Dacwa Lil Falsafa
دعوة للفلسفة: كتاب مفقود لأرسطو
Noocyada
الإهداء
كلمات خالدة لأرسطو
تقديم1
دعوة للفلسفة
تعليقات وشروح
الإهداء
كلمات خالدة لأرسطو
تقديم1
دعوة للفلسفة
تعليقات وشروح
Bog aan la aqoon
دعوة للفلسفة
دعوة للفلسفة
كتاب مفقود لأرسطو
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الإهداء
إلى زوجتي ...
كلمات خالدة لأرسطو
إن البشر جميعا يسعون إلى المعرفة بحكم طبيعتهم. (أرسطو، ما بعد الطبيعة، الألفا، 980أ 21-28)
ما صنع الإله ولا الطبيعة شيئا باطلا. (السماء، 1-4، 271أ 33)
Bog aan la aqoon
القانون وحده هو الحاكم والسيد، هذا القانون الذي يعبر منطوقه عن حكمة وبصيرة، ومن ذا الذي يمكنه أن يمثل لنا المعيار الدقيق ويكون لنا بمثابة الدليل الهادي إلى الخير غير الإنسان الحكيم؟ (بروتريبتيقوس، ب38-39)
المثل القائل: لا تعط السكين لطفل، يعني ألا تضع القوة في أيدي الأوغاد. (ب4)
الباحث بأقصى جهده عن الحقيقة هو الذي ينفرد بأكمل حياة ممكنة. (ب85، 86)
إن الحياة الخالية من التأمل والنظر لحياة لا تليق بالإنسان. ((ب42) دفاع سقراط (الأبولوجيا) 38أ)
تقديم1
كتاب مفقود لأرسطو! ضاع مع ما ضاع من المحاورات التي كتبها في شبابه ولم يبق منها غير أسمائها وبعض شذرات متفرقة منها. صحيح أن بعض المؤلفين القدامى قد عرفوا عنوانه الأصلي «بروتريبتيقوس»،
2
وأن عددا منهم وضع كتبا أخرى تحمل نفس العنوان الذي يفيد الحث على التفلسف وبيان ضرورته للحياة السعيدة، وصحيح أيضا أنهم اقتبسوا منه عبارة ذاعت شهرتها في كتب الفلسفة حتى يومنا الحاضر؛ ألا وهي العبارة التي تقول: «إما أن التفلسف ضروري، ولا بد عندئذ من التفلسف، وإما أنه غير ضروري، ولا بد أيضا من التفلسف لإثبات عدم ضرورته، وفي الحالين ينبغي التفلسف.»
3
ولكن الكتاب ظل أكثر من ثلاثة وعشرين قرنا في عداد المفقودات، وبقي الأمر على هذه الحال منذ النصف الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين نشر عالم ألماني كتابا عن محاورات أرسطو طرح فيه السؤال عن مضمون الكتاب الضائع وهدفه، وانطلق البحث من هذا السؤال الحائر ودارت عجلته مائة سنة كاملة حتى أعيد بناء الكتاب المفقود الذي تجده بين يديك. •••
Bog aan la aqoon
لو صرفنا النظر عن الفهارس القديمة التي أحصت مؤلفات المعلم الأول
4
لوجدنا نصين اثنين من العصور القديمة يذكر فيها «البروتريبتيقوس» الضائع ذكرا صريحا؛ فالإسكندر الإفروديسي (حوالي سنة مائتين بعد الميلاد)، أكبر شراح أرسطو يقول:
5
إن أرسطو يطرح فيه السؤال عن ضرورة التفلسف لبلوغ السعادة والحياة الأخلاقية الطيبة أو عدم ضرورته، ويؤكد الإسكندر أنه قدم الدليل على ضرورته عندما بين أن من يحتج على الفلسفة إنما يثبت بهذه الحجة نفسه أنه يتفلسف، ولقد كان هم أرسطو أن يدافع عن صحة العبارة التي ذكرها أفلاطون في محاورة «الدفاع» على لسان سقراط:
6 «إن الحياة الخالية من البحث والتأمل حياة لا تليق بالإنسان، وأن يؤديها بحجج أخرى استمدها من تجربته في الحياة ورؤيته لها.» أما النص الآخر الذي يرد فيه ذكر الكتاب فيرجع إلى زينون مؤسس الرواقية (من حوالي 336 إلى 264ق.م) الذي يروي
7
عن معلمه الكلبي «كراتيس» (أو أقراطيس تلميذ ديوجينيس الكلبي) أنه كان يجلس يوما في دكان صديقه الإسكافي «فليسكوس»، وأخذ كراتيس يقرأ عليه من كتاب أرسطو «البروتريبتيقوس» الذي أهداه لثيميسون ملك قبرص وقال له فيه: «ما من أحد مثلك أهلته الظروف ليهب حياته للفلسفة؛ فأنت ثري، ويمكنك أن تنفق المال اللازم لتحصيلها، وأنت مرموق المكانة.» كان الإسكافي يستمع لما يقرؤه صديقه عليه دون أن يكف عن مواصلة عمله، فقال له كراتيس: «أعتقد يا عزيزي فليسكوس أنني سأهديك كتابا بنفس العنوان، فإنك في رأيي أهل للحياة الفلسفية أكثر من ذلك الذي أهداه أرسطو كتابه.»
وسواء أكانت حكاية الفيلسوف الكلبي صادقة أم من نسج خياله، فإن مغزاها لا يخفى على القارئ. لقد أراد هذا الشحاذ البائس - الذي عرفت العصور القديمة جولاته في القرى ومواعظه للفقراء بالزهد والعودة إلى حياة الطبيعة - أراد أن يقول: إن الإسكافي المسكين أقدر على الحياة الفلسفية من الملك صاحب السلطة والجاه والثراء. والأهم من ذلك أنه لم يكن ليروي الحكاية ولم يكن زينون ليرددها بعده لو لم يكن «بروتريبتيقوس» أرسطو معروفا بين الناس في النصف الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد.
مهما يكن الأمر فنحن لا نملك غير هذين النصين اللذين يذكر فيهما كتاب أرسطو ، وكلاهما لا يفيدنا بشيء عما يقوله فيه، ولقد مرت القرون وتوالت الأجيال منذ ذلك الحين إلى أن طرح العالم الألماني ج. برنايس (في كتاب صدر له في برلين سنة 1863 عن محاورات أرسطو) مشكلة هذا الكتاب وتساءل عن هدفه ومضمونه، وبدأت عيون الباحثين تقتفي آثار الكتاب وتتلمس صداه في نصوص أرسطو الباقية من كتبه الضائعة، أو في نصوص القدماء الذين أخذوا عنوان كتابه وحاولوا تقليد أسلوبه وأفكاره، وظل الأمر في أخذ ورد حتى بدد العالم الإنجليزي بايووتر
Bog aan la aqoon
8
الظلام المحيط به وأثبت أن كتابا بنفس العنوان ليامبلخيوس (أحد أتباع الأفلاطونية المحدثة 270-330م) يضم جزءا كبيرا أخذ بنصه الحرفي من كتاب أرسطو، وتوالت محاولات العلماء من مختلف بلاد العالم لتفسير النص وتحقيق أسلوبه ومفرداته ومحتواه والتأكد من صحة نسبته لأرسطو، ويطول بنا القول لو حاولنا تتبع أسمائهم وتفاصيل الاختلافات التي دارت ولا تزال دائرة بينهم
9
إذ يكفينا في هذا التقديم أن نتناول الجوانب التاريخية العامة ونعرض لتحليل الكتاب ونشأته ومضمونه. •••
أهدى أرسطو كتابه إلى أمير قبرصي مجهول هو «ثيميسون»، ويبدو أنه وجه بهذا الإهداء ضربة بارعة إلى خصومه وأثبت لهم أنه قد نزل إلى ساحة الميدان الذي ظل وقفا عليهم. ومع أن الظروف والأحوال السياسية في ذلك الحين ليس لها علاقة مباشرة بمضمون الكتاب، فإن الهدف الحقيقي من ورائه هو رد سهام هؤلاء الخصوم (وبخاصة إيزوقراطيس
10
صاحب خطبة «الأنتيدروزيس» التي انتقد فيها منهج التعليم والتربية في الأكاديمية، ورئيس إحدى المدرستين الفلسفيتين المتنافستين في أثينا) الذين هاجموا المعرفة النظرية، وأوحوا إلى الشباب أن الفلسفة - بوصفها معرفة خالصة - لا ضرورة لها ولا فائدة منها في الحياة العملية، وأن السعادة تكمن في استقامة السلوك والعمل الطيب وحده.
