الدليل الصغير
Bogga 257
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو محمد الحسن بن القاسم رضي الله عنه :
سألت أبي رضي الله عنه عن الحجة على من ألحد في الله تمردا ، وجهل المعرفة بالله حيرة وتلددا ، فظن أنه موقن بمعرفة رب الأرباب ، وهو من ظنه لذلك في مرية وحيرة وارتياب ، فكثير أولئك ، ومن هو كذلك ، وإن هو لم يظهر ما في قلبه ، من الحيرة والجهل بربه ، جل جلاله وسلطانه ، وظهر دليل الإيقان به وبرهانه؟!
فقال : إنما يستدل يا بني : على إيقان الموقنين ، بمعرفة رب العالمين ، بطاعتهم لله وتقواهم ، فبهما يعرف يقينهم بالله وهداهم.
ولذلك يا بني وفيه ، من الدلائل عليه ، قول الله سبحانه (لرسوله ، صلى الله عليه وآله : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) [التوبة : 105]. وقوله سبحانه :) (1) ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون (15)) [الحجرات : 15]. وقوله سبحانه : ( إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون ) (16) [السجدة : 15 16]. وآياته سبحانه فهي وحيه وتنزيله ، وشواهد الإيقان به ودليله ، والإيمان فمن الإيقان ، وهو الأمان من كبائر العصيان. وأكبر الكبائر عند الله ، وعند الصالحين من خلق الله ، فهو الإنكار لله ، والإلحاد في الله ، والارتياب في معرفة الله.
وفي ارتياب المرتابين ، وصفة الله للمؤمنين ، ما يقول أرحم الراحمين : ( لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين (44) إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ) (45) [التوبة : 44 45].
وفي الحيرة والمرية والشك والارتياب ، ما يقول سبحانه لأهل إضاعة طاعته والغفلة
Bogga 259
والتقصير والألعاب (1): ( رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (7) لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين (8) بل هم في شك يلعبون ) (9) [الدخان: 7 9]. فأخبر (2) تبارك وتعالى بلعبهم ، عن شكهم في ربهم ، ودل بذلك على أن من اشتغل عن طاعة الله بلعبه ، فليس من الموقنين مع ذلك بالمعرفة بالله ربه.
[التفكير طريق المعرفة بالله]
وفي قلة اليقين بالغيب ، وما يعرض للجاهلين فيه من الريب ، ما يقول الله سبحانه فيما قص من نبإ (3) قوم نوح وعاد وثمود وآدم وقوم لوط وأصحاب الأيكة ، وما أحل بهم بعد ما أراهم من الآيات والدلالات البينات من التدمير والهلكة ، ( إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين (190) وإن ربك لهو العزيز الرحيم ) (191) [الشعراء : 190 191]. ففي كل ما قص الله من ذلك لمن يعقل فيوقن بيان من الله فيما ذكرنا من قلة اليقين وتعريف وتفهيم ، واليقين بالغيب فإنما يكون ، بما يدركه (4) الفكر لا بما تدركه العيون ، فمن لم يفكر بقلبه فيما غاب عنه ، لم يؤمن أبدا بشيء منه.
والآية في كل ما كانت من الأشياء فيه ، فهي الدلالة البينة المستدل بها عليه ، ومن استدل بالآيات على ما غاب صح له به (5) يقينه ، وإن لم يره ولم يبصره لغيبته عنه ، وكان أصح عنده صحة ، وأوضح له ضحة (6)، من كل ما وضح من الأمور كلها فاستنار ، وأيقن به كما يوقن بالليل (7) والنهار ، بل كان أصح عنده في الإيقان ، من كل ما أدركه برؤية أو عيان ، لفضل درك اليقين ، على درك الرؤية والعين ، ومن لم
Bogga 260
يفكر ، لم يؤمن ولم يبصر ، وإنما يوقن من فكر ، ويبصر من نظر ، كما قال سبحانه: ( أولم يتفكروا ) [الأعراف : 184 ، الروم : 8]. ( أولم ينظروا ) [الأعراف : 185]. ( أولم يروا ) [النحل : 48]. تنبيها من الله بذلك كله لهم على أن يوقنوا فلا يمتروا ، فيما عرفهم الله سبحانه من نفسه بآياته ، ودلهم على معرفته من غيب أموره بدلالاته ، فليس يوصل إلى معرفته واليقين به ، وما احتجب عن (1) العباد من غيبه ، إلا بما جعل من (2) الدلالات ، وأرى من الآيات ، كما قال سبحانه : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53) ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ) (54) [فصلت : 53 54]. ولقاؤهم لربهم فهو مصيرهم ومرجعهم إليه ، وليس بلقاء رؤية ولا عيان ولا يمكن شيء من ذلك فيه (3)، لبعده سبحانه في ذلك وغيره من مماثلة الناس وغير الناس ، وبقدسه وتعاليه عن أن ينال أو يدرك بحاسة من الحواس ، وإنما تدرك معرفته وتنال له القدس والكبرياء والجلال بما بين من الدلائل والآيات لقوم يعقلون ، كما قال سبحانه : ( قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) [البقرة : 118]. فليس بعد تبيين الله بيان ، يكون به معرفة ولا إيقان.
