Darajat Sitt
الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك
Noocyada
وأخيرا، يثبت لنا علم الشبكات أنه علم جديد بالفعل، وليس فرعا من أي فرع علمي تقليدي، بل هو علم يتجاوز الحدود الفكرية ويستمد أفكاره من العديد من فروع المعرفة في آن واحد، فكما رأينا من قبل، تمهد الرياضيات التي يستخدمها الفيزيائيون طرقا جديدة في أرض لم يسبق اكتشافها من قبل، ويمثل كل من النمو العشوائي ونظرية التخلل والتحولات الطورية والشمولية أشياء معتادة للفيزيائيين، وقد عثروا على مجموعة كبيرة مثيرة للاهتمام من المشكلات في الشبكات، لكن دون خرائط علم الاجتماع والاقتصاد، وحتى الأحياء، التي ترشدهم، ليس بوسع هؤلاء العلماء تمهيد الطرق لأي مكان على الإطلاق. الشبكات الاجتماعية ليست شبيكات منتظمة، ولا يمكن لكل شيء أن يكون عديم المعيار، وقد ينجح أحد أنواع التخلل مع بعض المشكلات، لكنه لا ينجح مع مشكلات أخرى. وتبنى بعض الشبكات على صورة هرمية، في حين لا تكون أخرى كذلك، ويكون سلوك النظام، في بعض النواحي، مستقلا عن التفاصيل الدقيقة للنظام، لكن هناك من التفاصيل ما يحمل أهمية. هناك الكثير من النماذج البسيطة التي يمكننا ابتكارها لفهم سلوك أي نظام معقد، لكن تكمن الفكرة في اختيار النموذج الصحيح. يتطلب ذلك منا التفكير بعناية في جوهر الموضوع الحقيقي، وأن نعرف عنه شيئا ما.
إن الإسهاب في التأكيد على هذه الفكرة والزعم أن كل شيء يمثل شبكة عالم صغير أو شبكة عديمة المعيار لا يعد إفراطا في تبسيط الحقيقة فحسب، بل يمكن أن يضلل المرء ليظن أن مجموعة واحدة من الخصائص تنطبق على المشكلات كافة، لكن إذا أردنا فهم العصر المتشابك على نحو بعيد عن السطحية، علينا إدراك أن الفئات المختلفة للنظم المتصلة بشبكات تتطلب منا استكشاف أنواع مختلفة من سمات الشبكات. قد يكفي، في بعض الحالات، إدراك أن أي شبكة تتضمن طريقا قصيرا يصل بين أي فردين، أو أن بعض الأفراد متصلون على نحو أكبر بكثير من آخرين، لكن في حالات أخرى، ما قد يهم هو هل الأفراد أنفسهم يمكنهم العثور على المسارات القصيرة أم لا. قد يكون من المهم للأفراد، إلى جانب اتصالهم عبر المسارات القصيرة، أن يندمجوا في تكتلات معززة محليا، أو ألا يندمجوا اندماجا كبيرا. قد يكون وجود هوية فردية أمرا مهما في بعض الأحيان لفهم سمات إحدى الشبكات، في حين قد لا يكون كذلك في أحيان أخرى، وقد يكون التمتع باتصال قوي مهما في ظروف بعينها، وقد تكون له تبعات قليلة في ظروف أخرى، وفي بعض الحالات قد يكون له نتائج عكسية، وهو ما يؤدي إلى الفشل أو يزيد من تفاقم حالات الفشل التي تحدث طبيعيا. ومن شأن التصنيف المفيد للشبكات، شأنه شأن تصنيف الحياة، أن يمكننا من توحيد الكثير من النظم المختلفة والتمييز بينها، حسب الأسئلة المحددة التي نطرحها.
وهكذا، يتطلب تأسيس علم الشبكات دفعة منسقة قوية من جميع فروع المعرفة، بل وحتى المهن، الأمر الذي يفرض صراعا ما بين التعقيد الرياضي لعالم الفيزياء، وبصيرة عالم الاجتماع، وخبرة رائد الأعمال. إنها مهمة ضخمة، وأعترف أنها تبدو مستعصية أحيانا؛ فنحن نكد طويلا ولا نتوصل إلا إلى أقل القليل، ومن المغري الاعتقاد بأن العصر المتشابك شديد التعقيد لدرجة تحول دون فهمه بأي طريقة علمية منهجية. ربما، مع كل ما نبذله من أقصى الجهود الممكنة، نضطر في النهاية إلى الاكتفاء بملاحظة لعبة الحياة المبهمة صعبة المراس، والاستيقاظ كل صباح ومشاهدة ما يحدث وحسب، لكن ما من أحد أصابه اليأس بعد.
قد يكون أكثر جوانب العلم إلهاما أن طبيعته نفسها تفرض طرح أسئلة لم يجب عنها بعد، ومن هذا المنطلق، يعد العلم نشاطا متفائلا بشكل أساسي، فلا يؤمن العلماء دائما بإمكانية فهم العالم فحسب، بل أيضا لا تردعهم القيود المفروضة على ما يمكنهم فعله، لكن وراء كل مشكلة - مهما بلغت من الصعوبة - مشكلة أخرى أصعب، ولا يكتمل أبدا أي مستوى للفهم؛ فكل مرض يعالج يعقبه مرض آخر، ولكل اختراع تبعاته غير المقصودة، وكل ما تسفر عنه أي نظرية ناجحة هو رفع معايير التفسير لدينا فحسب. في أيام الشدة يشعر كل عالم أنه مثل سيزيف الذي يدفع بحجره أعلى التل بلا نهاية، ليبدأ من جديد من قاعدة التل في اليوم التالي، لكن سيزيف واصل المسير، وهذا هو الحال أيضا مع العلم؛ فنحن نستمر في كفاحنا، حتى لو بدا الأمر ميئوسا منه، وسبب ذلك أننا نجد في الكفاح، كما هو الحال مع معظم الطموحات البشرية، قيمة أنفسنا.