ولهذا فإن الدعوة البليغة التي يحملها الكتاب إلى التفلسف دعوة موجهة في الواقع إلى الشباب الأثيني المتزاحم على أبواب المدرستين المتنافستين، وهي حث له على حياة التأمل التي هي وحدها الحياة الخليقة بالإنسان. •••
يبدأ أرسطو دعوته بالإشارة إلى أهمية الفلسفة والتساؤل عن الفضيلة والخير، ويبين أن كليهما لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق معرفة مطابقة له، فبغير هذه المعرفة يصبح امتلاك الخيرات الخارجية من ثروة وقوة وجاه خطرا يهدد الإنسان ويضره أكثر مما ينفعه. هذه المعرفة هي التي تضفي على تلك الخيرات قيمتها، وهي في الحقيقة تفوقها في القيمة؛ لأنها لم توجد لأجلها فحسب، وإنما هي قيمة في ذاتها، بل هي القيمة العليا التي تجعل لكل ما عداها قيمة؛ وبذلك ينتهي الغرض الأول بإثبات أن الفلسفة ممكنة.
ثم يشتبك المعلم الأول في مجادلة الخصوم الذين يشكون في هذه النتيجة ويروجون بين الشباب أن الفلسفة لا ضرورة لها في الحياة العملية ولا جدوى منها، ويرد على هذا الاعتراض القديم المتجدد أبدا بأن الفلسفة جديرة بالسعي إليها لذاتها؛ لأنها أسمى خير يمكن أن يبلغه الإنسان، ولما كانت الغاية الطبيعية للإنسان هي ممارسة العقل فإن الحياة العقلية المكرسة للتأمل والنظر هي مهمته الحقيقية وواجبه الأول، وبها يبلغ كماله ويجد سعادته، وإذا كان البعض يتهم هذه الحياة بأنها غير نافعة، فإن أرسطو يبين أنه لا يصح التقليل من قيمتها بالنسبة للمشرع والسياسي، وبهذا يثبت أن الفلسفة «نافعة».
Bog aan la aqoon
ويتابع أرسطو طريقته في الحجاج دفاعا عن الفلسفة فيبين أن السعادة البشرية تقوم على فاعلية العقل، وأن التفلسف هو غاية الحياة الإنسانية بحكم طبيعتها نفسها، وأن هذه الحياة التي يهبها صاحبها للعقل هي أسمى لذة وأنقى فرح ممكن؛ لأن فاعلية العقل هي الخير الوحيد الذي لا يتوقف على غيره ولا يتطلب أي شروط خارجية، وهكذا تنتهي هذه الحجج إلى الفقرة الأخيرة (ب110) التي ترتفع فيها موجة التحمس حتى تبلغ أسمى قمة، إن الفلسفة تعلو بالإنسان فوق الأرض وفوق الفناء، وتتيح له المشاركة في الخلود والألوهية، بل تجعله أشبه بإله بين بقية مخلوقات الله. •••
هذه هي جملة الأفكار الأساسية في الكتاب، وهي تعبر بغير شك عن دفاع مخلص عن الفلسفة، يوشك في مفهومنا الحديث أن يكون نوعا من الدعاية الأدبية الفلسفية، ولا بد أن القارئ قد أحس نغمته الخطابية التي تعلو في أجزائه (وخصوصا في الفقرتين ب43، 44) إلى حد الصخب الذي يخفت صوت المنطق! ولكن هذا الصوت المرتفع في بعض الأحيان لا يستطيع أن يخفي دفء العاطفة التي تسري فيه، وتجعل منه شهادة اعتراف صادقة سجل فيها الفيلسوف مثله الأعلى في الحياة، ومع أن أسلوب الكتاب يشف عن روح الشباب ويختلف اختلافا واضحا عن أسلوب الكتب التعليمية المتأخرة التي يتميز بالموضوعية والجفاف، فإنه مع ذلك يعكس تفكير رجل ناضج ويدل على خبرته بالحياة والناس وقدرته على الحجاج والإقناع، ولعل التحليل المتأني لمضمون الكتاب أن يؤكد هذا الإحساس ويمهد للإجابة عن السؤال الذي يطوف في أذهاننا عن زمن تأليفه وموقعه من كتابات المعلم الأول وتطوره العقلي والروحي.
دعوة للفلسفة
تحليل (1)
يستهل أرسطو كتابه بالإهداء الذي عرفنا قصته، ثم يعرض أول قضية أساسية فيه: إن السعادة في الحياة تقوم على الحالة النفسية الطيبة (وهي كما أشرنا قضية سبق أن عبر عنها أفلاطون على لسان سقراط في محاورة الدفاع، كما يرجع إليها أرسطو في فقرات تالية)،
1
كما أن امتلاك الخيرات الخارجية بغير مبادئ أخلاقية هو الشر بعينه. (2)
يتحدث أرسطو عن «التفلسف» فيقول إنه يعني أمرين؛ فهو من ناحية سؤال يطرح عما إذا كان ينبغي على الإنسان أن يتفلسف. وهو من ناحية أخرى تكريس الحياة للفلسفة، ويتناول القضية الأساسية الثانية فيبين ضرورة التفلسف وقيمته في الحياة السياسية والعملية.
2
فإذا كان أصحاب الصنائع وأرباب المهن اليدوية يكتشفون أفضل الأدوات عن طريق ملاحظة الطبيعة فيتحتم على السياسي ورجل الدولة أن تكون لديه معايير يستمدها من الطبيعة ومن الحقيقة، ويحكم بها على كل ما هو عادل وجميل ونافع.
Bog aan la aqoon
ولا سبيل لمن لم يهب حياته للفلسفة ولم يعرف الحقيقة أن يتوصل إلى هذه المعايير المستمدة من المعرفة النظرية بالمبادئ والعلل الأولى، إلا أنها هي التي تسمح لنا بتصريف جميع أعمالنا.
ويستطرد أرسطو في تقديم الأمثلة من الحياة العملية والمادية ليؤكد أنها جميعا لا تستغني عن المعرفة النظرية، فالأشياء الجسمية مجرد أدوات، وعلينا أن نطلب المعرفة التي تساعدنا على حسن استخدامها.
وتسير الحجة التي يسوقها لإثبات هذه القضية في خطوات؛ فالأشياء تنشأ عن طريق الصنعة والطبيعة أو عن طريق الصدفة والحظ،
3
وعملية النشوء تمضي في خط لا يعكس من كون إلى نمو إلى تحقيق غاية إلى تحلل ففساد،
4
وهي عملية تعبر عن حقيقة «الغائية» التي تطبع بخاتمها مذهب أرسطو كله، والطبيعة نفسها هي منبع كل خير وجمال، وتكون مظاهر إبداعها جميلة بقدر ما تسير العملية الطبيعية السابقة في طريقها السوي، كما تكون منتجات الفن والصنعة البشرية جميلة بقدر ما تحاكي الطبيعة وتكمل ما تركته ناقصا.
