ليس في جيوب أبناء العملة مال! إنهم يقنعون بالقليل ولا يتذمرون إذا لم يجدوا في السلة السوداء التي يصحبونها إلى المدرسة إلا زهيدا من الطعام، ذلك؛ لأنهم نشئوا على تربية تختلف عن تلك التي يتعهدها آباء ضعفاء لا يقدرون أن يمسكوا عن أولادهم الأحداث كل ما تشتهي نفوسهم من الحلاوة. لقد كبروا في وسط مقتصد، فهم لا يعتبرون نفوسهم فقراء، بل يفكرون مفتخرين بأن آباءهم ليسوا مديونين لأحد وأنهم يستطيعون أن يرفعوا جباههم بجرأة وترفع، إن طريق المستقبل، تلك الطريق المذهبة، تنفتح أمام أعينهم الفخورة، في حين يوافق صوت عقلهم أصوات أحلامهم! إنهم يقاسون الجهاد مهما صعب، فهم لا يكادون يجلسون في غرفة القطار حتى يأخذوا كتبهم ويراجعوا أمثولات النهار؛ وأحيانا يمتحنون نفوسهم بنفوسهم فيستظهرون تلك الأمثولات وأعينهم شاخصة إلى زجاج المركبة، حيث تتابع وراءه السهول والأشجار والمدن والقرى، فتجتمع جواذب تلك المشاهد إلى آيات الأسطر المحفوظة فتبطنها بطبيعة حقيقية ملؤها الحياة وتنفذ إليها أريجا طيبا من الشاعرية الغميضة.
لم يعرف فريد غبطة العلوم الإنسانية في قاعة الدرس الكالحة، بل عرفها أمام الحقول الجميلة التي تنشرت أمام عينيه بمشاهد متحركة هي مشاهد المروج الخصبة والروابي العذبة والرياض الزاهرة.
كان الصبية يذهبون إلى مدارسهم منذ يبدأ الضباب بالزحف على أجساد المروج، ويعودون إلى مآويهم مع الشمس الراحلة في ساعة تتراءى فيها السواقي والأنهر وردية المياه مخضبة بألوان المغيب.
أما أحلامهم العذبة فهي أن يكون لهم أكواخ على مقربة من سلك حديدي أو تجاه محطة صغيرة ضاعت بين الأشجار ... ذلك لأنهم من عداد أبناء الشركة ولأن هذه الشركة هي ملك لهم ...!
أحيانا كانوا يفتحون مجموعة رسوم البلدان وينظرون بفرح لا فرح بعده إلى دائرات الطرق الحديدية، فتتراءى لهم السطور السوداء كأنها خطوط حية تخترق الجبال والأودية ومجاري السيول والأنهر وتجمع البلدان بعضها إلى بعض؛ ويخيل إليهم أنهم يسمعون دوي القطارات يتصاعد من على هذه الأسلاك أو أنهم يبصرون رجالا يدفعون العجلات إلى أماكنها، فيشعرون بأن شعبا من الإخوة المتآلفين يتبسم لهم بين تلك السطور الصامتة.
وأحيانا يحسون بعاطفة احترام وعجب تدفعهم إلى الصمت أمام تلك العظمة وذلك الغنى، فيخشعون بسذاجة فطرية!
مرارا كان يفتح الباب الصغير ويظهر أحد المستخدمين على درجة القطار؛ ليفتش الركاب فيجعل هؤلاء يضحكون قائلين: هذه المركبة لا تكسب الشركة ربحا جزيلا. فيضحك هذا ويغلق الباب بعد أن يقول لهم: إن الشركة لم تمنحكم هذه المنحة في سبيل إرضائكم فقط، فاجتهدوا على الأقل أن تكونوا عمالا صالحين. فيجيبونه: نعم، إننا لا نحلم بسوى ذلك.
أجل، فتلك المركبة المختصة بالتلامذة لم تكن تكسب الشركة مالا إلا أنها كانت تعد للمستقبل القريب عمالا أمناء يستسهلون العمل والتضحية في سبيل إعلاء شأن الوطن.
11
كان فريد يغذي في صدره حسرة عظيمة؛ إذ إنه كان يخشى أن يظهر بمظهر ناكري الجميل بعد أن أكرمه جميع الناس وأحسنوا إليه، لا سيما وقد أوصته السيدة فارس بأن يكون طيب الأخلاق لطيفا.
Bog aan la aqoon