مقدمات
مقدمة الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طبيًا طاهرًا مباركًا فيه، سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك، تباركتَ تعاليتَ، ذا الجلال والإكرام.
لك الحمد الدائم السرمد، حمدًا لا يحصيه العدد، ولا يقطعه الأبد، كما ينبغي لك أن تحمد، وكما أنت له أهل، وكما هو لك علينا حق.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
وبعد ...
فهذا كتاب "العمدة" في مشخية شُهْدَة بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَجِ الديِّنَوَرِي الإِبَرِي، وكما قال الذهبي: الجِهَة، المُعَمَّرة، الكاتبة، مسندة العراق فخر النساء١.
وهذا الكتاب -كما يبدو من قراءته- يهدف إلى أمور هامة، بعضها عام، بعضها خاص:
١- فهو في حديث رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في جملته وتبليغه، تيمنًا بقول الرسول ﷺ: "نضر الله امرءًا سمع منا شيئًا، فبلغه كما سمع، فربَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع" ٢.
_________
١ سير أعلام النبلاء "٢٠/ ٥٤٢" ترجمة رقم "٣٤٤"، ومعنى الجهة: سيدة القوم.
٢ ت "٥/ ٣٤" " ٤٢" كتاب العلم "٧" باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع من طريق محمود بن غيلان، عن أبي داود، عن شعبة، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه به.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
1 / 5
٢- وهو -وهذا خاص- في بيان ما روته هذه المحدِّثة الفضلى عن بعض شيوخها، وهذا ما يسمى "بالمشيخة"، وإذا كانت هذه المشيخات كثيرة للرجال؛ كمشيخة ابن طهمان، ومشيخة ابن الجوزي وغيرهما، فمشيخات النساء المحدِّثات قليلة؛ بل نادرة، وهذا الكتاب منها.
والمشيخات تدل على مدى العناية بحديث رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم- وهي تدل كذلك على اتصال الأسانيد في كل عصر؛ في الحديث عامة، وفي الكتب خاصة؛ إذ يُنْقَل هذا وذاك جيلًا عن جيل؛ بحيث تستمر هذه الخصيصة للأمة المحمدية؛ اتصال أسانيد علمها وعلمائها.
والمشيخات مظهر من مظاهر هذا الاتصال، وقد قامت صاحبة هذه المشيخة بجهد وافر في هذين المجالين:
فالشيوخ الذين روت عنهم شُهْدَة هم من أصحاب المصنفات، وقد أعطتنا في هذه المشيخة نماذج من حديث هؤلاء الذي أودعوه في كتبهم.
٣- ومن فوائد هذا الكتاب وأهدافه: تقديم الأسانيد العالية، فشهدة قد عُمِّرت حتى قاربت المائة -كما يقول الذهبي وغيره- حتى ألحقت الصغار بالكبار؛ أي: تساوى الصغار مع الكبار في أخذ الأحاديث عن الشيوخ نتيجة لعلو أسانيدها١.
وما من شيخ من الشيوخ الذين أخذت عنهم إلا وعُمِّر في الغالب الأعم، وكانت تبين هذا في إثبات التاريخ الذي أخذه الشيخ عن الآخر، فهذه زيادة توثيق، وهو أيضًا بيان لعلو الإسناد.
ومن أمثلة علو الإسناد في هذه المشيخة أن إسناد شهدة علا حتى تساوى
_________
١ وفيات الأعيان لابن خلكان "٢/ ٤٧٧".
1 / 6
بمسلم -رحمة الله عليه- وهو في القرن الثالث، وهي في القرن السادس. "انظر رقم ٤٣ من هذه المشيخة".
وكانت تبين ذلك أحيانًا وتترك للقارئ -وهو متخصص غالبًا- أن يتنبه إلى ذلك.
والإسناد العالي إذا كان رواته موثَّقين -ورجال شهدة كذلك- فيه شرف الاقتراب من رسول لله ﷺ وكثير من الفوائد الأخرى التي بينتها كتب علوم الحديث.
٤- ومن أهداف هذه المشيخة وفوائدها: تقديم طائفة من العلم النبوي الشريف، من حديث رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فغالب أحاديث هذا الكتاب صحيحة، وهي إما متفق عليها؛ أخرجها الشيخان أو أخرجها أحدهما، أو هي على شرط أحدهما.
وهي تبين ذلك في آخر كل حديث، وتبين من الفوائد الحديثية التي تكون في الإسناد أو المتن.