ويأتي الحديث عن سلم التطور الطبيعي الحي؛ فالطبيعة نفسها تقضي بأن يكون الهدف الأسمى للإنسان هو تحقيق ملكة العقل التي نسميها الحكمة أو الفطنة (ب11-21)، وبحكم الطبيعة نفسها توجد مستويات مختلفة لملكة العقل والقدرة على التفكير، هذه المستويات تؤلف سلما من القيم يتربع على قمته الفكر الذي تتم فاعليته ويختار كذلك لذاته، والطبيعة يسودها النظام والترتيب وتراعي الحد ولا تتعداه، فهي عاقلة ولا تعمل شيئا بالصدفة (ب22-30، وهي فكرة تمثل نواة الفلسفة الأرسطية وتتردد في معظم كتابات معلم البشرية). هل يستعصي على الناس بلوغ هذه الغاية الرفيعة؟ إن أرسطو يؤكد أن الحياة الفلسفية أو الموقف الفلسفي من الحياة ليس هدفا مستحيلا على الإطلاق، بل إن صعوبة تحصيل الفلسفة تقل في رأيه بكثير عن الفائدة التي تتيحها والفرح الذي نجنيه منها (ب31)، وهناك في الواقع علم بالعدل والعدالة كما أن هناك علما بالطبيعة وبكل ما هو موجود على الحقيقة ونحن قادرون على تحصيلهما سواء بسواء (وهما علم الأخلاق وعلم الطبيعة بالمعنى الأرسطي)، والمسألة في النهاية مسألة نظر وعلم نظري بالمبادئ والأصول.
5
هذا العلم الخالص يسبق كل علم لاحق بالأشياء والأدوات والأجسام، كما تسبق العلة المعلول ويتقدم الشرط على ما يتقدم به ويعتمد عليه، فمعرفة الأولي والبسيط في الطبيعة أسهل وأبسط من المعرفة بأي شيء آخر؛ لأن كل ما عداهما يتكون من هذه العناصر ويبنى منها، ثم إن كل ما هو خير فهو كذلك محدد ومنظم، والمهم بعد كل شيء هو العلم بالأسباب والعوامل والعناصر الأولية، أو هو - كما نقول اليوم - معرفة «البنية» الأساسية بحيث تكون الأولوية دائما للبسيط على المركب، وبحيث تسبق المبادئ ما يترتب عليها.
Bog aan la aqoon
وبجانب فروع العلم الأخرى يوجد علم بفضيلة النفس (أو كفاءتها وصلاحها ب32-37)، وامتلاك القدرة على التفكير وملكة العقل وفقا لمبدأ الغاية هو أسمى الخيرات التي يتاح للإنسان امتلاكها، ومن ذا الذي يمكنه أن يجسد لنا المعيار الدقيق للخير والدليل الهادي إليه غير البصير الحكيم؟ لا بد للإنسان من التمييز بين ما هو خير وما هو ضروري، وحتى لو ثبت له أن امتلاك الحكمة وملكة العقل والتفكير لا ينفعه في الحياة العملية (بل ربما جنى عليه في معظم الأحيان كما تؤكد لنا تجربة الحياة اليومية)، فإن هذا لا يمنع أن التفكير يحمل قيمته في ذاته، وأنه جدير بالاختيار والتفضيل في كل الأحوال (ب38-44)، ويرجع أرسطو في ختام هذا الجزء من كتابه إلى الحجة التي انطلق منها (ب11)، وهي غائية الطبيعة التي تميل بها إلى تحقيق الأقيم والأجمل والأرفع (ب45). (3)
ومع كل هذه المحاذير فإن النظر العقلي في أصول الأشياء ومبادئها أمر نافع للحياة العملية؛
6
فالسياسي يتحتم عليه كما سبق أن يلم ببعض المعالم والمعايير التي يستمدها من الطبيعة ومن الحقيقة، ويستعين بها في الحكم على ما هو عدل وحق وجمال (ب46-51)، غير أن معرفة المعايير لا تكفي، فواقعية أرسطو وخبرته بالعالم والناس تجعله يفلسف للعمل كما يفلسف للنظر؛ ولهذا يقول صراحة إن من الواجب تحويل المعايير إلى أفعال، وتجسيد النظر في ثوب العمل؛ فالفلسفة عنده تحصيل للحكمة وتطبيقها (ب52-53)، والنظر في حقيقته فعل لا مجرد تأمل، إنه معرفة منتجة للتحقيق والإنجاز، صحيح أن الإنسان الذي يوقف حياته على النظر ويهبها للفلسفة لا يتلقى من الناس أجرا ولا جزاء، ولكنها تستولي عليه ويجد سعادته الكبرى في الاشتغال بها والعكوف عليها (ب55-57). (4)
ويتساءل أرسطو: ما هي مهمة الفلسفة؟ ولماذا كان بلوغ الحكمة هو غايتنا القصوى؟ ويبدأ في الإجابة على هذا التساؤل بالحديث عن العلاقة بين الجسم والنفس، ففي داخل النفس يكون الأعلى هو الجزء الحائز على العقل وملكة التفكير، هذا الجزء الصغير (كما يصفه أفلاطون في الجمهورية 442ج) هو العقل (نوس)، وهو يعبر وحده أو في المقام الأول عن ذاتنا الحقيقية (ب59-62)، أما عن المهمة الأساسية للفكر فهي التوصل للحقيقة (ب63-66)، ونحن نسعى في طلبها عن طريق التأمل الفلسفي، ونبلغ أسمى درجة في هذا التأمل عندما نطلبها لذاتها (ب66-69)، ثم يستطرد أرسطو إلى الكلام عن العلاقة بين العلم والرأي؛ فالعلم والمعرفة الدقيقة أجدر بالاختيار من الرأي الصادق، وأجدر شيء بالاختيار عند الإنسان هو التبصر الفلسفي؛ ولهذا يسعى الناس جميعا في طلب المعرفة (كما تقول العبارة المشهورة في مقالة الألفا من كتاب الميتافيزيقيا 1، 980أ 21)، ويمتد هذا القسم من الكتاب من الفقرة (ب70) إلى الفقرة (ب77). (5)
والحياة العقلية بجانب هذا كله حياة غنية بالفرح، والعقلاء من الناس ينشدونها ويجدون في طلبها للاستمتاع بالأفراح الحقة والمسرات النبيلة (ب78-92)، وهنا يجد المعلم الأول فرصة مواتية للحديث عن فكرته الرئيسية المعروفة عن القوة والفعل، ويعرضها عرضا مبسطا يتقبله القارئ العادي، فيميز بين المستيقظ والنائم، بين المبصر بالفعل والقادر على الإبصار، بين العارف بالإمكان ومن يستخدم معرفته ويطبقها، لينتهي من ذلك إلى القول بإن الفعل أعلى قيمة من الانفعال، وإن أسمى أفعال النفس هو التفكير، وأعلى درجات التفكير هو التفلسف؛ ولهذا تكون الحياة الكاملة من نصيب أصحاب الفعل الخالص، أي من نصيب المتفلسفين، وهؤلاء هم الذين يبلغون الغاية؛ لأنهم هم الذين يقومون بالفعل الفلسفي - على أساس العلم المتناهي في الدقة لا على أي وجه كان! - ويجدون في طلب الحقيقة في حياة النظر والعمل على السواء. (ب79-86) ولما كانت هذه الفاعلية القصوى المطلقة من كل قيد هي التي توفر الفرح فمن الواضح أن المتفلسف هو الذي يحيا أكمل حياة ويتمتع بأعمق الأفراح.
