ثم أبعد الرجل بإشارة غليظة لكيلا يتفطر من مشهده.
ولكن المسافرين أخذوا يثنون على شجاعة السيد راغب، وكان بينهم نائب الإدارة يحيط به عدد من الناس، فجعل يتكلم عن بطولة الرئيس إلى أن قال له: لقد عرضت حياتك لخطر عظيم يا سيد راغب، فغدا تذكر الجرايد عملك بإعجاب وثناء، وأود أن أمنحك وساما تستحقه! ... فلم يأبه الرئيس لهذه المنحة وقال: إنني لم أفعل إلا واجبا محتما علي، ولطالما أنقذت غيره من الرجال! فتحول النائب إلى فتى لابس قبعة تزينها قدد حمراء يهتم بأخذ الأوراق من المسافرين وقال له: وأنت يا عزيزي، ألا ترى أن عمل رئيسك يستحق وساما؟ أتظن أنه من الواجب أن يعرض الإنسان نفسه في سبيل مسافر؟ ...
فنظر الفتى إلى النائب نظرة دهش واستغراب وقال: إن من كان موظفا في السكة الحديدية يتعود اللعب بالأخطار! - مرحى! مرحى! إن محطة جونية هذه لمدرسة تعلم البطولة! فأنا أعرف رئيسك السيد راغبا من عهد طويل، فهو مثال الموظفين ولا بد لي من منحه وسام الاستحقاق. ولكن أنت أيضا لي مدة غير قصيرة أراك فيها عند مروري من هناك، فكم لك من العمر؟ - ثماني عشرة سنة! فأنا موظف في جونية ولي ثلاث سنوات في وظيفتي. ما كدت أبلغ الرابعة عشرة من سني حتى سمح لي هؤلاء المفضلون بأن أتذوق مصاعب الخدمة في مكاتبهم العديدة. - إذن فمتى تتعلم المتاجرة بالبضائع؟ - بعد خدمتي في الجندية. - إنه لوقت بعيد! فإذا احتجت إلي يوما ... ما هو اسمك؟ - سالم، ولكن الجميع هنا يدعونني فريدا.
توصل فريد اليتيم إلى تحقيق حلمه فدخل في السكة الحديدية بعد أن تبنته السيدة فارس منذ ست سنوات خلت؛ فكان شديد الانتباه إلى وظيفته محبوبا من رؤسائه الذين لم يألوا جهدا في تشجيعه ودفعه إلى المثابرة في عمله ليذهب في مذاهب التقدم والفلاح.
لم يكن فريد طماعا، فمرتبه الصغير كان يكفيه لسد حاجته؛ وكان بعيدا عن الاهتمام بالمال والمجد، إلا أنه كان يضمر في قلبه حزنا عميقا أدب السأم في حياته.
بقي الفتى وهو في الثامنة عشرة من عمره سقيم البنية، مجعد ملامح الوجه، ذا خلقة بشعة غريبة الشكل لا يتمالك الناظر إليها من الضحك.
كان فريد كريه المنظر إلا أنه كان يحب الفتاة ابنة أديب، وكيف لا يحبها؟ ألم ينشآ معا تحت سقف واحد؟ ألم يلعبا جنبا إلى جنب طيلة أيام الحداثة؟
عندما بلغ الفتى الرابعة عشرة وترك المدرسة لينخرط في سلك الموظفين كانت ابنة أديب في الثالثة عشرة من عمرها، وكان جمالها قد برز بأبهى ما به وارتسمت عليه أمارات الزهو والسرور.
كان للفتاة صوت جميل يملأ منزل العملة بعذوبته المسكرة، وكانت تتغنى به طيلة ساعات النهار؛ وعندما بلغت الخامسة عشرة وبرزت ذات صباح بثوبها الطويل وشعورها السوداء كانت كأنها ملاك من ملائك الجنان.
شعر القرويون الفتيان أنهم ينقادون بفطرتهم الساذجة إلى تعشقها والميل إليها وفيهم الغني والجميل؛ ولكن والدها كان يجيبهم بالسلب على طلبهم يدها مدعيا أنها لا تزال صغيرة.
Bog aan la aqoon