ترجمة شُهْدَة:
ويجدر بنا أن نقدم ترجمة لهذه العالمة الفضلى تضفي عليها وعلى كتابها هذا وضوحًا وبيانًا:
هي -كما قال الذهبي- بنت المحدث أبي نصر أحمد بن الفجر الدينوري الإبَرِيّ "نسبة إلى عمل الإبر"١، وهو من مشاهير بغداد ومحدثيها٢، وقد قدمنا له ترجمة في التعليق على الحديث رقم "١٠٢".
وأبوها له تأثير واضح على شهدة؛ فقد أسمعها الحديث وهي بنت ثماني سنوات، فهي تقول في الحديث رقم "١٠٢": إنه أسمعها في سنة تسعين وأربعمائة، وهي قد ولدت ببغداد سنة "٤٨٢هـ"، فتكون سنها حنيئذ ثماني سنوات؛ بل وقد أجيز لها وهي أقل من هذه السن "انظر رقم ٩٦".
_________
١ سير أعلام النبلاء "٢٠/ ٥٤٢".
٢ الأنساب للسمعاني "١/ ١١٨".
1 / 7
وبفضل دعائه لها، وبركته -كما تقول- وعت في هذه السن، وسجلت كثيرًا من السماعات في مشيختها هذه في تلك السن.
وما زالت تَسْمَعُ وتُسْمِعُ إلى أن توفيت سنة "٥٧٤"١، وقد قاربت المائة.
سمعت من: أبي الْخَطَّابِ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ البَطِر٢ القارئ المحدث "٤٩٤هـ"، وأبي عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بن طلحة النَّعَّالي، وطِرَاد بن محمد الزينبي -وهو أكثير شيوخها رواية في هذه المشيخة وقد ابتدأت به- وغيرهم مثل: أبي الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أيوب، وأبي الْحُسَيْنِ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ بن يوسف، وفخر الإسلام أبي بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الحسين الشاشي، وطلحة بن محمد الزينبي، وثابت بن بندار، وجعفر السَّرَّاج، وغيرهم كثيرًا، مما هو ثابت في هذه المشيخة وما ليس فيها، وكل هؤلاء من أكابر علماء عصرها.
وحدث عنها: ابن عساكر، والسمعاني، وابن الجوزي، وعبد الغني المقدسي، وعبد القادر الرهاوي، وابن الأخضر - مُخَرِّج هذه المشيخة- والشيخ الموفق، والشيخ العماد، الشهاب بن راجح، والبهاء بن عبد الرحمن، والفخر الإربِلِي، وتاج الدين عبد الله بن حَمُّويه، وأعز بن العُلَّيْق، وإبراهيم بن الخَيِّر، وبهاء الدين بن الجميزي، ومحمد بن المنِّي، وأبو القاسم بن قميرة، وخلق كثير٣، وآخر من رَوى عنها ابن قميرة، وتوفي سنة ستين وخمسمائة؛ أي: بين وفاتيهما ستة وثمانون عامًا٤.
_________
١ سير أعلام النبلاء "٢٠/ ٥٤٣".
٢ ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء "١٩/ ٤٦-٤٨" قال: الشيخ المقرئ الفاضل، مسند العراق، أَبُو الْخَطَّابِ نَصْرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْبَطِرِ البغدادي البزاز القارئ، ولقد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ... قال ابن سُكَّرَة: شيخ مستور ثقة ... وقال السمعاني: وكان صالحًا صدوقًا، صحيح السماع، وهو آخر من حدث عن ابن البَيَّع وابن رِزْقويه وابن بِشْرَان.
مات سنة "٤٩٤" وله ست وتسعون سنة.
٣ سير أعلام النبلاء "٢٠/ ٥٤٢" وابن الدبيثي، انظر هامش تكملة الإكمال "٨٤".
٤ هامش تكملة الإكمال ص٨٤، ٨٥، وقيل: إن آخر من حدَّث عنها بالإجازة محمد بن عبد الهادي بن قدامة المقدسي.
1 / 8
مكانتها:
وأثنَى عليها العلماء كمحدِّثة عالمة، قال ابن نقطة: سماعها صحيح١.
وقال الشيخ الموفق: انتهى إليها إسناد بغداد، وعُمِّرَت حتى ألحقت الصغار بالكبار "أي: بأسانيدها العالية".
وقال ابن الجوزي: عاشت مخالطة العلماء. وقرئ عليها الحديث سنين٢.
ولقبها الذهبي "بمسندة العراق"، وابن الدبيثي "بأسند أهل زمانها"، وقال: وكان سماعها صحيحًا.