عند هذه القمة من الدفاع البليغ عن الفلسفة تبرز قمة أخرى مضادة، إذ يقول أرسطو ما معناه: لكن الناس للأسف لا يدركون مصلحتهم ويجشمون أنفسهم الجهد والمشقة في سبيل أشياء عقيمة وعاطلة من كل قيمة (ب87-92). (6)
هكذا تكون الحياة الفاعلية على الوجه الصحيح - أي الحياة العقلية - هي الشرط اللازم لبلوغ السعادة، وهنا يهيب أرسطو بإجماع الناس على طلب السعادة ليؤكد من جديد أن التفلسف هو الحياة السعيدة الكاملة، أو هو على الأقل أنجح الوسائل المؤدية إليها (ب97-102). (7)
ويسوق أرسطو حجة بلاغية جديدة يبدأ بها نغمة سوداء لا تقارن بالنغمة السابقة المتألقة بالبهجة والفرح؛ فهو يوازن بين الحياة العاقلة وبين حياة الناس الذين يقصرون همهم على مجرد الحياة وبأي ثمن، وتفاجئنا نظرة النسر الحزين الذي يطل على وادي الأشباح، فالأشياء التي تبدو في أعين الناس عظيمة ليست في حقيقتها إلا ألعاب ظلال.
وتتصل خاتمة اللحن المكتئب فتقتبس من الحكماء والشعراء القدماء مؤكدة أن حياة البشر تكفير عن ذنب كبير جنيناه، لتبلغ في النهاية قلب القتامة نفسها وترسم لوحة لا تنسى عن المساجين الذي تقيد جثث الموتى بأجسادهم بحيث يواجه الوجه بالوجه، ويلتصق العضو بالعضو
Bog aan la aqoon
7 (ب105-107).
هل أراد المعلم الأول أن ينفرنا من حياتنا العادية المشغولة بالنهم إلى الثروة والغنى والشهرة وغيرها من الخيرات الظاهرية الخادعة لنحقق العلو فوقها على جناح التفلسف، أم غلبته تجربته أو قراءاته فانساق إلى هذه الصور الأليمة؟ مهما يكن الجواب فإن الكلمات الختامية هي أبلغ دفاع يمكن تصوره عن الفلسفة؛ فليس ثمة شيء إلهي في الإنسان إلا شيء واحد يستحق وحده عناء الجهد، ذلك هو العقل والتبصر الحكيم (أو التفلسف)، وإن حياة تخلو من التأمل لهي حياة تخلو من كل قيمة ولا تليق بإنسان (ب108-110).
متى وضع أرسطو هذا الكتاب؟ أهو من كتابات الشباب «المنشورة» أم من مؤلفات الرجولة «المستورة»؟ ألدينا أي دليل على زمن التأليف أم لا نملك إلا الترجيح؟ هل كان عند تأليفه تلميذا مخلصا لأفلاطون أم استطاع أن يتحرر من سطوته وبدأ يفكر لنفسه ويعلي بناء مذهبه؟ أكان شابا لا يزال أم رجلا يرفل في إهاب الرجولة الناضجة؟
أسئلة يبدو أننا لن نعثر في شأنها على اليقين، أقصى ما نملكه أن نعرض آراء العلماء وهي لا تزال إلى اليوم تتأرجح على حافة الرأي والترجيح والتخمين. •••
كان الرأي بين معظم الباحثين منذ ألف العالم الألماني «ييجر» كتابه المشهور عن أرسطو وتطوره الفكري سنة 1923 - أن أرسطو ظل طوال الفترة التي قضاها طالبا ومعلما في الأكاديمية الأفلاطونية وقاربت العشرين عاما - ظل طوال هذه الفترة وحتى موت أفلاطون تلميذا مخلصا لأستاذه، تأثر به في كل ما كتب في ذلك الحين، وشارك في نشر أفكاره وتعاليمه - غير أن كل ما كتبه أثناء حياته في الأكاديمية قد ضاع، لم يبق من أشعاره ومحاورات شبابه سوى بضع شذرات متفرقة من أهمها ما بقي من «أويديموس» و«عن الفلسفة». وهذه المحاورة التي نتحدث عنها الآن: «بروتريبتيقوس»،
8
وقد زعم «ييجر» أن الكتاب الأخير كان بمثابة برنامج دراسي للأكاديمية، ودعوة إلى المثل الأعلى الذي بشر به أفلاطون وحث على السير على طريقه. ومع ذلك فإن «البروتريبتيقوس» يسجل التحول الذي أصاب نفوس الجيل الجديد من شباب الأكاديمية وغير من نظرتهم إلى الحياة العقلية. لقد حرص أفلاطون على تحقيق المثل الفلسفي الأعلى في الحياة، ولكنه أراد بفلسفته كلها أن يصلح الواقع وينقذه من الفساد، وينقل إلى ظلام الحياة العملية قبسا من نور المثل والحقائق الخالدة. أما الجيل الشاب فوجد قيمة الحياة في تأمل الباطن، في بهجة الرؤية والنظر الخالص، بهذا تحولت مثل الإصلاح السياسي والأخلاقي عند أفلاطون إلى التأمل العقلي المتشرب بالروح الدينية. ولقد أكد «ييجر» أن أرسطو كان يقف في هذا الكتاب على أرض ميتافيزيقية مختلفة عما نجده في كتاباته التعليمية المتأخرة، وأن الأفكار الأساسية فيه أفكار أفلاطونية تحمل طابع معلمه الكبير، سواء في لغتها أو موضوعاتها، بل إن الكتاب يردد في زعمه نظرية المثل ويذكر رأي أفلاطون المتأخر في أنها أعداد، ويقتبس منهج أفلاطون في عرض الأخلاق على طريقة أصحاب الهندسة. وكل هذا يؤكد في رأيه أن أرسطو ظل في هذا الكتاب وفي سائر محاوراته الضائعة وفيا لأفلاطون، وأنه لم يصبح «أرسططاليا» إلا بعد أن مات أستاذه ومر في حياته بأزمة باطنية حادة.
بيد أن النظرة إلى فلسفة أرسطو قد تغيرت بعد إعلان «ييجر» عن هذه الآراء، وأثبت بعض العلماء - ومنهم الأستاذ «انجمار ديرنج» الذي ألف كتابا ضخما عن تفكير أرسطو ونشر النص الذي نعتمد عليه وحققه - أن هذه الآراء التي ذهب إليها «ييجر» لا تستند إلى كتابات أرسطو ولا إلى التراث القديم من مؤلفات المؤرخين وكتاب السير، أضف إلى هذا أن لغة أرسطو ومصطلحاته الأساسية لم تكد تتغير منذ أن كتب «الطوبيقا» أو المواضع الجدلية التي ثبت أنها تسبق الكتاب الذي بين أيدينا بحوالي عشر سنوات،
9
والأهم من هذا كله أنهم قدموا الأدلة اللغوية والموضوعية على أن «البروتريبتيقوس» ليس من كتابات الشباب لأرسطو، وأنه كان قد قضى عند كتابته أكثر من خمسة عشر عاما في البحث والتعليم في الأكاديمية، وأن الكتاب نفسه قد وضع حوالي سنة 350-351ق.م، أي عندما كان أرسطو في الرابعة والثلاثين أو الخامسة والثلاثين من عمره وفي أوج تفكيره ونشاطه العقلي، وفي نفس الوقت الذي كتب فيه أفلاطون رسالته السابعة.
