190

إذا سلب الأمير الشرقي ملكه وماله، وجرد من جميع حقوقه، وبقي له لقبه ولواحق لقبه؛ فهو في سكرة من لذة ما بقي له، وفي ذهول عما سلب منه، هذه خلة عرفها الإنجليز في كل أمير شرقي، فلم لا يقرون أعينهم بحفظ هذه الأسماء، بعدما جردت عن معانيها، وأي داع يدعو رجال الإنجليز لإزعاج قلوب الأمراء بنزع هذه الألقاب؟

إن اللقب الضخم حصن حصين، يسجن فيه الأمير الشرقي، أو جب عميق يلقى فيه، وهو يظنه جنة عرضها السماوات والأرض، فليعش أمراء المشرق متمتعين بنعيم ألقابهم، وسعادة أسمائهم، ويكفيهم من المجد أن يقال لهم بين خدمهم وخاصتهم، في داخل دوائرهم: «نواب صاحب»، «راجا صاحب»، «خديو صاحب»، «سلطان صاحب»، واخجلتاه! هذه الألقاب كانت تشير إلى ملك فسيح، ومجد شامخ، وشوكة قوية، وسطوة تخضع لها الشمم العوالي، فكيف طابت نفوس أمراء المشرق بقبولها عارية من كل شرف، لم يبق من معناها إلا سلطة على الخدم والحشم، وما هم فيها بأحرار، بل لا بد أن يوافقوا فيها رضاء الأجانب.

من أدق رجال الحكومة الإنجليزية في فن الحيلة، وأمهرهم في صناعة الخدعة، وأطولهم باعا في النفاق، وأحذقهم في اختراع الوسائل لسلب الأملاك من أربابها، وأشهرهم في عداوة المسلمين؛ ذلك اللورد المحترم «نورث بروك».

كان هذا الرجل البارع حاكما في الهند فأذاق أهاليه مر العذاب، في كئوس المحبة والوداد، كم خرب بيوتا، وقلب عروشا، وكم خفض رفيعا، وأذل عزيزا، وهو في جميع سيئاته يبكي بكاء الشفقة، ويسكب دموع المرحمة على الهنديين، ويقول: «إنني أول إنجليزي تهمه رفاهة أهل الهند، وإنني وحيد بين الإنجليز بمحبة الهنود، والسعي فيما يعود عليهم بالصلاح والنجاح، وإنني أستغفر الله إن كنت قصرت في عمل يؤمل بهم إلى الفلاح»، وينادي في الهنديين بقوله: «واأسفاه! إنكم اليوم ما عرفتموني، ولا أحطتم بما حواه ضميري، من إرادة الخير لكم.» هذا هو الكاهن الحاذق في وعظه (ودونه في النفاق عبد الله بن أبي سلول رأس المنافقين في الإسلام).

إن الحكومة الإنجليزية عرفت قدره في براعته ومعرفته بوجوه المكر، وخبرته بأحوال الشرقيين، وسعة علمه بكيفيات التصرف في عقولهم وأهوائهم، وطرق أخذهم من حيث لا يشعرون، واعترفت له حكومته بصدق الطوية في معاداة المسلمين؛ لأجل هذا قررت أن تبعثه إلى مصر، وعزمت على إرساله إليها مفوضا من قبلها يفعل ما يشاء.

ولكن لا نظن حبالته الخداعية تصرع فطانة المصريين وتأخذ عقولهم، فإن تسنى له النجاح، ورضي المصريون على أنفسهم عار الذل، ووصمة الضيم، فلا يكون إلا باستعمال توفيق باشا آلة في جميع أعماله، يستخدمه لإدخال مصر في ملك الحكومة الإنجليزية، يلقنه الأوامر السامية، ويلهمه الإرادات السنية، لتذليل أهل بلاده وسوق المصريين لقتل إخوانهم وفتح البلاد الثائرة، وإقرار السلطة فيها للحكومة الإنجليزية.

فإن تم له ما يريد من تسكين الفتن وتقريب المصريين للرضاء بحكومة تنفر منها طباعهم عمد إلى خلع توفيق باشا بأية علة وطلب تولية ابنه عباس؛ لكونه ولدا صغيرا لم يبلغ الرشد، واستند في ذلك إلى الفرمانات السلطانية (يحترمونها إذا وافقت أغراضهم)، وجعل نوبار باشا ديوانا له (الديوان وزير يعينه الإنجليز من طرفهم في الممالك التي تبقى في الهند تحت أسماء الأمراء الذين لا يعرف فيهم الرشد ولا يجوز عزله إلا بأمر من الحكومة الإنجليزية).

نوبار باشا لا يقصر في هذا العمل ولا يألو جهدا في إبلاغه إلى نهايته، نوبار باشا رجل لا هو مسلم فيغار على دينه، ولا هو مصري فيحتمي على وطنه، ولا هو عربي فتأخذه النفرة على جنسه، وبهذا الطريق نال سلطة في القطر المصري مدة لا تنقص عن الباقي من عمره، ويكون في أمان من العزل، تحت ظل الحكومة الإنجليزية.

هذه مقاصده التي بلغتنا من مصدر يوثق به، ولا نظنه ينجح فيها؛ فإن صلاح الأمر في مصر لا يقوم به إلا من هو أعرف بحال المصريين وأقرب إليهم من «نورث بروك»، هذا اللورد يسلك في سيره على ما جرى عليه في الهند، إنا نذكر طرفا من أعماله عبرة للمعتبرين.

إن «جيرت ستك» كان راجا على ممالك «جنبة» الواقعة في جنب «عنبر سر» من طرف «همالايا»، فلما مات هذا الملك تولى ابنه «سرسينك» وهو ولده من الملكة، ثم مات وتولى شقيقه «سوجيت سنك» على طبق قانون الوثنيين، فلما ذهب «نورث بروك» حاكما في الهند قصد إلى تنفيذ حكمه في تلك المملكة واستملاك أراضيها حسب المألوف بين أمثاله من رجال حكومته، فطلب من «سوجت سنك» أن يتنازل عن الملك لأخيه «قوبال سنك» وكان وليدا من جارية، ولا يجوز في قوانين الوثنيين أن يتولى الملك أبناء الإماء ما دام من أبناء الأحرار حي، فلما تمنع «سوجت سنك» من التنازل؛ اعتمادا على قانون باده، أنزل بحكم اللورد جبرا بعدما ضربت زوجته التي كانت ملكة تلك البلاد (لكونها زوجة الملك) ونهب جميع ما كان في بيت الملك من الخزائن والتحف والجواهر الثمينة والمخلفات القديمة (أنتيكات) التي كان يتوارثها الملوك من أجيال طويلة (فإن عائلة الملك كانت من قدماء العائلات الملكية).

Bog aan la aqoon