وقال ابن العماد: "المُسْنِدَة، فخر النساء، كانت ديِّنَة عابدة صالحة، سمعها أبوها الكثير، وصارت مسندة العراق"٣.
ومن مكانتها عند العلماء أنهم اعتمدوا عليها في رواية الكتب؛ ومن ذلك كتاب "الأموال لأبي عُبيد"؛ ففي أوله: "قرئ على الشيخة الصالحة الكاتبة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن الفرج عن عمر الإبري الدينوري بمنزلها ببغداد في الحادي عشر من شعبان سنة أربع ستين وخمسمائة، أخبركم النقيب الكامل أَبُو الْفَوَارِسِ طَرَّادُ بْنُ مُحَمَّدِ بن علي الزينبي في ثاني ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ تِسْعِينَ وأربعمائة"٤.
وهذه هي السنة التي أسمعها أبوها الحديث، وكان عندها ثماني سنوات من عمرها، ثم سُمِعَ منها بعد أربع وسبعين سنة من سماعها له من شيخها طراد، وهذا ما يؤدي إلى العلو في الإسناد، وإلحاق الصغار بالكبار، كما قال العلماء عنها.
كما روت كتبًا لابن أبي الدنيا؛ منها كتاب الشكر له، ففيه: "حدثنا الشيخ الفقيه الإمام الأجل العالم العامل، الصالح المتقن، بقية السلف الصالح،
_________
١ التقييد "ص٥٠١".
٢ المنتظم "١٠/ ٢٨٨".
٣ شذارت الذهب "٤/ ٢٤٨".
٤ الأموال "ص٩".
1 / 9
أبو الحسن علي بن خلف بن معزوز بن فتوح المالكي التلمساني، المعروف بالكومي -أدام الله توفيقه- قراءة مني عليه بمصر ... قال الكومي: وقرئ على الشيخة العالمة فخر النساء شهدة بن أبي نصر أَحْمَد بْن الفرج بْن عمر الإبري ﵂ وأنا أسمع أخبركم أبو الحسن أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ بْنِ محمد بن يوسف في رمضان سنة تسعين وأربعمائة ... "١.
ويلاحظ أنها سمعت هذا الكتاب أيضًا وهي بنت ثماني سنوات تقريبًا، وهي السنة نفسها التي سمعت فيها من أبيها، والتي سمعت فيها كتاب الأموال لأبي عبيد.
وروت أيضًا كتاب الصمت وآداب اللسان له. ففي إسناده: "أخبرنا الشيخ الصالح المُعَمَّر أبو الحسن بن أبي عبد الله بن المقَيِّر البغدادي الحنبلي، قراءة عليه، وأنا أسمع، قيل له: أخبرتكم الشيخة الكاتبة فخر النساء شهدة بنت أبي نصر أحمد بن أبي الفرج الإبري قراءة عليها وأنت تسمع"٢.
ويقول ابن نقطة: ولها رواية في مسند مُسدَّد عن ثابت بن بندار٣.
وروت أيضًا مصارع العشاق لابن السراج، وذم المسكر، واليقين، وكتاب محاسبة النفس والإزراء، والفرج بعد الشدة، وكلها لابن أبي الدنيا.
وروت وسمعت من أبي الْفَوَارِسِ طَرَّادُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ علي الزينبي كتاب الوجد والوجل والتوثق بالعمل لابن أبي الدنيا، وستة مجالس من أمالي أبي جعفر البختري، والجزء الأول من الفوائد المنتقاة والغرائب الحسان العوالي تخريج أبي الفتح بن أبي الفوارس.
وروت وسمعت من الحسين بن أحمد بن طلحة النعالي الجزء الثاني والرابع من أمالي الحسين بن إسماعيل المحاملي، والجزء الثالث من كتاب الديباج لإسحاق بن إبراهيم الختلي، والجزء الأول من كتاب الجامع عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني، وروت عن الحسين بن أحمد الباقلاني الجزء الثاني والخامس من
_________
١ كتاب الشكر "ص٦١، ٦٣، ٦٤".
٢ كتاب الصمت، وآداب اللسان "ص١٧١".
٣ التقييد "ص٥٠١".
1 / 10
منتقى حديث الحسين بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَاذَانَ.
وسمعت من الحسن بن أحمد الدقاق الجزء الأول من غرائب حديث مالك بن أنس. وروت عن جعفر بن أحمد السراج جزءًا من كرامات الأولياء للحسن الخلال، وحضرت على إبراهيم بن عثمان بن يوسف الكاشغري الجزء الثالث والرابع من مشيخة يعقوب بن سفيان.