Bog aan la aqoon
10
وإذا كان من المستحيل إثبات هذا التاريخ بالدليل القاطع، فهو في رأي «ديرنج» أقرب إلى الصواب من غيره، والمهم على كل حال أن الكتاب يعطينا فكرة طيبة عن تفكير أرسطو في هذه المرحلة من حياته الخصبة الجادة، لا سيما إذا تذكرنا أنه لم يعد النظر فيه على عكس ما كان يفعل مع كتاباته التعليمية الأخرى، وأننا لا نملك كتابا آخر من كتبه يحمل نفس الدعوة التي يحملها هذا الكتاب أو يوحي بها، وأن محاورة «السياسي» التي يظن أن «يامبليخوس» قد نقل عنها أيضا قد ضاعت ولم تبق منها سوى شذرة ضئيلة لا تثبت شيئا.
لا يزال العلماء - كما قلت - مختلفين حول تفسير «البروتريبتيقوس» وترتيب أجزائه، وذلك منذ أن بدأ «ييجر» محاولاتهم المستمرة حتى اليوم، ولكنهم لا يختلفون في أصل النص الذي وردت أجزاء كبيرة منه عند «يامبليخوس» (في كتاب اختار له نفس الاسم) والمؤرخ اليوناني «ستوبايوس». وكذلك في إحدى برديات «أوكسيرنكوس » تحت رقم 666-4.
11
ولقد مضى أكثر من قرن على الفرض السابق الذكر الذي قدمه «بايووتر» مع نصوص الكتاب التي وجدها عند يامبليخوس ورجح نسبتها لأرسطو. واتصلت المناقشات حول هذا الفرض طوال هذا الزمن قبل أن يفكر أحد في نقد النص منهجيا أو يشرع في تحليل كلماته وأسلوبه ومضمون معانيه وتطابقها مع نظائرها في سائر كتبه البعيدة عن الشك، ولا نريد أن ندخل في دقائق هذه التحليلات اللغوية والنقدية المضنية للأسباب التي ذكرناها من قبل، ولكننا نكتفي بالإشارة الموجزة إلى أهم هذه المحاولات لعلها تقدم لنا لمحة عن عمق البحث العلمي الذي نكتفي في العالم العربي بالوقوف عند سطحه أو نهب زبده ورذاذه!
ربما كان الأستاذ السويدي «انجمار ديرنج» هو أهم هؤلاء الباحثين الذين عكفوا على هذا الكتاب؛ فقد نشر [ثلاثة أبحاث كبيرة]
12
عن الكتاب نفسه وعن أرسطو وعرض تفكيره وتفسيره، وقدم النص اليوناني وحلل كلماته وأسلوبه وقابله بكلمات الكتب الأرسطية المعتمدة وأسلوبها وأفكارها الأساسية كما قدم معه ترجمة ألمانية للنص المختلف عليه، والنص الذي قدمه وأعاد بناءه يضم 6400 كلمة وضع فهرسا لسبعمائة كلمة مختلفة منها ثبت له أن اثني عشرة كلمة منها فقط لا وجود لها في كتب أرسطو الأصيلة، وإن كانت من الكلمات المألوفة عند أفلاطون أو عند كتاب العصر، والأهم من هذا أنه قدم الأدلة الكافية على أن أسلوب الكتاب في أدق تفاصيله أسلوب أرسطي لا غبار عليه، وحتى المواضع التي يعمد فيها «يامبليخوس» إلى اختصار النص الأصلي أو التعبير عنه بأسلوبه إلى حد الخروج في بعض الأحيان عن أسلوب المعلم الأول وأفكاره؛ إنما تدل جميعها على أن هذا الأفلاطوني الجديد قد نقل عن أرسطو في معظم الأحوال فقرات طويلة نقلا حرفيا لا شك فيه، سواء من كتابه المذكور أو من بعض كتاباته الأخرى التي تولى نشرها بنفسه (وهي الكتب المنشورة أو غير العلمية بالمعنى الدقيق التي كان يقصد بها عامة المثقفين؛ تمييزا لهم عن الكتب «المستورة» أو الفلسفية البحتة التي كانت تدرس في اللوقيون). ولقد رجح الباحث السويدي أيضا أن هذا الاختصار والترتيب من جانب يامبليخوس لم يغره مع ذلك بتزييف النص أو خلطه بنصوص أفلاطونية أو غير أفلاطونية غريبة عليه؛ ولهذا يبقى احتمال أصالة النص أكبر من عدم احتماله؛ إذ يستحيل كما قدمنا أن يقطع في أمره على وجه اليقين،
13
كما أن المحاولات المختلفة لترتيب النص ستظل محاولات لا تختلف بعضها عن بعض إلا بقدر ما يقدم كل منها من الأدلة العلمية والنقدية، وبقدر ما تعتمد على الحجة والبرهان، وهي كلها دليل متجدد على أن العلم نفسه محاولة، وسيبقى محاولة بشرية لا يفسدها إلا الكذب والتسرع وادعاء اليقين المطلق.
Bog aan la aqoon
تلك - باختصار - هي محاولة «ديرنج» التي انتهى منها إلى أن الذي أعاد ترتيبه وتحقيقه نص أرسطي أصيل، وأننا نملك الجزء الأكبر من الكتاب أو المحاورة المفقودة، بل إننا نستطيع أن نحدد بدايته ونهايته بما يشبه اليقين، كما نستطيع أن نضع أسلوبه وأفكاره ومنهجه في إقامة الحجة
14
والاستشهاد بأمثلة من الحكمة الشعبية ... إلخ في سياق الفلسفة الأرسطية على وجه الإجمال. •••
بقي أن نشير إلى محاولتين أخريين في بناء النص وتحقيقه قام بهما الأستاذان أ. ه. كروست، وج. شنفيس، أما الأول فقد تابع «ديرنج» صراحة في تحقيقه للنص وتفسيره له وأضاف إليه بعض التعديلات التي لا تستحق الذكر،
15
وأما الثاني فقد اكتفى بنشر النص اليوناني كما تراءى له بغير ترجمة حديثة ولا تعليقات، وذلك في رسالة للدكتوراه قدمها في سنة 1966 إلى جامعة ميونخ.
16
ويختلف ترتيب النص في هذا البحث اختلافا كبيرا عن طبعة «ديرنج»؛ فالمؤلف يعتمد - بجانب النص المأثور عن يامبليخوس - على مواضع مختلفة من نصوص أرسطو المعروفة في كتبه التعليمية (كالأخلاق الأويديمية، والأخلاق النيقوماخية والسياسة، ومقالة الألفا من كتاب الميتافيزيقا)، بل يضيف إليها نصوصا أخرى من كتب مؤلفين مختلفين - مثل «بروتريبتيقوس» المنسوب لإيزوقراطيس (المعاصر لأرسطو) والمهدى إلى دومينيقوس - بجانب نصوص من كتابات سترابو
17
وجالينوس،
Bog aan la aqoon
18
وديوجينيس لائيرتوس،
19
وسينزيوس، وستوبايوس. ويضم الباحث كل هذه النصوص إلى نص يامبليخوس وبردية أكسيرنكوس اللذين اعتمد عليهما «ديرنج» و«فلاشار»، وذلك دون أدنى مبرر مقنع يسوغ ضمها إليه أو بالأحرى حشرها فيه؛ فقد تكون نصوصا قريبة من أفكار الكتاب الأصلي، ولكن وضعها فيه أمر يثير التساؤل ولا يساعد على مزيد من الفهم والاقتناع.