والحمد لله على ما بين من آياته ، وأوضح من دلالاته (4)، ونستعين بالله على اليقين بمعرفته ، ونعوذ بالله من الإلحاد في صفته.
وفي مدحة الله سبحانه للأبرار ، بما آمنوا به مما غاب عن الأبصار ، واستدلوا عليه بالنظر والأفكار ، عن (5) غيب المعرفة بالله وإيقانه ، وما لا يدرك أبدا من الله برؤيته جهرا (6) ولا عيانه ، وما لا يصاب فيه أبدا حقيقة العلم واليقين ، إلا بما جعل الله عليه
Bogga 261
من الشواهد والدليل المبين ، هو أحق حقيقة ، وأوثق وثيقة ، وأثبت يقينا ، وأنور تبيينا ، من كل معاينة كانت أو تكون أو رؤية ، أو درك حاسة ضعيفة أو قوية ، ما يقول الله سبحانه : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2) الذين يؤمنون بالغيب ) [البقرة: 2 3]. تبرئة من الله لهم فيما غاب عنهم في جميع أموره من كل شك وريب.
[استدلال إبراهيم على وجود الله]
وفي الاستدلال على الله ، بما يرى ويبين (1) من آيات الله ، ما يقول أبوك إبراهيم خليل الله : ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا ) [الأنعام : 74] ، احتجاجا على قومه في غيبه (2) بما يرون من فطرة الله في سماواته وأرضه وتوقيفا. ويقول صلى الله عليه : ( قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون (75) أنتم وآباؤكم الأقدمون (76) فإنهم عدو لي إلا رب العالمين (77) الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين ) (81) [الشعراء : 75 81]. فكل ما ذكر صلى الله عليه وعدد من خلق الله له وهداه ، وإطعام الله له وسقيه إياه ، وإبراء الله له من مرضه وشفائه ، وإماتة الله له وإحيائه ، فبدائع موجودة ، وأفعال بينة معدودة ، لا ينكر موجودها ، ولا يجهل معدودها ، من المدركين (3) لها من أحد ، ألحد فيها أو لم يلحد ، وإنما ينكر من أنكر صنعها ، ويجهل من جهل بدعها ، فأما (4) العدد لها والوجود ، فبين فيها محدود ، لا ينكره منكر ، ولا يتحير فيه متحير.
وكل ذي عدد ، وكل ما حد بحد ، فالدليل على صنعه تعديده ، وعلى أنه محدث
Bogga 262
تجديده ، وإذ (1) كان ذلك كذلك وجد الصانع المبدع عند وجوده ، والمحدد له المحدث بما بان فيه من حدوده ، لأنه لا يكون أبدا حدث إلا من محدث موجود ، ولا يكون حد (2) أبدا إلا من مفرق محدود ، كما قد رأينا في ذوات الحدود ، من كل مفترق موجود ، لا يمتنع من درك ذلك ويقينه وعلمه (3)، إلا من كان مكابرا فيه لحسه ووهمه.
وإنما أراد إبراهيم صلى الله عليه بما عدد من ذلك وذكر ، ما ابتدع من ذلك كله وصنع وافتطر ، مما لا صنع فيه لصانع مع الله ، وما لم يوجد شيء فيه قط إلا من الله ، فأما ما يصنع العباد بعد صنع الله من أخذ وعطاء ، وما يدور في ذلك بينهم من الأشياء ، فلم يرده إبراهيم صلى الله عليه ، ولم يعدده ولم يذهب إليه ، وكل ما كان من العباد في ذلك من الصنائع ، فغير صنع الله في الابتداء والبدائع ، صنع الله سبحانه فابتداع ، وصنع العباد فاحتيال (4) واصطناع ، وصنع الصانع ، غير صنع الطبائع ، صنع الطبائع (5) صنيعة مبتدعة مطبوعة ، وصنع الصانع فصنيعة معتملة مصنوعة ، والصنعة لا تكون إلا في مصنوع ، والطبيعة لا تكون إلا في مبدوع ، فما طبع من غير شيء ، وكان من غير أصل ولا بدي ، وذلك كله وأمثاله ، فما لا يصنعه إلا الله جل جلاله ، ولا يدركه أبدا ولا يناله ، صنع الخلق ولا احتياله.
