لم يكن سالم سوى بهيمة إلا أنه كان والد فريد! ففي مدة حياته لم تجرؤ الأم الشرسة أن تحرم الولد من الخبز وتسيء إليه إساءة عظيمة؛ ولكن اليوم وقد أصبح المسكين ملكا لها تتصرف به تصرفا مطلقا، فأي عذاب يتوقع له؟
أجل، سيرى محروما من المدارس والكتب والمعلمين، سيرى نفسه نازلا عند رغائب غرباء لا يفهم لغاتهم ولا يدرك منطوياتهم! سيضطر إلى حراسة المواشي على المرتفعات الملأى بالصخور مع كلاب تخيفه بأنيابها المكشرة! سيرى جميع أيامه متساوية حاملة إليه مشاهد الآلام والبؤس ولا أمل فيها ولا رجاء! ستحتجب عنه الآحاد السعيدة التي تذوق طعمها طيلة سنين! سيصبح فريد راعيا حيل بينه وبين محبيه وبين محطة جونية التي هي وطنه الحقيقي!
صرف الولد الأيام التي تلت موت والده حزينا حتى الموت، لا ينبس ببنت شفة كأنه أخرس قضت عليه الحياة ألا يفوه بكلمة، فما غيب سالم في التراب ولبست الأم الشرسة ثوبها الحدادي حتى بدأت تهيئ أمتعة منزلها في صناديق قديمة قائلة لأولادها: ليس الآن وقت البكاء فقوموا للعمل! سنبيع أمتعتنا الثمينة لندفع ديون الخباز والعطارين، ويجب أن نعد ما يبقى ونضعه في مركبة القطار قبل مرور يومين من هذا التاريخ، فأخي ينتظر قدومنا في أواخر هذا الأسبوع.
في أثناء ذلك كانت تنتهر فريدا وتصفعه بقساوة؛ لأنه لم يسرع لقضاء حاجاتها كما ترغب، ثم تقول له: إنك لبهيمة لا فهم لها، فسأعلمك كيف يجب أن تقاسي من الضرب أنواعا.
أما أولادها فكانوا يسخرون منه، وهم جلوس في الغرفة ويقولون له: آه يا فريد ستحرس المواشي إلى جنب الذئب، فتتعلم هناك كيف يجب أن تكون السيادة!
وفي الغد بينما كانت الأم سالم تبيع الأمتعة من الراغبين في شرائها فتشوا عن فريد فلم يجدوه، ولم يأت لأخذ فطوره كالعادة؛ فأخذوا يبحثون عنه في كل مكان بدون أن يعثروا عليه، فقلق المستأجرون قلقا شديدا، إلا أن الأم سالم طمأنتهم قائلة : إن هذا السيد الجميل قد غضب؛ لأنه رآني أبيع أثاث والده فهو بالرغم من صغارته كثير الكبرياء، ولكن سأعرف كيف أنزع منه ذلك الداء.
فسألتها السيدة أديب قائلة: إلى أين ترينه هرب؟ فأجابتها: إنه - ولا ريب - يتباكى في إحدى الزوايا، فقري عينا! وسترينه في المساء مسرعا إلى طلب الحساء لسد جوعه، قالت ذلك وعادت إلى عملها بهدوء وسكينة.
بعد هنيهة اتجهت السيدة فارس والسيدة أديب إلى المنزل، وما أوشكتا تبتعدان حتى قالت الأولى: يا له ولدا بائسا! إن أوجاعه لتؤلمني أشد الألم! فما يكون أمره مع تلك الأم الشرسة التي تمقته وتتعمد ضرره؟ أراني قلقة البال عليه، فأين هو يا ترى؟
فقالت الأخرى: لا أظن أن الأولاد يدركون طرائق الهرب، ثم إن فريدا صفر اليدين ولا يعرف أحدا يلجأ إليه ...
فأجابتها السيدة فارس: أصبت، ولكن لا أدري لماذا أنا خائفة!
Bog aan la aqoon