية وأوضحته تجربة ميلجرام في أنه، من ناحية، يعد العالم كثير التجمعات، بمعنى أن الكثير من الأصدقاء أصدقاء بعضهم لبعض أيضا. لكن من ناحية أخرى، لا يزال بإمكاننا الوصول إلى أي شخص من خلال بضع خطوات قليلة فحسب. ومع أن فرضية ميلجرام عن العالم الصغير لم تصادف اعتراضا لما يزيد عن ثلاثة عقود، فإنها لا تزال مثيرة للدهشة حتى يومنا هذا. تقول أويزا في مسرحية جون جوار: «كل فرد على هذا الكوكب يفصل بينه وبين أي شخص آخر ستة أشخاص فقط؛ ست درجات من الانفصال بيننا وبين أي شخص آخر على سطح هذا الكوكب؛ سواء أكان رئيس الولايات المتحدة، أم سائق جندول في البندقية ... لا يقتصر الأمر على الشخصيات الهامة فحسب، بل ينطبق على أي شخص ... أحد السكان المحليين لغابة مطيرة أو في منطقة الإسكيمو. إنني مرتبطة بكل شخص على هذا الكوكب بسلسلة مكونة من ستة أشخاص. إنها فكرة عميقة.»
إنها فكرة عميقة بالفعل، لكن إذا كنا لا نفكر إلا في مجموعة فرعية محددة من الناس بيننا وبينهم شيء واضح مشترك، فيمكن من ناحية أخرى أن نعتقد أن النتيجة ليست غريبة. على سبيل المثال، إنني أعمل بالتدريس في إحدى الجامعات، ونظرا لأن مجتمع الجامعة يتكون من عدد صغير نسبيا من الأشخاص، أكثرهم يشتركون في أمور كثيرة، فمن السهل نسبيا علي أن أتخيل كيف يمكنني نقل رسالة عبر سلسلة من الزملاء إلى أي أستاذ جامعي آخر بأي مكان في العالم، وبالحجة نفسها، يمكنك الاقتناع بأنه يمكنني توصيل رسالة إلى معظم المهنيين خريجي الجامعات في منطقة نيويورك، لكن هذه ليست في الحقيقة ظاهرة العالم الصغير، بل إنها أشبه بظاهرة المجموعة الصغيرة، فمسألة ظاهرة العالم الصغير أعمق بكثير من ذلك؛ فهي تنص على أن بإمكاني توصيل رسالة لأي شخص، حتى إن لم يكن بيننا أي شيء مشترك على الإطلاق. يبدو الأمر أقل وضوحا الآن؛ ربما لأن المجتمع البشري مبتلى بالكثير من التصدعات التي يسببها اختلاف العرق والطبقة الاجتماعية والدين والجنسية.
على مدى ثلاثين عاما أو أكثر، وبينما كانت ظاهرة العالم الصغير تتطور لتتحول من تخمين اجتماعي منطقي إلى جزء من الثقافة الشعبية، ظلت الطبيعة الفعلية للعالم قيد البحث، وظلت المفارقة الكامنة في جوهرها - المتمثلة في فكرة أن من يبدون بعيدين تماما يمكن أن يكونوا قريبين فعليا - كما هي بالضبط؛ مفارقة. لكن شهدت الأعوام القليلة الماضية ثورة في البحث النظري والتجريبي، أغلبه من خارج علم الاجتماع، الذي لم يساعد فقط في حل ظاهرة العالم الصغير، بل أشار أيضا إلى أن هذه الظاهرة أعم مما يمكن لأي أحد تخيله. وإعادة الاكتشاف هذه لظاهرة العالم الصغير، التي اقتصرت معرفتها فترة طويلة على علماء الاجتماع فحسب، أدت إلى مجموعة أكبر من الأسئلة عن الشبكات ترتبط بمجموعة كاملة من التطبيقات في العلوم والأعمال والحياة اليومية.
Bog aan la aqoon