وروت وسمعت من أبي المعالي ثابت بن بندار البقال جزءًا فيه قراءات النَّبِيُّ ﷺ وقطعة من كتاب الخيل. وسمعت من أبي الخطاب نصر بن أحمد البطرواني الجزء السادس من أمالي المحاملي.
وروت الجزء الرابع من حديث أبي سهل أحمد القطان عن الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بن شاذان عن العلاف كتاب التصديق بالنظر إلى الله ﷿ وما أعد لأوليائه لمحمد الآجري، وعن عبد الرحمن بن نجم الحنبلي الجزء الثاني من حديث المحاملي.
وروى عنها ابن الجوزي كتاب التصديق بالنظر إلى الله -عز جل- وما أعد لأوليائه لمحمد الآجري، وسمع منها علي بن هبة الله الشافعي الجزء الأول من غرائب حديث مالك بن أنس، وعبد الله بن عمر بن أبي بكر المقدسي الجزء الخامس من المنتقى من حديث ابن شاذان، والحسن بن عمر بن نصر الجزء الأول والرابع من أمالي المحاملي، وروى عنها عبد الرحمن بن عبد الوهاب الحنبلي الجزء الرابع من أمالي المحاملي. وسمع عليها يونس بن سعيد بن مسافر بن جميل القطان المقري كتاب محاسبة النفس لابن أبي الدنيا. ويحيى بن أبي السعود بن القميرة التاجر كتاب الفرج بعد الشدة لابن أبي الدنيا. وروى عنها عبد اللطيف بن محمد سبط التعاويذي ستة مجالس من أمالي البختري وضوء الصباح عجيبة بنت الباقداري كتاب الوجد والوجل لابن أبي الدنيا. وسمع منها بهاء الدين عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي كتاب ذم المسكر لابن أبي الدنيا، وعثمان بن أبي نصر بن منصور الواعظ المسعودي، ومحمد بن إبراهيم الإربلي جزءًا من حديث القطان، وأبو بكر عبد الله الرياني المتوفَّى سنة ٦٢٧هـ.
وروت كتاب المحبة لله ﷾ لإبراهيم بن عبد لله بن الجنيد
1 / 11
الختلي، والجزء التاسع من فوائد عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الله الدقاق، والجزء الثاني من حديث محمد بن عبد بن خلف الدقاق عن شيوخه، وحديث الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَيَّاشٍ القطان عن شيوخه.
كما روت مشيخة ابن شاذان الكبرى، وهو الحافظ أبو علي الحسين بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شاذان البزاز، وهي ترويها عن أبي غالب محمد بن الحسن الباقلاني، عن أَبِي عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بن إبراهيم بن شاذان، وقد سجلت منها بعض هذه المرويات في هذا الكتاب "٦٧-٧٠"١.
وكل هذا وغيره يعطينا مدى إسهامها في أداء حديث رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كما يعطينا هنا مدى ثقة العلماء بها، وبما عندها من العلم، فنقلوه عنها.
ونلحظ هنا أنها لقبت بالكاتبة، وكما يقول ابن الجوزي: كان لها خط حسن٢، وتحلت مع ذلك بالدين والصلاح والأخلاق الفاضلة والأعمال البارَّة الخيِّرة. قال ابن الجوزي: كان لها بِرٌّ وخير٣. وقال ابن الدبيثي: امرأة جليلة صالحة، ذات دين وورع وعبادة٤.
وظلت كذلك إلا أن توفيت ببغداد سنة أربع وسبعين وخمسمائة، في ليلة الإثنين رابع عشر المحرم كما أرَّخ ذلك لها تلميذها أبو الفرج بن الجوزي، وقال: وصلى عليها بجامع القصر، وأزيل شباك المقصورة لأجلها، وحضرها خلق كثير، وعامة العلماء، ودفنت بمقبرة باب أبرز٥.
والمُحَدِّثة العالمة شهدة وغيرها يعطين مثلًا رائعًا وقدوة حسنة صالحة للسيدات المسلمات؛ كي يسهمن في رواية الحديث النبوي، ونقل العلم الإلهي، مثلهن في ذلك مثل الرجال سواء بسواء؛ كي تستقيم الحياة بما يحملن من هدى
_________
١ أعلام النساء "٢/ ٣٠٩-٣١٢".
٢ فهرس الفهارس "٢/ ٦٢٦".
٣ المنتظم "١٠/ ٢٨٨"، ومشيخة ابن الجوزي "٢٠٢".
٤ هامش تكملة الإكمال "ص٨٤".
