إن حكومة بريطانيا ما عاهدت عهدا إلا ونقضته، بعدما جنت ثمرته، فربحها في العهود خاص بها، لا يشركها فيه غيرها، لم يخف على الدولة العثمانية أن الإنجليز تصرفوا في الأراضي المصرية تصرف المالكين بلا مشورتها، وهبوا قسما عظيما من السودان الشرقي للحبشة وأثاروا حربا صليبية بين الحبشيين ومسلمي السودان، نزعوا إلى الاستيلاء على زيلع وهرر وبربر، هل كان شيء من هذا بإذن الباب العالي؟ فعلى أي وجه تثق الدولة بإنجلترا، بعدما جربت من غدرها ما جربت ورأت من عدوانها ما رأت؟
لو تساهلت الدولة مع الإنجليز في مسألة مصر فسنسمع عن قريب بأمور في الحجاز وسوريا واليمن وبغداد وكلها من دسائس الإنجليز، أما لو أقدم العثمانيون بعزيمة ثابتة وأقبلوا على شأنهم في مصر، مع هيجان الأفغانيين وانفراد إنجلترا عن سائر الدول؛ لوجدوا لهم أنصارا من جميع المسلمين في الشرق، ومن المصريين والسودانيين، ولأرغموا الإنجليز، واسترجعوا ما فقدوه من المكانة أيام حرب روسيا، ولأعادوا عزتهم الأولى.
هكذا ينبغي أن يساق الجيش العثماني، لصدمة الإنجليز لا لخدمتهم، فإن لم تفعل الدولة العثمانية فعلى الدنيا العفا، وعلى الإسلام السلام!
وليعلم المصريون من الفلاحين والعرب أن الإنجليز لا يقصدون إلا استعبادهم واستخدامهم كما يستخدم الأرقاء، وأول نير للذل يوضع على أعناق أمرائهم، فعليهم ألا يكونوا آلة في تمكين العدو من رقابهم، وأن لا يكون بعضهم فخا لصيد باقيهم، لعمر الله إنا لفي عجب من الذين يحفظون القلاع في السودان، ومن المصريين الذين يخفون لمقاتلة السودانيين ، هل يعلمون أي أمة يخدمون؟!
بلى، إن حامية كسلا حافظت عليها حتى تسلمها للحبشة، وإن حماة القلاع في السودان يحفظونها حتى يسلموها لقواد الإنجليز إن استطاعوا، نعم كنا نحب أن نرى هذه الشهامة من العساكر المصرية، لكن إذا لم يكونوا في تصرف دولة أجنبية، أما اليوم فثباتهم هو العار بعينه، والله لا أظن شخصا في قلبه ذرة من الإيمان تسمح له نفسه بهذا العمل، فإن لم يسعوا في إخراج عدوهم من ديارهم، والظن بهم أن يسعوا، فلا أقل أن يكفوا عن مساعدته في تملكها.
ألا يعلم المصريون أن حركة خفيفة منهم في معارضة الإنجليز في هذا الوقت تجلب تدخل الدول، وتكون سببا لإنقاذهم من هذا العدو الذي لا يكتفي بأكل لحومهم حتى يهشم من عظامهم؟ فليعلموا ذلك وليعملوا - والله لا يضيع أجر العاملين.
الفصل التسعون
الدهريون في الهند
دخل الإنجليز بلاد الهند ولعبوا بعقول أمرائها وملوكها على نحو يضحك العقلاء ويبكيهم، وكانوا يوغلون في أحشاء الهند ويتخطفون أراضيه قطعة بعد قطعة، كلما سادوا في أرض أدلوا على سكانها وأظهروا الضجر والسآمة من الإقامة بينهم قائلين: إن الإنجليز لا يشتغلون إلا بالأعمال التجارية، أما مقارفة الإدارة والسياسة فليست من شئونهم، إنما يدعوهم إلى احتمال أثقالها الشفقة على الملوك والأمراء العاجزين عن سياسة ممالكهم، ومتى قدر الأمير أو الملك على ضبط بلاده فلا يبقى إنجليزي فيها؛ لأن لهم أشغالا مهمة أخرى تركوها لمحض المرحمة.
وبهذا سلب الإنجليز كل مالك ملكه بحجة أن العمل في الملك ثقيل على النفس متعب للفكر والبدن، فالأولى لصاحب الملك أن يستريح وأن يموت فقيرا ذليلا تخلصا من عناء التدبير! وينادون بأنه متى سنحت الفرصة وجاء الوقت الذي لا يكون للأعمال المعاشية ولا المعادية تأثير على الأبدان ولا على الأفكار؛ فإنهم مستعدون لترك البلاد (يوم الحشر)، واليوم يقولون نفس الكلام بعينه في مصر!
Bog aan la aqoon