189

هذا دليل على أن الإنجليز - إلا من أنار الله بصيرته ووفقه لفهم الصواب - يعتقدون أن الأمم الشرقية، والأمة المصرية، في درجة الحيوانات السائمة، والدواب الراعية، لا تتألم إلا من الجوع وفواعل الطبيعة المادية، وليس لها من الإحساس إلا نوع من الانفعالات البدنية، ولا تعرف من شئونها إلا ما به تقوم حياتها الحيوانية، فتألف راكبها والعامل عليها ومستخدمها في أي عمل من الأعمال الشاقة؛ ما دام يقدم لها طعاما وشرابا، وأنها تهش وتبش لرؤية من يقدم لها غذاءها وعشاءها وإن كان من أشد البلاء عليها، بما يسومها من مشاق الأعمال، فإذا عجزت عن العمل ذبحها وتغذى بلحومها!

ألا فأعجبوا ... إن كانت هذه عقيدة رجال الحكومة الإنجليزية في الأمم التي يتسلطون عليها، فأي معاملة تكون منهم لها؟! ألا يعاملونهم معاملة العجموات والحيوانات الرتع؟! بلى، وهكذا يعاملون، وهذا تصرفهم في البلاد الهندية، يشهد بأفصح لسان على ما يعملون.

فالمصريون الآن بين أمرين أفضلهما أيسرهما: إما أن يتناكفوا ويتضافروا ويبذلوا أموالهم وأرواحهم في حفظ شرفهم الإنساني ومكانتهم العربية، وأداء حق عقيدتهم الدينية، ويخلصوا أنفسهم من عبودية قوم لا ينظرون إليهم إلا كما ينظرون إلى البغال والحمير، وإن هموا بذلك وجدوا لهم من إخوانهم المسلمين أنصارا ينتظرون الآن حركة منهم، وهذا أشرف الأمرين وما هو عليهم بعسير، وإما أن ينسلخوا عن جميع الخصائص الإنسانية، ويخلعوا حلية الإيمان، ويتبرأ منهم شرف العرب، وليحملوا ناف العبودية على أعناقهم، وليقاسموا الحيوانات في حظوظها، وليستعدوا لكل ذلة، وليقبلوا كل ضيم.

وهذا أعسر الأمرين وأدناهما، وما أظن مصريا يختاره لنفسه، ولئن اختاره - معاذ الله - فسيذهب الله بهم ويورث الأرض قوما آخرين؛ فإن الله غيور على دينه، غيور على العدل، منتقم من الضالين - وإنا لله وإنا إليه راجعون.

الفصل السابع والثمانون

اللورد نورث بروك حاكم مصر الجديد

كثيرا ما أتينا في جريدتنا على بيان مسالك الإنجليز في تملك الهند وتذليلهم لأهاليه، وذكرنا أن سيرة الحكومة الإنجليزية في افتتاح البلاد لا تشابه سير الفاتحين الذين يزحفون بخيلهم ورجالهم على الأقطار، فيقتلون ويقتلون، حتى يتغلبوا على من يريدون، وقلنا: إن الإنجليز ملكوا نحو ثلث العالم بلا سفك دماء غزيرة، ولا صرف أموال وافرة، وإنما ملكوا ما ملكوا بسلاح الحيلة، يدخلون في كل بلد أسودا ضارية، في جلود ضأن ثاغية! يعرضون أنفسهم في صورة خدمة صادقين، وأمنة ناصحين، طالبين للراحة، مقومين للنظام!

نادينا مرارا بأن الإنجليز إذا أرادوا التدخل في ملك للشرقيين، ورأوا أن القائم به رجل حاذق بصير، وأن وجوده في الملك يبطئ سيرهم إلى ما يقصدون؛ بادروا إلى التشويش عليه، فإما أن يفسدوا عليه قلوب رعيته ويثيروا عليه أحقادها، أو يغروا أحد أعضاء العائلة المالكة بالعصيان وطلب الملك ليجدوا في ذلك وسيلة للدخول في الأمر، أو يتفقوا مع الوزراء على خلع صاحب السلطة، ثم ينصبون بدله إما ضعيفا أحمق، وإما صبيا لم يبلغ الرشد، إما من أبناء الملك أو أقاربه ليتمكنوا من بلوغ مقاصدهم تحت علمه، ويبلغوا غاياتهم باسمه، ويقطعوا المسافة الطويلة في مدة قصيرة، بلا ممانع ولا عائق، مع إصابتهم جزيل الأجر، على ما عملوا في بداية العمل.

هذا كما فعلوا من مدة غير بعيدة مع «راجا برودا»، خلعوه بدعوى باطلة، لما أحسوا فيه البصيرة والحزم، وأقاموا بدله ولدا صغيرا من عائلته، ثم انتصبوا له أوصياء، فوضعوا أيديهم على جميع خزانته، وتولوا إدارة ممالكه، واستلموا قيادة عساكره، ولم يبق له إلا الاسم، يذكر ولا يشكر!

كل هذا تحت راية العدالة والإصلاح، وحفظ الراحة وتقرير النظام، ولم يساقوا إليه إلا بباعث المحبة والإخلاص (ولا يذكر هناك اسم التملك والاستيلاء). نعم، ولهم الحق في استبقاء اسم والسكوت عن آخر؛ فإن الأمراء الشرقيين لا يبالون بما دلت عليه الأسماء، وإنما يهمهم طنطنة الألفاظ وضخامة الألقاب!

Bog aan la aqoon