٥ المنتظم "١٠/ ٢٨٨"، ومشيخة ابن الجوزي، وفيه "بيرز" بدل "أبرز".
1 / 12
نبوي كريم للنشء والأجيال، فتأثيرهن كبير في هذا الشأن.
تعريف بالكتاب:
والكتاب -كما قلنا- هو في مشيختها، خرَّجه في حياتها تلميذها عبد العزيز بن محمود بن المبارك بن الأخضر أبو محمد الحافظ، وهو من الحفاظ المكثرين الأثبات المأمونين، وهو واسع الرواية، صحيح الأصول، بيَّن ذلك ابن نُقْطَة، ثم قال: منه تعلمنا واستفدنا وما رأينا مثله١.
وكان مولده سنة أربع وعشرين وخمسمائة، وتوفي في سادس شوال من سنة إحدى عشرة وستمائة.
وكان هذا التخريج في حياة شهدة بدليل أن الكتاب سمع عليها ونقله غير ابن الأخضر -كما يتضح من الإسناد- ومن صفحة العنوان: رواية شمس الدين عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّشِيدِ بْنِ علي بن بُنيمان "٥٤٨-٦٢٤" فقد قرأه عليها في حياتها، وكما يتضح من السماع بآخر هذه المشيخة.
وتبلغ هذه المشيخة "١١٤" رواية، جُلُّها أحاديث مرفوعة، والقليل منها موقوف على الصحابة، أو بعض التابعين، أو تابعي التابعين.
وتأتي لكل شيخ من شيوخها بروايات تختلف قلة وكثرة من شيخ إلى شيخ، وأكثر الروايات عن طِرَاد الزينبي التي ابتدأت به؛ إذ بلغت الروايات عنه إحدى عشرة رواية.
ومجموع شيوخها هنا "٢٧" شيخًا.
وغالبًا ما تعقب على الحديث بذكر من أخرجه من الصحيحين، أو تبين درجته وعلو إسناده.
والمخطوط الذي اعتمدت عليه في تحقيق الكتاب هو في مكتبة كوبريلي
_________
١ التقييد "ص٣٦٤".
1 / 13
بتركيا، ويتكون من "٣٦" لوحة ومسطرته "١٧" سطرًا، وفي كل سطر ثنتا عشرة كلمة تقريبًا، وهو بخط النسخ.
وفي الصفحة الأولى من المخطوط بعد العنوان ما يبين أن هذه النسخة هي ملك لأبي محمد عبد الرحيم بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الزجاج المقري عفيف الدين١، وكانت قراءته لها على أبي مظفر النهراوني بحضور جماعة في يوم الأحد ثالث عشر من جمادى الآخرة من سنة سبع وأربعين وستمائة بمسجد الشيخ بالمأمونية.
هذا يوضح أن هذه النسخة كُتبت في حياة هذا الشيخ أو قبله، وهو عاش ما بين "٦١٢-٦٨٥"، ولا يستبعد أنها كتبت في حياة شهدة نفسها. والله أعلم.
وفي هذا المخطوط ما يدل على صحة نسبته إلى شهدة، فقد روت شهدة معظم نسخة جعفر بن نسطور الرومي في هذه المشيخة "أرقام ٩٦-١٠١". وقال ابن حجر في الإصابة عندما تكلم عن هذه النسخة: "وسمعت من حديثه أيضًا -أي: حديث جعفر بن نسطور- في آخر مشيخة شهدة بنت الإبري" "الإصابة ١/ ٥٥١". وكذلك ذكرها في لسان الميزان، وساق حديث جعفر الذي يرويه منها.
وقد ذكر الشيخ عبد الحي الكتاني هذا الكتاب وسنده إليه، فقال: "مشيخة شهدة الكاتبة: هي ست الكتبة بنت أحمد، تخريج أبي محمد بن الأخضر، به -أي: بسنده الذي ذكره في أول كتاب فهرس الفهارس- إلى السيوطي، عن البُلْقِيني، عن أبي إسحاق التنوخي، عن المزي، عن ست الأهل بنت علوان، عن البهاء عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي، عن شهدة بنت أحمد بن عمر. "ح" وبأسانيدنا إلى الحجار، عن أبي الفضل عبد العزيز بن داود الزاهد عنها "فهرس الفهارس ٢/ ٦٥٥".
أقول: أروي عن الشيخ عبد الحي الكتاني هذا الكتاب وغيره بالإجازة عن
_________
١ شذرات الذهب "٥/ ٣٩١" وفيه: "فقيه حنبلي زاهد، سني، أثري، عارف بمذهب أحمد، ولد سنة اثنتي عشرة وستمائة، وتوفي سنة ٦٨٥".