بالإضافة إلى ذلك، إن ما تبدو عليه ألغاز العصر المتشابك من استعصاء على الفهم لا يعني بالضرورة أنها مستحيلة الفهم بالفعل، فقبل كوبرنيكوس وجاليليو وكبلر ونيوتن، كان ينظر إلى حركات الأجسام السماوية على أنها لا يعلمها سوى الرب وحده، وقبل أن يطلق الأخوان رايت أول طائرة لهما في مدينة كيتي هوك، لم يكن مقدرا للإنسان أن يطير، وقبل أن يتمكن متسلق يدعى وارين هاردنج من تسلق السطح الجرانيتي لصخرة الكابيتان البالغ ارتفاعها ثلاثة آلاف متر بشق الأنفس، لم يكن من المعتقد أنه يمكن لأي إنسان تسلقها. في كل مسعى من مساعي البشر، يوجد دائما ما هو مستحيل، وفي كل مسعى يوجد من يحاولون قهر المستحيل. في أغلب الأوقات يفشلون، ويظل المستحيل كما هو؛ مستحيلا، لكن أحيانا ينجحون، ومع كل قفزة من هذا النوع ننتقل جميعا إلى المستوى التالي في اللعبة الكبرى.
ليس العلم بالمجال الذي يشتهر بأبطاله؛ فما من شيء باهر بشأن ما يفعله العالم كل يوم؛ بكل صراحة، ليس هناك ما يصلح لأن يعرض على شاشة التليفزيون، بيد أن العلماء يتحدون المستحيل كل يوم، في محاولة جاهدة منهم لفهم الأجزاء غير المفهومة من العالم، سواء في الوقت الحالي أو الماضي. وعلم الشبكات ليس سوى مناوشة واحدة وسط هذا القدر الكبير من الصراع، لكنها مناوشة تلفت إليها أنظار المجتمع العلمي على نحو متسارع. وبعد أكثر من خمسين عاما على إطلاق رابوبورت وإيردوس الشرارة الأولى، يبدو أن الأمور أصبحت تسير في مصلحتنا، أو كما ورد على لسان ونستون تشرشل بعد معركة العلمين في عام 1942: «هذه ليست النهاية، بل إنها ليست حتى بداية النهاية، لكن لعلها تكون نهاية البداية.»
الفصل الحادي عشر
العالم يتضاءل: عام آخر في العصر المتشابك
قد تبدو كتابة فصل جديد لكتاب لم يمر على نشره عام واحد أمرا مستغربا، لكن الوقت يمر سريعا في عالم الشبكات، وقد شهدت الشهور الاثنا عشر الماضية أحداثا عظاما، سواء على المستوى العلمي أو العالم الواقعي، تواصل تذكيرنا بمدى اتصال بعضنا ببعض. لقد كان عام 2003، في الواقع، خير تمثيل للعصر المتصل، وسأتناول فيما يلي بعض النقاط المهمة عن هذا الموضوع.
انتقل فيروس الالتهاب الرئوي اللانمطي الحاد (سارس)، بعد ظهوره للمرة الأولى في مقاطعة جوانجدونج بجنوب الصين في نوفمبر عام 2002، إلى عدد من دول العالم، ليتفشى في هونج كونج، ثم في سنغافورة وتايوان وفيتنام، بل كندا أيضا، ونظرا لأن فيروس سارس شديد العدوى - إذ ينتقل عبر الرذاذ المحمول في الهواء الذي يمكن استنشاقه على نحو مباشر أو غير مباشر عن طريق الاتصال بالأجسام أو الأسطح - ومهلك أيضا على نحو مذهل (حوالي 10 بالمائة ممن يصابون به يلقون حتفهم)، حمل هذا الفيروس في البداية جميع سمات الوباء العالمي، ليذكر كثيرين بوباء الإنفلونزا الذي تفشى في عام 1918 وتسبب في مقتل ما يزيد عن 20 مليون شخص في العالم، لكن لحسن الحظ، أدت التحذيرات القوية المبكرة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية وما تلاها من تعاون (وإن كان على مضض أحيانا) بين الدول المصابة بالفيروس إلى السيطرة على الوباء ليقتصر عدد الحالات المصابة على ثمانية آلاف حالة في العالم وأقل من ثمانمائة حالة وفاة، لكن كان من اليسير أن يكون الحال أسوأ من ذلك بكثير؛ فنظرا لأن كل حالة تفشي لم تتطلب سوى فرد واحد مصاب، كان من الممكن أن يتسبب تسرب عدد قليل من الأفراد من شبكات الحجر الصحي التي أقيمت سريعا إلى التسبب في الآلاف، وربما الملايين، من حالات الوفاة الناتجة عن فيروس سارس، ومع اقتراب فصل الشتاء بنصف الكرة الأرضية الشمالي، يظل التهديد بظهور حالات تفشي جديدة قائما.
Bog aan la aqoon