العالمين: ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾. فإنّه نظر إلى لطافة النار وتصاعدها وإشراقها، وغفل عن طيشها وشرّها وإحراقها. ونظر إلى ثقل الطين وهبوطه وكثافته، وغفل عن ثباته عن الطيش ورزانته. فلا جرم، عاد كلٌّ منهما إلى طبيعته: إبليس إلى كِبره وافتتانه، وآدمُ إلى حِلمه وثباته. فصار إبليس شقيًّا لعينًا طريدًا، وآدم متدارَكًا بالرحمة سعيدًا.
ثم وقعت فيها الملائكةُ مَرَّةً ثانيةً: حيث عابوا على بتي آدم معاصيهم، ولم ينظروا في النفوس والشهوات الآخذة بنواصيهم. وقالوا: " ربنا لو كلَّفتنا بما كلَّفتهم، لَمَا عصيناك؛ ولكنّا بالطاعة قد أرضيناك". فركَّب الباري سبحانه فيهم الشهوات ساعةً من نهارٍ، فاستقاموا، وطلبوا الفرارَ. وقامت لبني آدم عندهم واضحاتُ الأعذار. فأخذوا في الدعاء لهم والاستغفار. إلَّا هاروت وماروت، أقدما على كِبْر الامتحان. فكانا ممَّن آنَ هلاكهُ، فحانَ.
ثم تتابع بنو آدم في التحسين والتقبيح. فما منهم إلا مَن هو للشيطان ذبيحٌ أو جريحٌ. فمنهم مَن عَبد الفَلك لارتفاعه وعمومه وإشراق دَراريّه ونجومه. ومنهم مَن عَبد الشمس وإشراق أنوارها. ومنهم مَن عَبد ما استَحسن، فأساء وما أحسنَ. فإذن، مدارُ كثيرٍ من الضلالات على الأصل المذكور منذ خُلِق آدمُ، وحتى يُنفخ في الصور.
وكان أشدّ الناس اعتمادًا عليه أهلُ الفلسفة والاعتزال؛ فتزلزلت قواعدهُم أعظم الزلزال. وغالبُ مذهبهم مبنيٌّ عليه، آي عند التحقيق إليه. وقد وضعتُ هذا الكتاب لأبيّن فيه فسادَ ذلك الأصل، وما بُني عليه من الأصول، وأنّ لا حاصل له ولا محصولٌ. وبتوفيق الله أتكلَّم وأقول، وبقوَّته أُجاولِ وأصول، وبفضله أرجو الوصولَ إلى مقام القبول، إنه هو البرّ الوَصول.
وفيه مسائل.
1 / 68