ولو كان ما صنع وابتدع تبارك وتعالى ، من ذلك من (6) الأرضين والسماوات العلى ، وجعل من الليل والنهار ، وما مزج بقدرته من البحار ، وما أرسى من الجبال ، صنع أكف واحتيال إذا لما قدر بذلك على صنع أقله ، فضلا عن صنع جميعه وكله ، في وقت من الأوقات وإن طال أبدا ، بل إن كان الوقت منه ممتدا سرمدا (7)، ولكنه
Bogga 263
تبارك وتعالى صنعه وأنشأه ، فابتدعه كله وفطره فطرة واحدة فبراه (1)، كما قال سبحانه : ( بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) (117) [البقرة : 117]. ( فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) (11) [الشورى : 11]. وفي أقل ما ذكر الله من ذلك وجعل ، لمن فكر ونظر فاستدل (2)، دليل مبين ، وعلم يقين.
وأي دليل على الله؟! وعلى اليقين بالله؟! من افتطار الله للسماوات والأرض ، وما جعل منا ومن الأنعام أزواجا بعضها لبعض ، فجعل سبحانه ما ذكر من الأزواج أصولا ، أنسل منها بقدرته نسولا ، لا يحصيها أبدا غيره ، ولا يمكن فيها إلا تدبيره ، فأي دليل أدل؟ لمن فكر فاستدل ، على اليقين بالله؟! مما (3) يراه عيانا من صنع الله ، للأزواج المجعولة المحدثة ، وما خولف به في ذلك بينها من الذكورة والأنوثة ، فجعل ذكور الأزواج غير إناثها ، دلالة بذلك على جعلها وإحداثها ، وكان ما (4) عوين بعدها من ذرو نسلها وتكثيره ، دليلا على حكمة صانعها وتدبيره ، وآية أبانها منيرة مضية ، ودلالة بينة جلية ، لمن فكر ونظر فأحسن بقلبه ، على الله خالقه وربه ، فأيقن لفكره فيما يراه ببصره ، وما يدركه بمشاعره بالله (5) مقدره ومدبره ، فظفر باليقين والهدى ، وسلم من الحيرة والردى ، فاستراح ووثق واطمأن ، واعتقد المعرفة بالله وأيقن ، فخرج (6) بيقينه من الظلمة والمرية والشك (7)، إذا أيقن بالله مليك كل ذي ملك.
وفي مثل ذلك من الخلق والإحداث ، لما ذكر الله من صنعه للذكور والإناث ، ما
Bogga 264
يقول سبحانه : ( لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور (49) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما ) [الشورى : 49 50]. فملك جميعهما ، وما يرى من بديعهما (1)، فمعاين موجود لا يخفى ولا يتوارى ، عن كل من يعقل ويبصر فيرى ، وكل ملك صح دركه رؤية وإيقانا ، فلا بد من درك مالكه باليقين وإن لم ير جهرة عيانا. وكل مفترق في الخلقة والصنع والفطور ، مما ذكر سبحانه من الإناث والذكور ، فوجد كما وجد (2) افتراقه ، وبان فطرة صنعه وفطرته واختلاقه ، فلا بد له اضطرارا ، إذ وجد كذلك (3) جهارا ، من مميز فارق ، ومفتطر خالق ، لا يشك في ذلك ولا يجهله ، إلا من لا عقل له.
فلخلق الله تبارك وتعالى لما شاء ، فرق بين ما خلق من الذكور والإناث وأنشأ ، فوهب لمن يشاء إناثا ووهب لمن شاء ذكورا ، وجعل كلا على حياله خلقا مفطورا ، غير مشبه بعضه لبعض ، كما السماء غير مشبهة للأرض ، ووهب لمن شاء ذكورا وإناثا معا ، فجمع ذلك له بموهبته فيه جميعا ، وجعل من شاء من الرجال والنساء عقيما لا يلد ولدا ، ولا يكون (4) منه ولد أبدا ، إلا بعد تبديله الإعقام وتغييره ، وبحادث (5) يحدثه في ذلك من صنعه وتدبيره ، (6) كما فعل سبحانه في امرأة زكريا ، وما وهب لهما (7) من يحيى ، صلى الله عليهما وعليه ، وما من به عليهما من ذلك وفيه. وما وهب لإبراهيم صلى الله عليه من الولد بعد يأسه منه ، وكبره صلى الله عليه عنه (8)، وفي ذلك ما يقول عليه السلام ذكرا ، وحمدا وشكرا ، بما وهب له تبارك وتعالى ، في ذلك من الموهبة والنعماء : ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي
Bogga 265
لسميع الدعاء (39)) [إبراهيم : 39].