1 / 14
شيخي محمد الحافظ بن عبد اللطيف، عنه، وعن غيره عنه. والله الموفق.
عملي في هذا المخطوط:
واتبعتُ في تحقيق هذا المخطوط الخطوات التالية:
١- نسخت المخطوط ورقَّمت رواياته، وقد بلغت "١١٤" رواية كما ذكرت.
٢- خرجت هذه الروايات بقدر الطاقة، وقد روعي في هذا التخريج أن يتبين منه ما إذا كان الحديث صحيحًا أو غير صحيح، وبحمد الله تعالى فإن معظم الأحاديث في البخاري ومسلم أو في أحدهما.
٣- قد تكون الرواية التي ساقتها شهدة مختصرة، فأجتهد في إثباتها كاملة من كتب التخريج، وأثبت ذلك في الهامش بطبيعة الحال.
٤- أُعقِّب بشرح للحديث أو بيان أحكامه بقدر الطاقة تتميمًا لفائدة الكتاب -إن شاء الله تعالى- وذلك من كتب شروح الحديث وغيرها.
هذا وقد ساق الله ﷿ نسخة أخرى لهذه المشيخة؛ ولكنها منقولة عن أصل لا أعرف مصدره وكثيرة الأخطاء وناقصة قليلًا من أولها وكثيرًا من آخرها؛ ولكنها أفادت في التنبيه على بعض ما أبهم في النسخة الأصل، ورمزت لها بـ"ب".
نسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما فيه رضاه، وأن يغفر زلاتنا، ويقيل عثراتنا، وأن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم.
وصلى الله تعالى وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
القاهرة في: ٢٥ من ربيع أول ١٤١٤هـ
١٢ من سبتمبر ١٩٩٣م
الدكتور رفعت فوزي عبد المطلب
أبو شهبة
1 / 15
المخطوطات:
1 / 18
بسم الله الرحمن الرحيم
[١] أخبرنا القاضي الإمام العالم أَقْضَى الْقُضَاةِ شَمْسُ الدِّينِ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الرَّشِيدِ بن علي بُنَيْمَان١ بِالْمَوْصِلِ، قَدِمَ عَلَيْنَا رَسُولا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ سَلْخَ شهر الله رجب من سنة ستمائة، قراءة عليه هو يَسْمَعُ، قِيلَ لَهُ: أَخْبَرَتْكُمْ شُهدة بِنْتُ أَحْمَدَ بْنِ الْفَرَجِ الإِبَرِيُّ.
[الشيخ الأول]:
قَالَتْ: أنا الشَّرِيفُ أَبُو الْفَوَارِسِ طَرَّادُ بْنُ مُحَمَّدِ بن علي الزَّيْنَبي٢ بقراءة
_________
[١] خ "٢/ ٤٢٤" "٥٩" كتاب بدء الخلق - "٦" باب ذكر الملائكة - من طريق الحسن بن الربيع عن أبي الأحوص عن الأعمش به.
م "٤/ ٢٠٣٦" "٤٦" كتاب القدر - "١" باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاته وسعادته - من طريق أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وغيره، عن أبي معاوية ووكيع، عن الأعمش به.
١ انظر ترجمته في التكملة لوفيات النقلة (٣/ ١١٧، ١١٨) وفيه: "الهمذاني المقرئ الحداد سبط الحافظ أبي العلاء الهمذاني، بتُسْتَر، ودفن بها، قرأ القرآن الكريم على جده لأمه الحافظ أبي العلاء بهمذان، وسمع بها من أبي الخير محمد بن أحمد الباغبان، وجده أبي العلاء، وحضر أبا الوقت عبد الأول بن عيسى السِّجْزِي، ودخل بغداد في صباه وتفقه بها بالمدرسة النظامية على مذهب الإمام الشافعي ﵁ على أبي الخير أحمد بن إسماعيل القَزْوِيني، وسمع منه، واستملى عليه. وسمع أيضًا من أبي الفرج محمد بن أحمد بن نبهان، وأبي الفتح عبيد الله بن شاتيل، وأبي السعادات نصر الله بن عبد الرحمن القزَّاز، وأبي حفص عمر بن أبي بكر بن التبان، وجماعة كبيرة. ومضى إلى الشام، وإلى ديار مصر، وكتب في سفره هذا عن جماعة، وعاد إلى همذان، وتولى القضاء بها من الديوان العزيز -مجده الله تعالى- وقدم بغداد وتولى أيضًا قضاء الجانب الغربي منها، ثم توجه إلى تستر وولي القضاء بها سكنها إلى حين وفاته".
