Cuthman Ibn Caffan
عثمان بن عفان: بين الخلافة والملك
Noocyada
وكان سعيد بن العاص أمويا قريب القرابة لعثمان. كان قد ربي في حجر عثمان. فلما فتح المسلمون الشام ذهب إليه وأقام مع معاوية بن أبي سفيان وقاتل معه وعرف بلاءه وصلاحه. فلما بلغ عمر بن الخطاب أمره استقدمه إلى المدينة واستعمله وأسبغ عليه عطفه، ولم يمت عمر حتى كان سعيد من الرجال المعدودين في قرش، فلما ولاه عثمان الكوفة ذهب إليها وهو يعلم من تفشي الروح القبلية فيها ما جعله يؤثر الشدة على الرفق بأهلها، فلم يلبث حين بلغها وأزال عنه غبار السفر أن صعد المنبر فخطب الناس فقال: «والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني لم أجد بدا إذ أمرت أن أئتمر. ألا إن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، والله لأضربن وجهها حتى ألحقها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم.»
ليس هذا الفصل مكان التفصيل لسيرة سعيد مع أهل الكوفة وسياسته فيهم، وإنما حديثنا فيه عن سياسة الفتح في عهد عثمان. وقد كان لسعيد بن العاص من الأثر في ذلك بالقضاء على انتقاض طبرستان ما نقف الآن عنده. فقد كان ملك طبرستان قد صالح سويد بن مقرن في عهد عمر بن الخطاب على طبرستان، وجبل جيلان بأن يدفع أهلها جزية كل عام، وهم من بعد ذلك آمنون لا يغار عليهم ولا يتطرق أحد إلى أرضهم إلا بإذنهم. وقد ظلوا سنوات يؤدون الجزية كاملة حينا، منقوصة حينا. فلما كانت سنة ثلاثين من الهجرة فشا الانتقاض في أرجاء مختلفة من بلاد الفرس، فنقضت خراسان، ونقضت جرجان، ونقضت طبرستان، ونقضت بلاد غيرها. وعرف سعيد بن العاص أن والي البصرة، وكان عبد الله بن عامر، قد سار إلى خراسان يخضعها. فسار هو إلى قومس وجرجان وطبرستان. ومن عجب أن هذه البلاد التي صالحت سويد بن مقرن في آخر عهد عمر دون قتال فزعا من بأس المسلمين، ورهبة لسلطانهم قد فكرت هذه المرة أن تقف وقفة المستيئس تريد أن تدفع هؤلاء الغزاة الذين بسطوا سلطانهم على ملك كسرى سبع سنوات أو تزيد. على أن سعيدا لم يلق مقاومة بقومس ولا بجرجان، بل صالحه أهل جرجان على مائتي ألف، فلما أراد أن يزحف من جرجان إلى طبرستان مشاطئا بحر قزوين قاتله أهل طميسه من ثغور طبرستان أشد قتال حتى صلى صلاة الخوف. واستمرت مقاومة هذا الثغر زمنا دل سعيدا على أن أهل طبرستان جمعوا له فيه، فما زال يدبر مكيدة الحرب حتى حاصرهم وحصرهم، وأراهم أن لا سبيل لهم إلى المضي في مقاومته. وتولاهم اليأس فسألوه الأمان فأجابهم إلى ما طلبوا على ألا يقتل منهم رجل واحد، لكنهم كانوا قد أرهقوه وجنده وقتلوا من المسلمين من لم يكن لقتلهم مثله عهد من قبل؛ لذلك لم يلبث القوم حتى فتحوا لسعيد أبواب حصنهم أن رأوه يقتحمه عليهم ويقتل من فيه جميعا خلا رجلا واحدا. واحتوى المسلمون ما في الحصن، ثم انطلقوا في أرض طبرستان وصحاريها، فلم يجدوا من يقاومهم.
أبلى جند الكوفة هذا البلاء الحسن في مقاومة الولايات الفارسية التي انتقضت. ولم يكن جند البصرة أقل من جند الكوفة حسن بلاء. وقد كان أبو موسى الأشعري والي البصرة حين وفاة عمر. فلما استخلف عثمان أقره عليها ست سنوات، أي: إلى سنة تسع وعشرين، وقيل: بل أبقاه ثلاث سنوات ثم عزله وولى مكانه عبد الله بن عامر ابن خال عثمان.
وقد ظلت الولايات الواقعة في سلطان جند البصرة مطمئنة إلى سكينتها زمنا بعد مقتل عمر، ثم امتدت إليها عدوى الانتقاض من غيرها من بلاد فارس، فأرسل إليها أبو موسى من ردها إلى حمى الطاعة.