وفي محاجة الملك ، بالمكابرة والإفك ، لإبراهيم (1) خليل الله ، إذ يقول عليه صلوات الله (2): ( ربي الذي يحيي ويميت ) فقال الملك بالمكابرة والكذب : ( قال أنا أحيي وأميت ) [البقرة : 258]. وإنما قال إبراهيم عليه السلام من ذلك صدقا ، ونطق به (3) في محاجته للملك بما نطق حقا ، لا شك فيه ولا مرية ، ولا شبهة ولا ظلمة مغشية ، لأنه لما وجدت الحياة يقينا والموت ، وجد بوجودها اضطرارا المحيي (4) المميت. ولما لم يجد الملك صاغرا لليقين بهما والاضطرار سبيلا لنفسه بحدثهما إلا المكابرة فيهما والإنكار ، (5) كابر لدادا ، ومباهتة وجحادا ، فقال : ( أنا أحيي وأميت ). وكيف يكون محييا أو مميتا ، من لا يملك لنفسه حياة ولا موتا؟!
وفي مثل ذلك ، ومن كان كذلك ، ما يقول الله سبحانه : ( واتخذوا من دونه آلهة ) [الفرقان : 3]. وفيما اتخذوا (6) من تلك الآلهة الملائكة المقربون ، وعيسى بن مريم عليه السلام وما كان من آلهتهم يعبدون ، فقال تعالى : ( آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ) (3) [الفرقان : 3]. فلما كابر الملك إبراهيم عليه السلام من قوله بما كابره به مباهتة وإفكا وزورا ، (7) فقال صلوات الله عليه ورضوانه : ( فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر ) [البقرة : 257].
وتأويل بهت هو : صمت وسكت عن الإفك والمباهتة والجحود ، إذ قرره صلى
Bogga 266
الله عليه بأمر معاين موجود ، لا ينكره إلا بمكابرة فاحشة عقل الملك ولا عقل غيره ، لما فيه من بين أثر تدبير الله وتقديره ، من تدليل (1) الملك والتسخير ، من دءوب (2) التحرك والمسير ، جيئة وذهوبا ، وطلعة وغروبا ، فهي طالعة وغائبة لا تقصر ، وجائية (3) وذاهبة لا تفتر ، مختلفا (4) بها ما جعل الله من الليل والنهار ، وما قدر (5) بمسيرها من الأوقات والأقدار ، وبما بان من ذلك وأنار لكل أحد ، بهت الذي كفر فلم يكابر ولم يجحد.
[استدلال موسى على وجود الله]
وكذلك قال موسى عليه السلام إذ قال لفرعون ، حين قال له ولأخيه هارون : ( فمن ربكما يا موسى (49) قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى (50)) [طه : 49 50] ، فدله صلى الله عليه على ربهما بأدل دلائل الهدى ، من عطائه سبحانه لخلقه من نعمه ما أعطاهم ، وما من به جل ثناؤه من هداهم ، لكل رشد (6) في دينهم ودنياهم.
وفيما ذكر موسى صلى الله عليه من عطية الله لخلقه ، ما أعطاهم من هداه لهم ورزقه ، ما يقول سبحانه : ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ) [البقرة : 29]. ويقول سبحانه : ( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (13) [الجاثية : 13]. وفي هدايته لهم ما يقول سبحانه : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ) (78) [النحل : 78]. ولفرعون ما
Bogga 267
يقول موسى عليه السلام إذ ( قال فرعون وما رب العالمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين (24)) [الشعراء : 23 24]. فلما أن قال له ذلك : ( قال لمن حوله ألا تستمعون (25)) [الشعراء : 25]؟! يريد ما تقولون؟ فقالوا لموسى ما قال ، وسألوه عما سال ، (1) فقال عليه السلام رب العالمين : ( ربكم ورب آبائكم الأولين ) (26) [الشعراء : 26] ، دلالة لهم على أن الله ربهم ورب آبائهم الأولين ، بما بين (2) لهم ولغيرهم من تدبيرهم وإنشائهم ، الذي لا يمتنعون (3) من وجوده في أنفسهم ، وفي كل عضو من (4) أعضائهم ، بالنشأة البينة فيهم والتقدير ، والهيئة الظاهرة عليهم والتصوير ، فلما قطعه وقطعهم ، من حجة الله بما أسمعه (5) وأسمعهم ، خرج فرعون في المسألة والمجادلة ، إلى غير ما كان فيه من الجدال والمقاولة ، فقال العمي الملعون : ( إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ) (27) [الشعراء : 27]. فرد عليه موسى عليه السلام قوله ، بتبيين الحجة القاطعة له ، فقال له ولمن حوله كلهم أجمعين ، فيما كانوا يتقاولون (6) أو يتجاهلون ويجهلون ، ( رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون (28)) [الشعراء : 28] ، فالمشرق (7) والمغرب وما بينهما كله فمربوب لا يشك فيه إلا الجاهلون ، (8) لما يرى فيه ، ويتبين عليه ، من أثر الصنع (9) والتدبير ، والهيئة البينة والمقادير.