وحدَّث ببغداد، وغيرها.
ولد سنة ثمان وأربعين وخمسمائة بهمذان، وتوفي سنة ٦٢١ في التاسع والعشرين من صفر منها.
٢ هو طراد بن محمد بن علي بن حسن بن محمد، قال الذهبي: الإمام الأنبل، مسند العراق، نقيب النقباء، الكاملُ، أبو الفوارس بن أبي الحسن القرشي، الهاشمي، العباسي، الزينبي، البغدادي.
ولد سنة ثمان وتسعين، وسمع أبا نصر بن حسنُون النَّرْسي، وأبا الحسن بن رِزْقويه، وهلالًا الحفار، وأبا الحسين بن بِشْران، والحسين بن بَرْهان، وأبا الفرج بن المسلمة، وأبا الحسن بن الحمَّامي، وطائفة، وأملى مجالس عدة، وخُرِّج له "العوالي" المشهورة، و"فضائل الصحابة". =
1 / 27
الْبَلْخِيِّ، وَأَجَازَ لِي فِي سَنَةِ تسعين وأربعمائة، وَأَنَا أَسْمَعُ، أنا الشَّرِيفُ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ عِيسَى بْنِ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قِرَاءَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سنة إحدى عشرة وأربعمائة، ثنا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الدَّقَّاقُ إِمْلاءً، نا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَنْصُورٍ الْحَارِثِيُّ، سَنَةَ إِحْدَى وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ، ثنا الأَعْمَشُ، نا زَيْدُ١ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه سلم- وهو الصادق المصدوق٢:
_________
= حدث عنه ولداه: علي الوزير، ومحمد، وابن ناصر، وعمر بن عبد الله الحربي، وأحمد بن المقرب، ويحيى بن ثابت، وشهدة الكاتبة، وكمال بنت أبي محمد السمرقندي، وعمها إسماعيل، وهبة الله بن طاوس، وتَجَنِّي الوهبانية، وأبو الكرام الشَّهْرَزُوري، وعبد الله بن علي الطامَذِي الأصبهاني، وخلق، آخرهم موتًا خطيب الموصل أبو الفضل الطوسي.
قال السمعاني: ساد الدهر رتبة، وعلوًّا، وفضلًا، ورأيًا، وشهامة، ولي نقابة البصرة، ثم بغداد، ومُتِّعَ بسمعه وبصره وقوته، وترسل عن الديوان، فحدث بأصبهان، وكان يحضر مجلس إملائه جميع أهل العلم، لم يُرَ ببغداد مثل مجالسه بعد القَطيعي. وقد أملى بمكة سنة تسع وثمانين وبالمدينة، وألحق الصغار بالكبار.
قال أبو علي بن سُكَّرة: كان أعلى أهل بغداد منزلة عند الخليفة.
وقال السلفي: كان حنفيًّا من جِلَّة الناس وكبرائهم، ثقة، ثبتًا، لم ألحقه.
مات في سلخ شوال، سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، ودفن بداره حولًا، ثم نُقل. "سير أعلام النبلاء ١٩/ ٣٧-٣٩".
وقال السلفي في الوجيز "ص٧٧": ولم أرَ ببغداد من أهل العلم أجل رتبة منه، ولم يكن يتقدم عليه أحد في مجلس الخليفة. وكان جليل القدر والخطر متواضعًا إلى غاية.
١ في الأصل: يزيد، وهو خطأ، والتصحيح من كتب التخريج ومن كتب الرواة.
٢ الصادق المصدوق معناه: الصادق في قوله، المصدوق فيما يأتي من الوحي الكريم.
قال في شرح المشكاة: الأولى أن تجعل الجملة اعتراضية لا حالية؛ لتعم الأحوال كلها، وأن يكون من عادته ودأبه ذلك، فما أحسن موقعها! وقال الحافظ في الفتح: الصادق معناه: المخبر بالقول الحق، وتطلق على الفعل، يقال: صدق القتال، وهو صادق فيه، والمصدوق معناه: الذي يُصدق له في القول، يقال: صدقته الحديث، إذا أخبرته به إخبارًا جازمًا، أو معناه: الذي صدقه الله تعالى وعده.
1 / 28
"إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجمع خلقُه فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا -أَوْ قَالَ: أَرْبَعِينَ لَيْلَةً- ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرسِل اللَّهُ ﷿ الملَك، فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ".