ولا شك أن الحكم على مثل هذه المحاولات وترجيح إحداها على الأخرى أمر يستلزم إتقان اللغة الأصلية التي كتب بها أرسطو، والاطلاع الدقيق على تفاصيل مذهبه والمعرفة الحقيقية بتطور تفكيره، وهي أمور - لا أمر واحد! - لا يستطيع كاتب السطور أن يدعيها لنفسه. إن محاولته تقديم هذه الدعوة الملحة إلى الفلسفة لقارئه العربي ستظل أضعف هذه المحاولات وأكثرها تواضعا، وإن كانت هي كل ما استطاع تقديمه في حدود علمه وجهده، وندرة المراجع التي بين يديه! •••
وأخيرا فلا بد منذ ذكر بعض الملاحظات عن أسلوبي في تعريب النص والتعقيب عليه في الهوامش والتعليقات الملحقة به، والزيادات التي رأيت إضافتها إلى النص نفسه رغبة في المزيد من الوضوح.
لقد قرأت النص فأذهلتني الكنوز التي ينطوي عليها، وأعدت قراءته مرات قبل أن يتحرك في نفسي الدافع الملح لنقله إلى العربية. كنت في البداية أستبعد الفكرة لإشفاقي مما ستسببه من عناء، ولعلمي بأن معرفتي المتواضعة باللغة اليونانية لا تسمح لي بمواجهة النص ومشكلاته وتحدياته (وكنت قد تعلمت هذه اللغة قبل عشرين سنة ثم طحنتها مرارة الأيام!) ولكن حبي للنص وإعجابي بعظمة صاحبه لم يتركا لي فرصة للتردد، رحت أنقله وأراجع كل كلمة وكل سطر على الترجمة الألمانية الحديثة المواجهة له في الطبعة التي بين يدي، وإذا كان من حقي أن أقول بأنني استوعبت النص الأصلي - باستثناء عبارات قليلة أشرت إليها في الهامش - فإن من واجب الأمانة أن اعترف بأنه لولا الترجمة الألمانية التي قام بها الأستاذ «ديرنج» ما تأكدت من صحة عبارة واحدة نقلتها، ولا تجرأت أصلا على هذه المحاولة، ولهذا يطيب لي أن أسجل شكري وعرفاني بجهود هذا العالم الجليل؛ ففضله علي وعلى هذا الكتاب الذي بين يديك لا يمكن أن يجد الكلمات التي تفيه حقه.
وقد اعتمدت على شروح محقق النص وناشره، واستعنت بها على كتابة الهوامش والتعليقات، ولم أشأ أن أثقل على القارئ العربي بكلمات يونانية لم أجد داعيا للإكثار منها، فاكتفيت بالإشارة في الهامش لما وجدته ضروريا لا غنى عنه في التعرف على المصطلحات الأرسطية الأساسية، ولكني لم أستطع في نفس الوقت أن أهمل حاجة الباحث المتخصص في الفكر اليوناني عموما والفكر الأرسطي بوجه خاص إلى مزيد من التفاصيل، فأضفت التعليقات التي تجدها ملحقة بالنص، واعتمدت في جانبها الأكبر على تعليقات الناشر نفسه، مع إضافات يسيرة لا تقلل - بل تزيد - من امتناني له وعرفاني بفضله، وقد كان الإغراء بالمزيد من التفصيلات كبيرا، وكان من الممكن الرجوع إلى المصادر المشار إليها (وخصوصا محاورات أفلاطون وبالأخص الجمهورية) رغبة في المزيد من التعمق في جذور الفلسفة الأرسطية والتعرف إلى «الآباء» الذين ينحدر منهم نص هذا الكتاب وكثير من عباراته، ولكنني اقتصرت على التوسع - المحدود - في بعض الجوانب الهامة عن فلسفة أرسطو، حتى يخرج القارئ بتصور مجمل عن جذور شجرته وثمارها، ويرتبط هذا الكتاب في ذهنه بقدر الإمكان بالسياق العام لتفكير المعلم الأول وتطوره.
وقد دفعتني الرغبة في الوضوح والتيسير على القارئ أن أضع بين قوسين كلمات تربط بين عبارات أرسطو المعروفة بالتركيز المرهق والإيجاز الشديد، كما التزمت بالترقيم العلمي الذي وضعه الناشر المحقق لفقرات الكتاب، وهو تقليد متبع في سائر الطبعات المعتمدة لأرسطو وغيره من الكتاب الكلاسيكيين. ويهمني قبل كل شيء وبعد كل شيء أن يجد القارئ في هذا الكتاب - بجانب الفائدة العلمية الخالصة - شيئا من المتعة والبهجة العقلية التي أشاد بها المعلم الأول وأوشك أن يجعلها غاية الحياة على هذه الأرض، وأملي أن يخرج منه القارئ العربي وهو أقدر على التفلسف، أي على التفكير الكلي الحر الذي اشتدت حاجتنا إليه مع توالي المحن والآلام.
بداية كتاب دعوة للفلسفة
Bog aan la aqoon
إن تطلعك للمعرفة، أي عزيزي ثيميسون،
20
وسعيك إلى الرفعة والحياة السعيدة أمور أعلمها عن طريق السماع، وإني لمقتنع (ب1) بأنه ما من أحد يملك أنسب مما تملك من ملكات
21
تعينك على الإقبال على الفلسفة؛ فأنت غني بحيث يمكنك أن تنفق على تعلمها،
22
وأنت كذلك تحتل مكانة مرموقة، ويعتقد معظم الناس أن الحياة السعيدة تعتمد على امتلاك الخيرات الخارجية، وهم «لا يذهبون إلى هذا الرأي» بغير مبرر؛ فنحن نلاحظ أن بعض الناس يوفقون في جميع شئونهم ويبلغون النجاح على الرغم من حمقهم، ولا شك أنك صادفت في حياتك حالات أخرى حدث فيها العكس، وقد يمكنك، من معرفتك بالماضي أو من تجربتك الخاصة، أن تتذكر عددا من الوقائع التي كان فيها الغرور سببا للسقوط.
23
لقد عرفت رجالا أسرفوا في الثقة بالثروة والحظ والقوة ولهذا قضي عليهم بالانحدار «إلى هاوية» الشقاء، وعلى قدر تفوقهم السابق في النجاح يشتد عمق إحساسهم بالإخفاق وسوء الحظ، ويشعرون بالخجل من أن وضعهم الحاضر (ب2) لا يحفزهم على النهوض بما يرونه واجبا (مفروضا) عليهم.
ولما كنا نلمس
Bog aan la aqoon
24
نكد الطالع الذي يلم بهؤلاء الناس، فإن علينا أن نتحاشى مثل هذا القدر ونعلم أن السعادة في الحياة لا تقوم على امتلاك الثروة الكبيرة، وإنما تعتمد على الحالة النفسية الطيبة.
25
وكذلك الأمر فيما يتعلق بالجسم؛ فلن يصف إنسان أحدا من الناس بأنه «مبارك الحظ من الآلهة» لمجرد أنه يرتدي ثيابا فخمة، بل سيخلع هذه الصفة على من وهب الصحة وتمتع بالمزاج الصحيح، حتى ولو لم يكن له أدنى نصيب من الزخرف الخارجي.
26
وبالمثل لا يصف المرء نفسا بأنها سعيدة إلا إذا كانت نفسا مثقفة، ولا إنسانا بالسعادة إلا إذا كان مهذبا، ولكننا نمنع هذه الصفة عمن يتحلى بمظاهر الزينة الفخمة دون أن يكون له أية قيمة في ذاته، ويصدق هذا أيضا على الحصان؛ فمهما يكن من لجامه الذهبي وحلاه الثمينة فلن نضفي عليه أي قيمة ما دام لا يصلح لشيء غير ذلك، وسنفضل عليه حصانا آخر «نتوسم فيه» الصفات الطيبة.
