أما زين العابدين فقد كان يدري أنه لا يملك أن يتعرف بخير من نعمات هشيكة؛ فأما شبابه فقد ولى وهو يدري، وأما ماله فهو لا يكفي إلا ما يستر أمره، وما دام قد أصبح بلا شباب ولا مال، فليس في العالم خير من نعمات ترد إليه الشباب في قصصها، وفيما تمثله من ماضيه وماضيها، وتبقي عليه المال بعدم مبالغتها فيما تطلب، وعدم ضيقها بما يعطى.
كان زين العابدين يصبغ شعره، وكان يحس أنه بصبغته هذه يصبغ عجزه، وهذا التيبس الذي ألم بأطرافه، وهذه الغضون التي تكاثرت حول عينيه وفي وجهه، بل وفي جسمه كله، بل أنه كان يحس أنه يصبغ الأيام الشاحبة من الشيخوخة؛ أياما في بياض الثلج وجموده كان يجري عليها الصبغة وينظر إلى المرآة ويبتسم. وحسبه عند نظره إلى المرآة ابتسامة، لا، لم يعد يطمع في هذا الفرح العربيد الذي كان يتواثب في نفسه كلما نظر إلى المرآة، لا ولم يعد يريد هذا الاطمئنان غير المبالي الذي كان يتميع في نفسه عندما ينظر إلى المرآة، وهو بطبيعة الحال لم يعد يفكر أن يشعر بهذا الزهو الذي كان يثب إلى قلبه من المرآة.
بحسبه من المرآة ابتسامة. وأحيانا كانت الصبغة ينصل لونها؛ فكان زين العابدين يرى الشعرات البيض المتفلتة من الصبغة تلتقي بالشعرات السود، فكان يفرح من هذا اللقاء؛ فحبيب إلى نفسه أن يلتقي الشباب بالشيخوخة، ولو كان هذا اللقاء في ألوان، وإن كان هذا اللقاء مصطبغا تكلف فيه هو الشباب بفرشاة وصبغة، وفرضت فيه الشيخوخة نفسها كسنة من سنن الطبيعة وفترة من فتراتها. ولكنه كان يفرح على أية حال ويداعبه أمل، مجرد أمل أن تهب إليه من شبابه نسمات، أو نسمة من حين إلى حين، مهما يتباعد ما بين هذا الحين وذلك الحين.
كانت القاهرة تودع الشتاء، وكانت النسمات تهب بعيد الظهيرة حانية هينة المسرى، كأنها تصل بين شتاء بارد تودعه القاهرة، وصيف قائظ تستعد لاستقباله، أو كأنها بشائر من الربيع أرسلها كما يسبق الحراس المواكب. واستقل زين العابدين عربة ذات حصانين يبدو بوضوح أن أحدهما ذكر والأخرى أنثى، كما يبدو بوضوح أنهما تزاملا في هذه المهنة فترة طويلة من الزمان، فبينهما هذه الألفة المفروضة بين زميلين قديمين، فلو أطاق كلاهما لعانق كل منهما ذراع الآخر في حنان الآدميين الذين تقدمت بهم السن، ولم يعودوا ينتظرون من المستقبل إلا أن يستعيدوا معا ذكريات من الماضي الطويل. وكان سائق العربة رجلا في فتوة الشباب عريضا ضخما لا يعبأ كثيرا بما بين الحصانين من ألفة وتواد، بل إنه حتى لا يرعى حرمة الذكر أمام أنثاه ولا رقة القلب في معاملة الأنثى؛ فهو يسوط كليهما في حركة يأتيها عفوا، كأنها جزء من واجبه، وبشكل يقطع أنه لا يكن كثير رحمة لزميليه في العمل، ولولاهما ما كان له عمل. من اليسير أن يدرك من يراه أنه اشتراهما منذ قريب، وأنه قد دفع مقابلهما ثمنا لا يستحقانه، وهما على ما هما عليه من تقدم في السن. لم يكن صاحب العربة رحيما على الحيوان الأبكم فيهما، كما لم يكن رحيما على كبر السن الذي يمثلانه، وإنما كان يثأر للعرق الكثير الذي بذله في سبيلهما.
وكأنما كان الحصانان يرجوان أن يجدا في شيخوختهما شيئا من الراحة، أو شيئا من التوقير على الأقل، فحين لم يجداه من صاحبهما الجديد، راحا يفرضانه فرضا بمشية وانية غير عاجلة ولا مبالية بهذه السياط التي تنهمر عليهما، وكأنما يريدان أن يقولا؛ لكم عرفنا أمثال هذه السياط ولكنك في آخر المطاف مضطر أن تقدم إلينا أوفر الطعام وأحسن العناية، وإلا حرمناك رزقك جميعا، فللشيخوخة تجربتها وفائدتها في كثير من الأحايين.
وهكذا سارت العربة في هدوء على الرغم من صخب السائق. وزين العابدين يحاول ما وسعه الجهد أن يملأ فراغ المقعد في العربة بجسمه، ولكن هيهات له أن يستطيع؛ فقد ضمر جسمه مع الأيام، ألم تضمر أيامه أيضا؟ ولكنه لا يريد أن يصدق الضمور في جسمه أو في أيامه، فهو يتوسط المقعد ويضع يدا على يمين، ويدا على يسار، ويفرج ما بين رجليه قدر ما يستطيع، واضعا عصاه على الكرسي الصغير المقابل له، ينظر إلى الذين يمر بهم يكاد يسألهم ماذا ترون؟ ألا ترون شبابا؟ وهذه الوردة الحمراء ألا تصنع لي شبابا؟ وهذا الشعر الفاحم، فما الشباب إن لم يكن كذلك. وتمر به الأعين فتبتسم حينا، أو تعبره كظاهرة تعودت أن تراها، فما تحس فيها جديدا.
ووقفت العربة عند بيت متهرئ القسمات حاول أن ينتحر فعاجله صاحبه بالإسعاف، ونصب له مساند من الخشب تأخذ الطريق على من يريد السير على الطوار، حتى ليخيل لرائيه أنه عجوز مال على ذراعه فنام واستقر به الحال في نومته ، أو لعله يذكر آخرين بواحد من أهل الكهف أصابته نوبة الإغفاء، وهو مستند على ذراع له. ولكنه كان عند زين العابدين بيت نعمات، وكان عند نعمات المأوى الذي تلجأ إليه في زمان يولي وشيخوخة تسارع إليها الخطو.
طلب زين العابدين من السائق أن ينتظر، فأمر السائق الخيل بدوره ألا تتحرك، وألحق أمره بسباب كثير، والتفت إليه الحصان الذكر والغمامة على عينيه، ثم التفت إلى زميلته ومسح شفتيه بلسانه ثم استكان. ونزل زين العابدين من العربة ونفض الشارع بعينيه، كأنه مقدم على مغامرة، حتى إذا اطمأن إلى خلو الطريق؛ دلف إلى الباب المختفي بين الأعمدة التي تسند البيت.
ولم يطل غياب زين العابدين، وعادت معه نعمات، وقد ارتدت فوق ملابسها معطفا جديدا اشتراه لها زين العابدين منذ قريب.
كان وجه نعمات مختفيا وراء كثير، ولكن لم يكن الحجاب من الأشياء التي كان يحتجب وراءها الوجه.
Bog aan la aqoon