فلما وقفه وإياهم على الآيات فلم يقفوا ، وعرفهم الدليل والبينات فلم يعرفوا ، وأمسكوا عن المسألة والمقال خاسئين محسورين ، قال فرعون : ( لئن اتخذت إلها
Bogga 268
غيري لأجعلنك من المسجونين (29)) [الشعراء : 29]. قال موسى عليه السلام توقيفا له ولهم (1) وتعريفا ، وتقريرا للحجة (2) عليهم وتعطيفا : ( أولو جئتك بشيء مبين (30) قال فأت به إن كنت من الصادقين (31) فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ) (32) [الشعراء : 30 32].
وبمثل احتجاج إبراهيم صلى الله عليه وموسى عليه السلام على من ألحد وجحد وأشرك ، لم تزل رسل الله تحتج على من تحير في الله أو ارتاب أو شك ، وذلك (3) فبين والحمد لله فيما نزل من كتبه كثير (4)، وقولهم في الاحتجاج على من جحد أو ألحد أو أشرك فواضح منير ، لا يطفأ له سراج ، ولا يشبهه احتجاج ، ولا ينكره من الخلق كلهم رشيد ، ولا يأبى قبوله من الخلق إلا شيطان مريد.
وما لم يزل الله برحمته وفضله ، (5) يدل به من هذا ومثله ، في كتبه (6) وعلى ألسن رسله ، فكثير عن الذكر له والاستقصاء ، والتعديد والإحصاء ، في كتابنا هذا وأمثاله ، فنحمد الله على منه فيه وإفضاله ، ونسأل الله أن يجعلنا وإياك بما بصر من المبصرين ، وفيما أمر بالفكر فيه من المفكرين.
اسمع يا بني (7): فقد سألت أرشدك الله للهدى ، وجعلك رشيدا مرشدا ، عن أولى ما سأل عنه سائل أراد لنفسه أو لغيره رشدا وهدى ، أو لمبطل كان فيما سألت عنه متحيرا أو ملحدا متمردا.
فجعلنا الله وإياك فيما سألت عنه ، من القائلين بما يرضى منه ، ووهبنا من البصائر بدلائله وآياته ، ما وهب للقائلين في ذلك من محبته ومرضاته ، فانه لن يصيب في ذلك
Bogga 269
هداه ، إلا من أرشده وهداه ، ولن يظفر فيه ببغيته وطلبته ، إلا من كان متحريا لإرادة (1) الله فيه ومحبته.
وبعد : فاعلم يا بني : نفعك (2) الله بعلمك فكم من علم غير نافع ، ومنادى (3) له وإن كان صحيحا سمعه غير سامع ، وناطق في عداد البكم ، إذ ينطق بغير رشد في الهدى ولا علم ، (4) وكم من ناظر لا يبصر (5) ولا يرى ، كما قال الله سبحانه وتعالى : ( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون )) (198 [الأعراف : 198]. وقال سبحانه : ( صم بكم عمي فهم لا يعقلون (171)) [البقرة : 171]. فليس كل من علم انتفع ولا اتبع ، ولا كل من نودي به سمع ولا استمع ، ولا كل من نطق فكر ، ولا كل (6) من نظر أبصر ، ولا كل من له قلب فقه ولا عقل ، إذا (7) هو أعرض وترك وغفل.
وفي أولئك ، ومن هو كذلك ، ما يقول سبحانه : ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) (179) [الأعراف : 179] ، فكفى رحمك الله بما نرى من هذا ومثله في كثير من الناس بيانا وآيات لقوم يعقلون.