ولا يفصل المؤرخون ما صنع أبو موسى، ومن بعثهم من أمراء الجند لرد المنتقضين إلى الطاعة. ولعل اختلاف الروايات في مدة ولايته البصرة أثناء خلافة عثمان، وهل كانت ثلاث سنوات أو ست سنوات، هو الذي صرفهم عن هذا التفصيل. يقول الطبري:
7 «عزل عثمان أبو موسى الأشعري عن البصرة، وكان عامله عليها ست سنين وولاها عبد الله بن عامر بن كريز ... وقيل: إن أبا موسى إنما عمل لعثمان على البصرة ثلاث سنين.» ويقول بإسناد: «لما ولى عثمان أقر أبا موسى على البصرة ثلاث سنين وعزله في الرابعة، وأمر على خرسان عمير بن سعد، وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي، فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة.» ثم يقول في سبب عزل أبي موسى: «ولما كانت السنة الثالثة كفر أهل أيذج والأكراد، فنادى أبو موسى في الناس فحضهم وندبهم، وذكر من فضل الجهاد في الرحلة حتى حمل نفر على دوابهم، وأجمعوا على أن يخرجوا رجالا. وقال آخرون: والله لا نعجل بشيء حتى ننظر ما صنيعه، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما فعل أصحابنا. فلما كان يوم خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلا، فتعلقوا بعنانه، وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول وارغب من الرجلة فيما رغبتنا فيه. فقنع القوم حتى تركوا دابته ومضى، فأتوا عثمان فاستعفوه منه، وقالوا: ما كل ما نعلم يجب أن نقوله، فأبدلنا به: فقال: من تحبون؟ فقال غيلان بن خرشة: في كل أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا وأحيا أمر الجاهلية فينا ... فدعا عبد الله بن عامر وأمره على البصرة.»
وكان عبد الله بن عامر في فتوة الشباب. كان ابن خمس وعشرين سنة، قوي الجنان جريئا في الحرب. لما سمع أبو موسى بتوليته قال لأهل البصرة: «يأتيكم غلام خراج ولاج، كريم الجدات والخالات والعمات يجمع له الجندان.» ولم يكذب أبو موسى؛ فقد جمع عثمان لعبد الله بن عامر جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي من عمان والبحرين.
انتفض أهل ولاية فارس لأول ما تولى عبد الله بن عامر أمر البصرة، فسير إليهم عبيد الله بن معمر ليردهم إلى الطاعة، ولقيهم عبيد الله على باب اصطخر فإذا بهم تواعدوا واستعدوا. ولقد استماتوا في القتال فانهزم المسلمون أمامهم وقتل عبيد الله فيمن قتل. فلما بلغ عبد الله بن عامر ما حدث استنقذ جند البصرة وسار بالناس إلى اصطخر، فلقيه الفرس فيها كما لقوا عبيد الله وقد استماتوا في القتال. لكن أبا عامر كان أوسع حيلة وأجرأ جنانا وأبرع محاورة؛ لذلك تراجع الفرس ولاذوا بحصون المدينة فحاصرها عبد الله وحاصرهم فيها ورماها بالمجانيق وما زال يضيق عليها الحصار حتى وهنت، فأخضعها عنوة وقتل بها مقتلة عظيمة وأفنى أكثر أهل البيوتات فيها ومن كان قد لجأ إليها من أساورة الفرس. فلما ذلت اصطخر سار عبد الله عنها إلى غيرها من مدن ولاية فارس، فقاوم بعضها عبثا وألقى بعضها سلاحه دون مقاومة. فقد اشتد عبد الله في معاملة هؤلاء الثائرين المنتقضين شدة أذلت أهل فارس جميعا ونكست رءوسهم.
وهناك من اصطخر المدينة المقدسة وعاصمة الفرس القديمة بعث عبد الله بن عامر أمراء جنده إلى ولاية خراسان التي انتقضت ليذلوها ويلزموها الطاعة ويبعث إلى نفوس أهلها اليقين بأن انتقاضهم لن يكون من أثره إلا أن يعرضهم للفناء أو للهوان. وبينما كان هؤلاء يسيرون في خراسان كان سعيد بن العاص يغزو جرجان وطبرستان وما والاها من الأرجاء، ويلزمهم جزاء ما نقضوا وثاروا ذلة وهوانا وجزية مضاعفة.
حدث انتقاض الكثير من ولايات فارس سنة ثلاثين من الهجرة. وسبب ذلك أن يزدجرد كسرى الفرس كان قد فر في خلافة عمر إلى خاقان الترك بسمرقند. فلما فتح الأحنف بن قيس بلاد خراسان وبلغ حدود الترك خشي خاقان الترك أن يجتاز المسلمون إلى بلاده، وأن يسلبوه ملكه، وأن يصنعوا به ما صنعوا بيزدجرد، فحشد جنده وحشد معه أهل فرغانة وسار بهم وبيزدجرد يلقى المسلمين بخراسان. وكان عمر بن الخطاب حين عرف فعال الأحنف بن قيس، وبلوغه بلخ قد أظهر غاية إعجابه به فصاح: «هو الأحنف وهو سيد أهل الشرق.» ثم بعث إليه في نفس الوقت يأمره ألا يجتاز خراسان إلى بلاد الترك. فلما أقبل خاقان ويزدجرد، ودخل خراسان انسحب الأحنف إلى مرو الروز وأقنع الترك بأنه لا يريد قتالهم، ولا يريد أن يتخطى أرض الفرس إلى أرضهم. فلما اقتنع خاقان بذلك ارتد راجعا إلى بلاده. وكان يزدجرد قد وصل في قوة فارسية إلى مرو الشاهجان فحصر حارثه بن النعمان أمير الجند المسلمين بها، واستخرج خزانته من موضعها. وكانت هذه الخزائن ثروة يخطئ تقديرها الإحصاء. فلما عرف انسحاب خاقان الترك وعوده إلى بلاده أراد أن يلحق به، وأن يحمل خزانته إلى عاصمة الترك معه. وأبى عليه أهل فارس أن يحمل الخزائن معه وأشاروا عليه أن يصالح العرب ليبقى بينهم. فلما أبى عليهم ما أرادوا، وأصر على الفرار بالخزائن ثاروا به وقاتلوه واستولوا على الخزائن، ففر وحاشيته إلى فرغانة عاصمة سمرقند.
Bog aan la aqoon