27 (ب3) ثم إن من عادة المنحطين من الناس
28
إذا حصلوا على ثروة طائلة أن يقدروا قيمة هذه الثروة تقديرا يفوق تقديرهم لخبرات النفس، وهذا هو أحقر شيء (يمكن تصوره). ولو ظهر سيد في مظهر من هو أقل شأنا من خدمه لأصبح عرضة للسخرية والاستهزاء، وكذلك يتحتم علينا أن نحشر في زمرة التعساء
29
Bog aan la aqoon
أولئك الذين يجعلون لاكتساب الثروة أهمية تفوق «العناية» بطباعهم وأخلاقهم. (ب4) والواقع أن هذه هي الحقيقة؛ فالتخمة - كما يقول المثل السائر - تلد الغطرسة، وإذا ما اقترن النقص في التربية
30
بالقوة والسلطة تولد عن ذلك الجنون، وأولئك الذين ساءت نفوسهم لن ينفعهم الثراء ولا القوة ولا الجمال شيئا، بل كلما توافرت هذه الأمور ازداد ضررها على صاحبها عمقا وتنوعا، وذلك إن لم تقترن بالتبصر (والحكمة).
31
إن المثل القائل: «لا تعط السكين للطفل» يعني ألا تضع القوة في أيدي الرعاع.
32 (ب5) إن التبصر الفلسفي
33 - وهذا ما سوف يوافقنا عليه الجميع - هو ثمرة الجهد الجاد والبحث عن الأشياء التي تؤهلنا الفلسفة للبحث عنها؛ لهذا يتحتم علينا - دون لجوء إلى مماحكات لفظية - أن نتفلسف. (ب6) إن كلمة «التفلسف» تدل من ناحية على السؤال عما إذا كان من واجب الإنسان أن يتفلسف، كما تدل من ناحية أخرى على أن نهب أنفسنا للفلسفة. (ب7) لما كنا نتوجه بحديثنا إلى أناس من البشر لا إلى أولئك الذين لهم حياة ذات طبيعة إلهية، فلا بد أن نضيف إلى تلك التنبيهات
34 (السابقة) تنبيهات أخرى نافعة في الحياة الاجتماعية والعلمية.
وفي هذا الصدد نقول: (ب8) إن ما يقع تحت تصرفنا لتيسير شئون الحياة، كالجسد وما يخدم الجسد، إنما يقع تحت تصرفنا كنوع من الأداة، واستخدام هذه الأدوات مقرون بالخطر؛ فهي تؤدي إلى عكس نتيجتها «على يد» أولئك الذين لا يحسنون استعمالها؛ ولهذا يجب علينا أن نسعى إلى معرفة تعيننا على استخدام كل هذه الأدوات على الوجه الصحيح، كما يجب علينا أن نسعى إلى تحصيل هذه المعرفة وتطبيقها بطريقة ملائمة، يجب علينا أن نصبح فلاسفة إذا أردنا أن نصرف شئون الدولة بصورة صحيحة، ونشكل حياتنا الخاصة بطريقة نافعة. (ب9) بيد أن المعرفة على أنواع مختلفة، فهناك المعرفة التي تنتج خيرات الحياة، وهناك المعرفة التي تستخدمها، وثمة تقسيم آخر؛ فهناك أنواع المعرفة التي تخدم وتطيع، وهناك الأنواع التي تأمر، والأنواع الأخيرة أعلى درجة، وفيها يكمن الخير بمعناه الحقيقي. ولما كان هذا النوع الوحيد من المعرفة الذي يتوصل للحكم الصحيح ويستخدم العقل ويضع الخير في مجموعه نصب عينيه - ونعني به الفلسفة - هو الذي يستطيع الانتفاع بسائر أنواع المعرفة وتوجيهها وفق قوانين الطبيعة،
35
Bog aan la aqoon
فإن هذا دليل آخر على ضرورة التفلسف.
ذلك أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم الصحيح والتبصر المعصوم (من الخطأ)
36
الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال وأن ندع. (ب10) دعنا الآن نتعمق سؤالنا ونتأمله من وجهات النظر الغائية لكي نصل إلى نفس التنبيه (السابق).
37 (ب11) من بين الأشياء التي تنشأ «وتكون» ما يدين «وجود» بعضه للتدبير «العقلي» والمقدرة «البشرية على الصنعة»
38 - كما هو الحال في البيت والسفينة اللذين يشترطان المقدرة والتدبير - في حين أن بعضها الآخر لا ينشأ عن طريق المقدرة البشرية «على الصنعة»، بل بواسطة الطبيعة، إن الطبيعة هي الأصل
39
في الحيوانات والنباتات، وكل نشوء من هذا النوع يتم وفقا للطبيعة، ولكن هناك أيضا أشياء تنشأ عن طريق الصدفة، ونحن نقول عن معظم الأشياء التي لا تنشأ عن طريق الصنعة ولا الطبيعة ولا الضرورة (نقول): إنها تنشأ عن طريق الصدفة، (ب12) وليس فيما ينشأ عن الصدفة شيء له هدف أو غاية
40 (من كونه ونشوئه). أما الأشياء التي تنشأ عن المقدرة البشرية (على الصنعة) فلها غاية وهدف؛ «لأن من يملك المقدرة سيبين لك دائما لماذا كتب ولأي هدف»، وهذا الهدف (نفسه) أفضل من الشيء الذي نشأ من أجله.