[عظة بليغة]
وكيف لا يكون عند من يعلم أو يعقل كالأنعام ، من لا يهتم إلا بما لها من الهم
Bogga 270
والاهتمام ، في مأكل أو منكح ، أو لعب أو متمرح ، فعلمه علمها ، وهمته همتها ، فهو مكب عليها ، لا يرغب إلا فيها ، ولا تنازعه نفسه إلا إليها ، فلها يجتهد ويشقى ، وبها يدعو ويدعى ، غافلا عما شيب بمحابه فيها من الأذى والمكاره ، غير متعظ بشيء ولا معتبر ولا متنبه ، وقد يوقن إيقانا ، ويرى بعينه عيانا ، أن ما يحب من دنياه وحياتها مشوب بموتها ، وما يشوبه من دركها مقرون بفوتها ، فكم من مدرك من (1) بعد دركه فائت ، وحي بعد حياته مائت ، قد تبدد شمله ، وأعرض عنه أهله ، الذين كان يعدهم له أحبابا ، ويكد لهم في حياته بجهده اكتسابا ، بما حل من المكاسب أو حرم ، أو حمد من المطالب أو ذم ، وكم قبل موته عنهم ، كان من مسخط له (2) منهم ، قليل له شكره ، سيئ له ذكره ، ورثه ما جمع غير شاكر ولا حامد ، يقول : لقد كان فلان غير مهتد ولا راشد ، كما يقول أعدى الأعداء ، وأبعد البعداء ، يعجب بعض من يجالس بعد موت شخصه ، بما كان يرى من كده قبل موته وحرصه ، وكم كان له قبل موته من خليل حبيب مقارن ، (3) أسلمه عند وفاته لموته إسلام البعيد المباين ، ولهى بعده ، بخليل جدده! فكأن لم يكن لمن مات (4) خدينا! ولم يعده بعد موته قرينا! بل كم من أب والد ، أو ولد حبيب واحد ، تعزى فسلا ، عمن مات وتولى ، واشتغل من بعده بأشغاله ، وأقبل على ما يعنيه من حاله ، وقال هلك أبي ومات! أو ذهب ابني وفات! فما عسيت أن أصنع؟! وهل لي في الجزع منتفع؟! تسهيلا في مصابه لما دهاه ، وتفرغا بمقاله لدنياه ، فهذا في الوالد والولد ، وهما سلالة النفس والجسد ، كما تعلم وترى ، فكيف بغيره من الأمور الأخرى ، من المال والأثاث ، والفكاهات والأعباث؟!
وفي الولد رحمك الله وفي المال ، ما يقول ذو الكبرياء والجلال ، لمحمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله : ( ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85)) [التوبة : 80]. فجعل
Bogga 271
سبحانه المال والولد لهم عذابا في حياتهم وهما عندهم آثر ما يؤثرون (1)، وما قال سبحانه من ذلك فقد رأيناه يقينا ، وأدركناه فيهم ظاهرا مبينا ، لا يشك فيما ذكر الله منه سبحانه ولا يمتري ، ولا يجهله منا إلا من لا يعقل ولا يدري!! أو ليس قد علمنا أن العذاب ، ألم ونصب وأتعاب ، وقد رأينا من نصب أهل الأموال والأولاد فيهما ، وبشفقتهم ومحافظتهم عليهما ، (2) ما يكثر به السهر والسهاد ، ويقل معه الخفض (3) والرقاد ، فأي ألم أوجع لفؤاد أو جسم ، أو ادعى لمرض أو سقم ، من السهر والنصب والاهتمام؟! وقد يترك له كثير من الشراب والطعام!!
والمال والولد فإنما هما كما قال الله سبحانه فتنة ، والفتنة قد يعلم كل ذي لب أنها ابتلاء (4) وتمحيص ومحنة ، وفي الأزواج رحمك الله والأولاد ، وهما أحب الأشياء إلى جهلة العباد ، ما يقول رب العالمين ، لمن قال له من المؤمنين : ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم (14) إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم ) (15) [التغابن : 14 15]. فكل ما تسمع (5) آيات بينات ، ودلائل على الله متيقنات ، فليس لمن يعقل الحياة الدنيا وحال أهلها وسكانها ، مع ما وصفنا من حال أحبائها وقرنائها وخلانها ، أنس ولا ثقة ، ولا توكل ولا حقيقة ، إلا بالله وحده ، وبالرغبة فيما عنده ، وليس يأنس أبدا بالله ، إلا من صح يقينه ومعرفته لله ، ولا يعرف الله جل ثناؤه فيوقنه ، إلا من يجد أنسه بالله وأمنه ، فيكون عليه جل جلاله ، معتمده واتكاله ، فتقر عينه ، ويسلم دينه ، ويعز فلا يرى خزيا (6) ولا ذلا ، ما كان على الله سبحانه متوكلا.
