فتوسلت الفتاة الزرقاء إلى أمها أن تسمح لها بالذهاب معهما؛ فأجابتها هذه: إنك لا تقدرين أن تسرعي في مشيك يا عزيزتي. - لا بل أسرع كما تسرع ابنة أديب.
إذا ذاك اجتازت الأم وابنتها طريق الحديقة حتى بلغتا إلى المكان المقصود، فأزاحت السيدة فارس أغصان الدغلة الملأى بالشوك وانحنت لترى، فأبصرت فريدا مضجعا على السلك الحديدي وشعره الأشقر يلمع في شعاع الشمس بين أزهار شقائق النعمان، فصرخت مذعورة: «فريد! فريد! انهض!» أما الولد فبقي دون حراك. - لقد قرب وقت القطار أيها التعس، فانهض.
ولكن فريد بقي بدون حراك. - أنا السيدة فارس التي تحبك؛ فإذا كنت تحبني كما كنت تقول فانهض وتعال إلي!
في تلك الدقيقة تحرك رأس فريد الأشقر، ورفع عينيه المغرورقتين بالدموع، فأبصرت أم الفتاة شحوب وجهه الغريب، وقد ارتسمت عليه أمارات اليأس فقالت: فريد ما بدا لك؟ فرفع الولد ذراعيه وتمتم قائلا: أجل، هذا أنت! لقد كنت شديدة العطف علي، ولكن دعيني أموت! وعاد إلى ما كان عليه.
فتوسلت إليه أن ينهض وقالت له بصوت ملؤه الذعر: لقد قرب وقت القطار يا فريد! فاتبعني قبل حلول الخطر! إن من الجبانة أن يقتل الإنسان نفسه، ومن الكفر أن ينتحر حتى أشقى الناس! فانهض ولا تكابر! انهض يا عزيزي فريد، انهض! ثم حاولت بدون جدوى أن تكتشف ممرا يؤدي إلى خارج السياج العظيم في حين كان القطار يعلن قدومه بضجة هائلة، وفجأة صرخت السيدة فارس صوتا ملؤه الخوف والرهبة لتوجس الفتى اليائس وقد أبصرت ممرا ضيقا في السياج المذكور، أما الفتاة الزرقاء فقالت لفريد بصوت خافت: إذا بقيت معاندا ولم تمتثل لإرادة أمي لا أتحول شبرا عن السلك فيقضي علي وعليك وتثكل والدتي ابنتها الزرقاء! ...
عند هذا تدفقت العجلات قاذفة تحت دواليبها شررا من نار، فصرخت السيدة فارس بصوت ملؤه الذعر: أنقذوا وحيدتي! أنقذها يا فريد! فوثب الولد من على السلك الحديدي الذي كان يرتج لدى قدوم القطار الهائل وأخذ الفتاة الزرقاء بين ذراعيه وقفز إلى المنحدر، ومنه إلى السياج بخفة تقرب منها خفة القردة! عند ذا مرق القطار كالسهم أو كوميضة البرق مصعدا من فوهته غيوم الدخان الكثيف ومنشرا بصفيره الرهيب أوراق الشقيق الخفيفة.
طفرت الدموع من مقلتي السيدة فارس فضمت إليها وحيدتها الصغيرة والتفتت إلى فريد قائلة: لقد سببت لي شقاوتك ألما لا ألم بعده يا فريد! فعدني بأنك لن ترجع إلى مثلها بعد اليوم! فتمتم الولد بيأس وحزن: آه يا سيدتي! لو لم تحولي بيني وبين الموت لكنت أنقذتني من العذاب الدائم! لا، لا توبخيني! لو عرفت أي أمل هو الموت عند البائسين التعساء لما ترددت عن عذري! ... أنا بائس تعس يا سيدتي! ... أتودين أن أذهب غدا مع الأم سالم؟
فلم تملك السيدة نفسها من الشفقة لدى سماعها تلك الكلمات الطافحة بالحزن والألم، فصرخت بدون أن تقدر عواقب العهد الذي أخذته على نفسها وقالت له: لا يا عزيزي فريد، لن تذهب غدا مع الأم سالم، بل تبقى عندي. - لا يمكن ذلك يا سيدتي. - قلت لك: إنك لن تذهب، فالأم سالم لا يهمها كثيرا ذهابك وبقاؤك، فهي لا تتألم من هجرك وتركك لمن يرغب في حفظك عنده. - ولكنني لا أزال صغيرا يا سيدتي، فما النتيجة من إبقائي عندك. أنا لا أحسن إجراء شيء؟ - لا أود أن أتخذك خادما يا فريد، بل ابنا وشقيقا أكبر لوحيدتي.
فاهتز الولد وجعل يبكي ويضحك ثم أخذ يد منقذته وملأها بالدموع والقبلات، وقال: أحقيقة أنك تتخذينني ولدا لك؟ أتنقذينني من الإهانة والضرب؟ أأقدر بعد اليوم أن أذهب إلى المدرسة وأعود إلى الخورس؟ أأبقى في جونية بين عملة السكة؟ آه يا سيدتي! إذا فعلت ذلك أقف حياتي لأجلك وأضع بين يديك كل ما يهبني المستقبل من مال وقوى ...!
كان المغيب يذهب السهول بأشعته المتضائلة ويطفو على الجداول الرقراقة، وعلى جفنات الكروم ذات الأوراق الخضراء التي كانت لا تزال مستبقية نقاطا بيضاء من الأملاح المركبة من روح الزاج؛ فجذبت السيدة فارس رأس فريد إلى كتفها وقالت: فريد، يجب أن تتعود الأفراح يا بني؛ فلقد ذقت من الشقاء ما كفاك. إن الله لرحيم ويعطف على البائسين! - آه! لا أصدق ما قلت لي! أحقيقة أنك ترغبين في إبقائي عندك يا سيدتي؟ - لا أود أن تدعوني بسيدتك من الآن فصاعدا، بل أرغب إليك أن تناديني بيا أمي. لقد سمح الله أن أنقذك من الموت، وسأنقذك من البؤس أيضا، فاسأله معي يا عزيزي أن يعضدني لأجعلك رجلا صالحا للمستقبل. فاستولت على الولد هزة الفرح فقال: أجل، أجل، إني أعدك بذلك، فسأكون رجلا صالحا. ليس من الصعب علي أن أكون رجلا صالحا ... إن من يكون سعيدا لا بد له أن يكون حسن السيرة طيب الأخلاق ...
Bog aan la aqoon