Daci Sama
داعي السماء: بلال بن رباح «مؤذن الرسول»
Noocyada
وبعض هذه الشواهد المتواترة يقرر لنا أن السلالات البشرية لا تبقى على وحدتها وانفرادها مع تعاقب الأجيال واختلاف مطارح الهجرة والانتقال، ولكنها تتوزع وتتفرع وينتشر التوزيع والتفريع في خصائصها ومزاياها. وليس أدعى من ذلك إلى التشكيك في مزاعم العنصريين الذين يحصرون مزايا البشر العليا جميعا في سلالة واحدة تنفرد بها وحدها بين سائر السلالات.
ومن دواعي الشك القوية في مزاعم العنصريين أن كثيرا من المزايا التي يصفون بها سلالة من السلالات يسهل الرجوع بها إلى عواملها المحلية أو الاجتماعية التي لا تحسب من العوامل الوراثية الحيوية. ونعني بها ما يعرف بالعوامل البيولوجية.
فقد زعموا - مثلا - للسلالات الأوروبية أنها انفردت بحب المعرفة النظرية وملكة البحث عن حقائق الأشياء و«التفلسف» المجرد الذي لا يرمي إلى المنفعة القريبة سواء منها ما ينتفع به الأفراد أو ما تنتفع به الجماعات. وقالوا: إن الشعوب الشرقية لا تحب المعرفة هذا الحب ولا تتجرد للمباحث الفلسفية هذا التجرد، ولكنها تعنى بالعلم لتطبيقه في الصناعات ومرافق العيش ومطالب الحياة العملية، ودليلهم على ما يزعمون ذلك الفارق الظاهر بين ثقافة اليونان وثقافة المصريين.
وحقيقة الأمر أن البحث عن أسرار الغيب وقوانين الوجود يدخل في سلطان الكهانات القوية وأن هذه الكهانات القوية ترسخ وتتوطد وتبسط يديها على العقول إلى جانب الدول العظيمة التي لا بد من قيامها في أودية الأنهار الكبيرة. فحيثما وجد نهر كبير في صقع من الأصقاع لم يكن هنالك بد من قيام دولة عظيمة على شطيه تسوس الري والزرع وتصون الأمن وتضمن سلامة المعاملات، ومتى قامت هذه الدولة العظيمة لم يكن لها بد من الاعتماد على دعائم الدين وسلطان الكهانة والتفرد بحق البحث في العقائد والسيطرة على عالم الروح والضمير، وكثيرا ما تجتمع الوظيفتان في شخص واحد كما اتفق لبعض الملوك الأرباب أو «أنصاف الأرباب» في التاريخ القديم، فإذا أصبحت المباحث الغيبية والمعارف التي تتناول أصول الوجود حقا للكهانة تحميه الدولة، فليس من المعقول أن تتسع الحرية للناس يثبتون فيها وينكرون كما تتسع لهم في غيبة الكهانة القوية والدولة العريقة، ولا مناص من اختلاف مقاصد التفكير جيلا بعد جيل بين الأمتين حتى يلوح للنظر العاجل في النهاية أنه اختلاف بين طبيعتين أو معدنين من معادن الخليقة الإنسانية.
وقد كانت أمم الشرق القديم دولا لها كهانات قائمة قبل أن تظهر الفلسفة اليونانية بألوف السنين، فامتد تفكير اليونان إلى محاريب الفلسفة التي كانت حرما منيعا في ظل الكهانات الشرقية لا يتخطاه عامة الناس.
وظهر الفارق من أجل ذلك بين ثقافة اليونان وثقافة الشرقيين، ولو انعكس الأمر بين أرض اليونان وأودية النيل ودجلة والفرات لانعكست الآية بلا مراء.
ومما يؤيد هذه الحقائق أن الكهانة القوية صنعت في أوروبا حين توطدت فيها مثل ما صنعته الكهانات في الشرق القديم. فلما امتد سلطان الكنيسة البابوية على الأمم الأوروبية ضرب الحجر على العقول فأحجم الناس دهرا طويلا عن البحث المجرد والتفكير في حقائق الوجود، وبلغت الكهانة الأوروبية على حداثتها ما بلغته كهانات الشرق بعد أحقاب وأحقاب تتوالى من بداية عهد التاريخ.
كذلك زعم بعض النقاد العسكريين من أهل أوروبا أن الأوروبيين يمتازون على الآسيويين والأفريقيين في معدن الشجاعة والبطولة الحربية، واستدلوا على ذلك بانتصار اليونان مع قلتهم على الفرس مع كثرتهم في معركة ماراتون ومعركة سلاميس.
فالواقع الذي أسفرت عنه دراسات الثقات من النقاد العسكريين المحدثين، أن الفخار الوطني قد لعب لعبته المعروفة بأخبار المعركتين فبالغ فيها جد المبالغة وأضفى عليها ثوبا من الحماسة الخيالية خرج بها من حيز التاريخ الصميم إلى حيز الملاحم الهومرية.
فلم يدر في خلد «دارا» يوما من الأيام أن يستولي على أرض اليونان؛ لأنها أرض جرداء لا تنفعه للزراعة ولا للتجارة ولا يخشى منها الخطر العسكري على دولته المترامية الأطراف، وإنما عناه أن يؤدب إريتريا وأثينا لأنهما تجرأتا على معاونة اليونان الثائرين عليه في آسيا الصغرى، واغتنم لذلك فرصة الشقاق بين المستبدين وأنصار الحرية في أثينا أو قيل إنه تلقى من زعماء الشعب المتمرد وعدا بالانضواء إليه وخذلان أولئك المستبدين.
Bog aan la aqoon