Bogga 272
[التوكل على الله]
ولما جعل الله من ذلك في التوكل عليه ، أمر رسوله عليه السلام به ودعاه إليه ، فقال سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى وآله : ( فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم (129)) [التوبة : 129]. والعرش العظيم (1) فهو السلطان والملك ، الذي ليس لأحد مع الله فيه نصيب ولا شرك (2).
والتوكل فهو الاعتماد عليه والثقة به ، وأصل توكل كل متوكل فهو اليقين والمعرفة بربه.
وفي التوكل على الله وذكره ، وما عظم الله من التوكل عليه وقدره ، ما يقول تبارك وتعالى لقوم يؤمنون : ( الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ) (13) [التغابن : 13] (3). (وفي التوكل على الله ، ما يقول رسل الله (4): ( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) (12) [إبراهيم: 12] فمن (5) توكل على الله كفى بالله واستغنى ، وعاش في دنياه مسرورا آمنا ، غير مشوبة كفايته ولا غناه ، بحاجة ولا فقر في آخرته ولا دنياه ، ولا مشوب سروره بحزن ، ولا أمنه بخوف ولا وهن ، كما قال سبحانه : ( الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (64)) [يونس : 63 64].
وكيف يخاف أو يحزن؟! ولا يأنس فيأمن ، (6) من كان الله معه! ومن حاطه ومنعه! وإن مكر به الماكرون ، وخذله من قرابته الناصرون!!
Bogga 273
وفي ذلك ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وآله : ( واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون (127) إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ) (128) [النحل : 127 128]. وأول التقوى والإيمان ، والبر والنهى (1) والإحسان ، فهو حقيقة المعرفة بالله والإيقان ، فمن أيقن بالله وعرفه أنس واستراح ، وجمع بمعرفته لله السرور والأفراح ، وقلت وحشته وأحزانه ، وعظمت راحته وأمانه.
ومعرفة الله لمن أبصر سبيلها ، واستدل دليلها ، فأقرب قريب يرى علانية جهارا ، أو يستدل عليه بدليل من دلائله اعتبارا ، فالحمد لله الذي قرب إلى معرفته واليقين به السبيل ، وأقام فيها وعليها برحمته الآيات والدليل ، فسبيلها من الله سهل يسير ، ودليلهما (2) والحمد لله فظاهر منير ، ينطق بهما البكم (3) الخرس ، في كل ما تدركه فكرة أو حس ، من كبائر الخلق وصغائره ، وعوالن (4) الصنع وسرائره ، فلا يتعنت (5) في أوصاف ذلك واصف ولا متعنت ، (6) ولا يلتفت إلى شيء منه كله ملتفت ، إلا رأى منه عيانا بعينه ، أو سمع منه سماعا بإذنه ، أو ذاق منه ذوقا بفمه ، أو لمس منه لمسا بجسمه ، أو شم منه شما بأنفه ، ما يدل على تغيره وتصرفه ، وعلى أنه مصنوع في نفسه ، لدرك المدرك له بحسه. إذ كل محسوس يحس ، من الجن كان أو من الإنس ، فمركب لا بد مجموع ، وكل مركب فهو لا محالة مصنوع ، وصانعه ومدبره ومركبه فغيره ، إذ (7) وضح صنعه وتركيبه وتدبيره ، وما سوى الإنس والجان ، من كل موات أو حيوان ، (8) فقد يدرك أيضا بحاسة من الحواس الخمس ، وما يدرك بمباشرة الفكر له من كل نفس ،
Bogga 274
فمركب لا يخفى على من فكر فيه تركيبه ، وسواء في الفكر عنده بعيده وقريبه.
[قوى النفس]
والنفس فالدليل على تركيبها أنها ذات قوى شتى ، مختلفة وتبدل (1) وتنقل وتصرف لا تخفى ، فمن قواها ، وإن كنا لا نراها ، بهيئة تبين ولا صورة ، أنها ذات ذكر وفكرة ، ومفكرها فغير ذاكرها ، وإذا ثبت ما ذكرنا من تغايرها ، صح بذلك أن لها قوى ، كانت لذلك أقساما وأجزاء ، وكل ذي قسم وأجزاء متغايرة ، مصورة كانت أو غير مصورة ، فهو مركب غير شك ، ومدبر في قدرة وملك ، ولتركيبها تصرفت وتنقلت ، فعلمت مرة وجهلت ، فتغيرت من جهل وطلاح ، إلى علم وصلاح ، ومن حزن وترح ، إلى سرور وفرح.