41
Bog aan la aqoon
وأنا أتكلم عن الأشياء التي تكون العلة فيها هي المقدرة في ذاتها لا بطريقة عرضية فحسب، فإن الشفاء هو بالتأكيد علة الصحة قبل أن يكون علة المرض، وفن البناء هو علة «تشييد» البيت لا علة الهدم؛
42
فكل ما ينشأ عن طريق المقدرة البشرية إنما ينشأ من أجل «تحقيق» هدف معين، وهذه هي غايته وأفضل شيء «بالنسبة له». أما ما ينشأ عن طريق الصدفة فلا ينشأ لهدف، ومع ذلك فقد يتفق أن يتولد عن الصدفة بعض الخير، غير أنه لا يكون خيرا من خلال الصدفة ومن حيث نشأته عن طريق الصدفة؛ لأن ما ينشأ عن طريقها يكون دائما غير محدد. (ب13) إن ما ينشأ وفقا للطبيعة إنما ينشأ لأجل هدف بحيث يكون النتاج الطبيعي دائما أكثر ملاءمة للهدف من النتاج الفني؛ فليست الطبيعة هي التي تحاكي الصنعة «البشرية»، بل هذه هي التي تحاكي الطبيعة، كما أن المقدرة البشرية (على الصنعة) قد وجدت لمساندة الطبيعة وإكمال ما تركته ناقصا؛
43
ذلك لأن من بين الموجودات ما يبدو أن الطبيعة وحدها قادرة على إتمامه بنفسها دون حاجة إلى مساعدة، ومن بينها الآخر ما لا تتمكن «من إكماله» إلا بالجهد أو تعجز عنه عجزا تاما، ويتضح هذا لدى نشوء الكائنات الحية؛ فبعض البذور تتفتح دون أدنى «قدر من» الرعاية، أيا كانت الأرض التي تسقط عليها، أما بعضها الآخر فيحتاج إلى فن الزراعة، وكذلك تستطيع بعض الكائنات الحية أن تنمو بنفسها نموا كاملا وأن تبلغ النضج، على العكس من الإنسان الذي يحتاج إلى عدد كبير من المهارات الضرورية للمحافظة «على حياته»، وهو يحتاج إليها في البداية بعد ولادته مباشرة، ثم يحتاج إليها بعد ذلك لتغذيته؛ (ب14) فإذا كانت القدرة البشرية (على الصنعة) تحاكي الطبيعة، فمن الواضح أن غائية منتجات القدرة البشرية أمر يعتمد على الطبيعة، ويصح لنا أن نقول: إن كل ما ينشا نشأة سليمة إنما ينشا من أجل هدف (معين)؛ فكل ما يؤدي إلى شيء جميل قد نشأ نشأة صحيحة، وكل ما ينشأ أو قد تم نشؤه بالفعل ينتج شيئا جميلا حتى تتم العملية الطبيعية بصورة سوية، أما ما يشذ عن الطبيعة فهو رديء ومضاد لما يوافق الطبيعة، وهكذا تتم النشأة
44
السوية المطابقة للطبيعة لأجل تحقيق هدف معين، (ب15) ويمكننا أن نتبين هذا «من ملاحظة» كل جزء من أجزاء جسمنا على حدة، فإذا تأملت الجفن مثلا وجدت أنه لم يتكون «عبثا» ولغير هدف، وإنما وجد لحماية العينين وتوفير الراحة لهما والحيلولة دون نفاذ شيء من الخارج إليهما، ونحن نقصد نفس الشيء عندما نقول: إن الأشياء الطبيعية قد تكونت
45
لتحقيق هدف معين، أو عندما نقول: إن الأشياء المصنوعة
46
Bog aan la aqoon
قد أنتجت لغرض ما، فعندما يتم بناء سفينة لنقل البضائع عن طريق البحر يكون الهدف المقصود من بنائها قد قدم بالفعل. (ب16) إن جميع الكائنات الحية أو (على الأقل) أفضلها وأرفعها قدرا قد نشأ عن الطبيعة وفي تطابق مع الطبيعة، ولا معنى للاعتراض على هذا بأن أغلب الحيوانات قد نشأ ضد الطبيعة، أي للإفساد وإلحاق الأذى والضرر. إن أسمى الكائنات الحية (التي تعيش على الأرض) هو الإنسان، وهذا يدل بوضوح على أنه قد نشأ نشأة طبيعية وفي تطابق مع الطبيعة؛ (ب17) فإذا كان الهدف دائما أفضل من الشيء (إذ إن كل شيء يكون - أو ينشأ - من أجل الهدف، كما أن ال «لماذا»
47
هي الأفضل على الدوام بل تفوق جميع الأشياء في الفضل)، وإذا كان الهدف المطابق للطبيعة هو آخر ما يتوصل إليه في مجرى الكون الطبيعي
48
عندما يسير هذا سيرا متصلا نحو الكمال،
49
وإذا سلمنا إلى جانب هذا بأن الجسد هو أول ما يبلغ الكمال عند الإنسان، ثم يأتي بعده ما يتعلق بالنفس، وإن كمال الأفضل بالنسبة للكون (النشوء) إنما يأتي على نحو من الأنحاء دائما فيما بعد، وإذا سلمنا بعد هذا بأن النفس تنشأ متأخرة عن الجسم،
50
وأن آخر ما ينشأ من «ملكات» النفس هو ملكة العقل؛
51 «إذ إننا نلاحظ أن هذه الملكة هي بطبيعتها آخر ما يتكون عند الإنسان؛ ولهذا كانت هي الخير الوحيد الذي تطمح الشيخوخة إلى امتلاكه.» إذا سلمنا بهذا كله تبين لنا أن ملكة العقل بحسب طبيعتها هي هدفنا، وأن استخدامها هو الغاية الأخيرة التي من أجلها نشأنا، وإذا صح القول بأننا قد وجدنا
Bog aan la aqoon
52
وفقا للطبيعة، فقد اتضح أننا نعيش أيضا لكي نفكر في شيء ولكي نتعلم. (ب18) دعنا نسأل الآن لأي موضوع من موضوعات الفكر (القائمة) قد أوجدنا الله؟ عندما سئل فيثاغورس عن هذا أجاب بقوله: «لكي أتأمل السماء»،
53
وقد تعود أن يصف نفسه بأنه «إنسان » يتأمل السماء وأنه إنما جاء إلى الحياة من أجل هذا الغرض. (ب19) ويروى أيضا عن أنكساجوراس أنه سئل عن الهدف الذي يمكن أن يبتغيه الإنسان من مولده وحياته فأجاب، بقوله: لكي يتأمل السماء والنجوم «الطالعة» فيها والقمر والشمس، وكأن كل ما عدا ذلك لا يستحق عناء الجهد.
54 (ب20) هكذا يكون فيثاغورس قد زعم بحق
55
أن كل إنسان قد أوجده الإله لكي يعرف وينظر ويتأمل، وسواء أكان موضوع هذه المعرفة هو «نظام» الكون أم أي طبيعة أخرى، فذلك أمر قد نفحصه فيما بعد، ويكفي الآن ما قلناه ليكون أساسا نعتمد عليه، وما دامت الغاية - بمقتضى الطبيعة - هي ملكة التعقل، فإن أفضل الأشياء هو استخدامها «في التدبر والتفكير»؛ (ب21) لهذا يجب على المرء أن يعلم سائر الأشياء من أجل الخير الكامن في الإنسان نفسه، ومن «مجموع» هذا الخير «يقوم» بالأمور الجسيمة من أجل «الأمور» النفسية، «ويؤثر» الفضيلة من أجل ملكة التعقل؛ لأن هذه هي أسمى الأشياء جميعا. (ب22) وتقودنا الفكرة التالية إلى نفس الهدف (وهو أن من يريد أن يكون سعيدا فلا بد له أن يتفلسف). (ب23) لما كان النظام يسود الطبيعة كلها، فإنها لا تفعل شيئا بالصدفة، وإنما توجه كل شيء نحو هدف محدد، وهي حين تستبعد الصدفة (والاتفاق)
56
تحرص على تحقيق الهدف (أو الغاية) بقدر يفوق كل فن بشري؛ إذ إن الصنعة البشرية،
57
Bog aan la aqoon
كما نعلم، محاكاة للطبيعة. ولما كان الإنسان يتألف بحسب طبيعته من نفس وجسد، وكانت النفس أعلى قيمة من الجسد، كما كان الأقل شأنا يندرج دائما تحت الأفضل في سبيل تحقيق هدف معين، فإن وجود الجسد إنما يكون من أجل وجود النفس، ونحن نعلم أن النفس تكون في جزء منها عاقلة، وفي جزء آخر غير عاقلة، وأن الجزء غير العاقل منها أقل قيمة (من العاقل). ونستنتج من هذا أن الجزء غير العاقل يوجد من أجل الجزء العاقل، والجزء العاقل يحتوي على العقل،
58
وهكذا يسوقنا البرهان ضرورة إلى «القول» بأن كل شيء يوجد من أجل العقل. (ب24) إن فاعلية العقل هي التفكير،
59
والتفكير يقوم على النظر في موضوعات الفكر،
60
على نحو ما تكون فاعلية «عضو» الإبصار هي رؤية المرئيات، هكذا يجعل الفكر والعقل كل شيء جديرا بأن يسعى إليه بنو الإنسان؛
61
إذ تكون بقية الأشياء جديرة بالسعي إليها من أجل النفس، والعقل هو أرفع الأمور قيمة في مجال النفس، ومن أجله (وحده) يكون كل شيء آخر، (ب25) وتكون بعض الأفعال العقلية حرة حرية كاملة، وهي الأفعال التي تتحقق لذاتها،
62
Bog aan la aqoon