Daci Sama
داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
Noocyada
وفي بني جمح هؤلاء نشأ أبو محذورة أحد الثلاثة المختارين من مؤذني النبي عليه السلام، وهم بلال وأبو محذورة وعمرو ابن أم كلثوم ... ولا يدرى أمن محض المصادفة أن كانت نشأة اثنين من الثلاثة في بني جمح، أم كان لهؤلاء القوم بعض عناية بالصوت والغناء. وإنما المعروف عن القوم أنهم كانوا أصحاب الأزلام والأيسار في الجاهلية وأنهم كانوا من حزب عبد الدار حين شجر الخلف بينه وبين عبد مناف، فكان بينهم وبين بني عبد مناف خلاف قديم.
وإذا كان لنشأة بلال بين هؤلاء القوم أثر مقدور في بغضه لعبادة الجاهلية وإقباله على الإسلام فذلك هو اطلاعه بين القوم على أسرار الأزلام والأيسار وما يلزمها أحيانا من الغش والتلبيس، وأن القوم فيهم مجافاة عن الرحمة والنزعة الروحية باعدت بينهم وبين خلائق عبد مناف - جد النبي عليه السلام - منذ القطيعة الأولى بين الأحزاب القرشية، وخليق بأمثال هؤلاء ألا يألفهم الضعفاء.
ولم يعلم على التحقيق من كانوا سادة بلال وأبيه من بني جمح هؤلاء. فقيل إنه كان عند عقيلة من عقائلهم، وقيل إنه كان عند أيتام لأبي جهل، وقيل إنه كان عند أمية بن خلف وبعض ولده، واتفقت الأقوال على أن الصديق رضي الله عنه هو الذي استنقذه من أيديهم بعد ما عاينه من تعذيبهم إياه لدخوله في الإسلام. فاشتراه بخمس أواق من الذهب وقيل بسبع أواق وقيل بتسع أواق. وزعموا أن سيده أراد أن ينغص الصفقة على الصديق بعد شرائه فقال له: لو أبيت إلا أوقية لبعناك! فقال له الصديق: لو أبيتم إلا مائة لاشتريته ...! ويزعم بعض الرواة أن الصديق استبدله بغلام له جلد من عبيده، وهي رواية يشك فيها كثيرا؛ لأن الصديق لم يكن ليسلم المشركين رجلا من أتباعه ليستنقذ به رجلا غيره، وأدنى من ذلك وأشبه بخلائق الصديق رضي الله عنه أنه اشتراه بأمر النبي عليه السلام، وأنه عليه السلام عرض عليه الشركة فيه ليخفف عنه عبء نفقته ونفقة المستضعفين من أمثاله، فقال له: لقد أعتقته يا رسول الله. وعمل بعد ذلك خازنا له ثم خازنا للنبي ومؤذنا للمسلمين بعد إقامة الأذان.
واستراح بلال بعد عتقه من إيذاء السادة للعبيد ولكنه لم يسترح ولا استراح غيره من إيذاء الأحرار للأحرار ولا سيما المستضعفين الذين لا تحميهم العصبية ولا الخوف من الثأر. فقد كان المشركون يتعقبون المسلمين بكل ما استطاعوا من عنت ومساءة، واشتدوا في ذلك حتى هموا بقتل النبي عليه السلام، وجمعوا كلمة القبائل على هذه النية ليفرقوا دمه الزكي بينها فلا تقوى هاشم وحدها على محاربتها أو تصمد لعداوتها. فأشفق النبي الكريم على صحبه وأذن لهم في الهجرة قبله، وكان بلال ممن هاجر إلى المدينة على إيثار منه للبقاء في مكة. فلما وصل النبي عليه السلام وصاحبه الصديق إلى المدينة كانت «أوبأ أرض الله من الحمى» ولكنها أرحم بهم من جيرة المشركين في مكة. ونزل الصديق وعامر بن فهيرة وبلال في بيت واحد فأصيبوا جميعا بالحمى - ولعلها الملاريا كما رجحنا في غير هذا الكتاب - فكان بلال إذا تركته الحمى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته يترنم بصوته الجهوري قائلا:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بفخ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
وهي مواضع ومنابت بمكة وجوارها تشوقها بلال في العلة لما ابتعد عنها، وليس أعجب في الوفاء لموطن الصبا من هذا الوفاء؛ لأن بلالا قد لقي عند تلك المواطن والمنابت قسوة في جاهليته وتعذيبا في إسلامه وخطرا على حياته، ولكنه عاش فيها مع الصبا الأول وعاش فيها مع الإيمان الأول، فهي حبيبة إليه أثيرة لديه، وإن لقي الحفاوة والسلامة في الهجرة منها إلى غيرها.
وقد لزم بلال النبي والصديق بالمدينة ومكة وسائر المغازي والأسفار بعد ذلك. وكان لمسجد المدينة الذي اشترك النبي عليه السلام في بنائه حظ الأذان الأول، فكان لبلال حظ السبق بهذا الأذان. ولم يزل له حظ التقدم على سائر المؤذنين في حضرة النبي حتى قبض عليه السلام، وميز بالتقدم عليهم لتقدمه في الإسلام ولجهارة صوته وحسن أدائه، وإن كان تقدمه في الإسلام هو أرجح المزيتين التي استحق بها التفضيل والتكريم.
Bog aan la aqoon