وقوى النفس فكثيرة أقسام ، ليس للنفس بغيرها تتمة ولا قوام ، ولا يزول قسم من أقسام النفس عنها ، إلا كان في زواله فناء ما كان موجودا منها ، فقوة النفس الأولى فهي القوة الغاذية ، (2) وقوة النفس الحاسة فهي قوتها الثانية ، وقوتها الثالثة ، فهي الناهضة المتقابضة ، وقوة النفس الرابعة فهي (3) المالكة من الشهوة والغضب بالفكر لما ملكت ، وأي هذه القوى كلها فني من النفس وهلك فنيت النفس بفنائه وهلكت ، وكل قوة من هذه القوى ، فمقسمة أقساما أجزاء.
ومن الدلالة على أن قوى النفس غير واحدة ، وأنها قوى كثيرة ذوات عدة ، ما ذكرنا من اختلاف أحوالها ، وتغيرها وانتقالها ، وكل متغير ، فتركيبه نير (4) والتركيب
كقوله تعالى : ( ولا تفرقوا ). أي : تتفرقوا.
Bogga 275
فحدث (1) بين ، ولا بد لكل حدث من صانع محدث ، لا ينكر ذلك إلا كل مكابر متعبث، (2) ولا يكون حدث مصنوع مثل محدثه وصانعه أبدا ، ولا مشبها له في شيء من الأشياء ولا ندا ، لأنه أبدا (3) إن أشبه المصنوع الصانع في معنى واحد من معانيه ، جرى في ذلك من المعنى على الصانع من الحدث ما يجري عليه ، صغر ذلك المعنى أو كبر ، وقل فيما يدرك منه أو كثر ، ولذلك جل الله سبحانه وتبرأ ، من أن يكون مشبها من خلقه لشيء مما يرى أو لا يرى ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) (103) [الأنعام : 103]. و ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)) [الشورى : 11]. ويقول جل جلاله : ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ) [البقرة : 253]. فنفى سبحانه من قليل مشابهة خلقه في السنة ما نفى من كثيرها ، تقدسا وتعاليا عن صغير المماثلة لخلقه وكبيرها ، فتعالى من ليس له مثل يكافيه ، ولا ند من الأشياء كلها يساويه ، ولا يشك فيه ولا يمتري (4) إلا من جهل نفسه فهي أقرب الأشياء إليه ، وما يرى من السماوات والأرض خلفه وبين يديه.
[الدلائل على الله]
وفي أولئك ، ومن كان كذلك ، ما يقول رسل الله صلى الله عليهم ، لمن أرسله جل ثناؤه إليهم : ( أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ) [إبراهيم : 6]؟. تعجبا وإكبارا ، وتفحشا (5) وإنكارا ، لشك الشاكين ، مع ما يرون من فطرة الله في السماوات
Bogga 276
والأرضين ، التي لا تخفى ولا تتوارى ، عن كل من يبصر بعين أو يرى ، (1) أو يحس بحاسة حسا ، أو يتوجس توجسا ، لأن كل أحد من الناس ، لا يخلو من حس أو إيجاس ، والإحساس ما يحس المحس (2) بحواسه ، والتوجس فما يكون بالنفس (3) بالتوهم من إيجاسه ، (4) فكل ذي نفس ، أو درك يحس بحس ، أو بحسوس أثر بالأرض (5) والسماء ، وبماله (6) من الأعضاء ، ففي إحساسه أو إيجاسه بأقل درك ، (7) بغير ما مرية ولا شك ، ما دله على الصنع (8) والتركيب ، وعلى ما لله في ذلك من التدبير العجيب ، الذي لا يكون أبدا أصغره ، إلا وهو دليل مبين على من دبره ، لا ينكر ذلك أو يجحده ، من يحسه ويجده ، إلا بمكابرة ليقين نفسه ، ومكابرة لدرك حسه ، ومن صار إلى تلك من الحال ، خرج من حدود المنازعة والجدال ، ولم ينازعه بعد ذلك (9) ويجادله ، إلا من هو في الجهل مثله. ولذلك ما يقول الله جل ثناؤه لرسوله : ( فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا (29) ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى ) (30) [النجم : 29 30]. فأخبر سبحانه أن مبلغ من أعرض عن ذكره وتولى ، ولم يرد كما قال الله جل ثناؤه إلا الحياة الدنيا ، في فهمه وعلمه بدنياه ، وما يريده منها ويرضاه، (10) مبلغ البهائم في علمها بدنياها ، (11) وما تريده البهائم فيها من متعتها ومرعاها ، ومن أجل ذلك ولذلك ،
Bogga 277