قَالَ: "فَيُكْتَبُ رِزْقُهُ، وَأَجَلُهُ، وَعَمَلُهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، فَوَالَّذِي لا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فيُختم لَهُ بِعَمَلِ النَّارِ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فيُختم لَهُ بِعَمَلِ الْجَنَّةِ، فيكون من أهلها"١.
_________
١ في الحديث أن الأعمال -حسنها وسيئها- أمارات، وليست بموجبات، وأن مصير الأمور في العاقبة إلى ما سبق به القضاء، وجرى به القدر في الابتداء، وفيه القسم على الخبر الصدق تأكيدًا في نفس السامع.
وفيه التنبيه على صدق البعث بعد الموت؛ لأن مَن قدر على خلق الشخص من ماء مهين، ثم نقله إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم ينفخ فيه الروح، قادر على نفخ الروح بعد أن يصير ترابًا، ويجمع أجزاءه بعد أن يفرقها. ولقد كان قادرًا على أن يخلقه دَفْعَةً واحدة؛ ولكن اقتضت الحكمة بنقله في الأطوار رفقًا بالأم؛ لأنها لم تكن معتادة، فكانت المشقة تعظم عليها، فهيأه في بطنها بالتدريج إلى أن تكامل. وإذا تأمل الإنسان في أصل خلقه من نطفة، وتنقله في تلك الأطوار إلى أن صار إنسانًا جميل الصورة، مفضلًا بالعقل والفَهْم والنطق كان حقًّا عليه أن يشكر من أنشأه وهيأه، ويعبده حق عبادته، ويطيعه ولا يعصيه.
وفيه الحث على الاستعاذة من سوء الخاتمة، وقد عمل به جمع جم من السلف وأئمة الخلف.
وفيه أن الله يعلم الجزئيات كما يعلم الكليات لتصريح الخبر بأنه يأمر بكتابة أحوال الشخص مفصلة.
وفيه أنه سبحانه مريد لجميع الكائنات بمعنى أنه خالقها ومقدرها لا أنه يحبها يرضاها.
وفيه أن الأقدار غالبة، فلا ينبغي لأحد أن يغتر بظاهر الحال؛ ومن ثم شرع الدعاء بالثبات على الدين وبحسن الخاتمة.
وقال ابن رجب في شرح الجزء الأخير من الحديث:
وقد رُوي هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه سلم- من وجوه متعددة، وخرَّجه الطبراني من حديث علي بن أبي طالب عن النبي ﷺ وزاد فيه: "صاحب الجنة مختوم له بعمل أهل الجنة، وصاحب النار مختوم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، وقد يسلك بأهل السعادة طريق أهل الشقاوة حتى يقال: ما أشبههم بهم بل هم منهم وتدركهم فتستنقذهم، وقد يسلك بأهل الشقاوة طريق أهل السعادة =
1 / 29
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الأَعْمَشِ عَنْ زَيْدٍ أَبِي سُلَيْمَانَ الجهني.
_________
= حتى يقال: ما أشبههم بهم بل هم منهم وتدركهم الشقاة، من كتبه الله سعيدًا في أم الكتاب لم يخرجه من الدنيا حتى يستعمله بعمل يسعده قبل موته ولو بفواق ناقة"، ثم قال: "الأعمال بخواتيمها، الأعمال بخواتيهما".
وخرج البزار في مسنده بهذا المعنى أيضًا من حديث ابن عمر عن النبي ﷺ.
وفي الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي ﷺ التقى هو والمشركون، وفي أصحابه رجل لا يدع شاذة وفاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله ﷺ: "هو من أهل النار"، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه فاتبعه، فجرح الرجل جرحًا شديدًا، فاستجعل الموت، فوضع نصل سيفه على الأرض وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه، فخرج الرجل إلى رسول الله ﷺ فقال: أشهد أنك رسول الله، وقص عليه القصة، فقال رسول الله ﷺ: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". زاد البخاري رواية: "إنما الأعمال بالخواتيم".
وقوله: "فيما يبدو للناس" إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس، إما من جهة عمل سيئ ونحو ذلك، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت، وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار وفي باطنه خصلة خفية من خصال الخير، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة.
قال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلًا عن الموت يلقن الشهادة "لا إله إلا الله"، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه، فإذا هو مدمن خمر، وكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب؛ فإنها هي التي أوقعته.
وفي الجملة فالخواتيم ميراث السوابق، فكل ذلك سبق في الكتاب السابق، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم، يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟
وبكى بعض الصحابة عند موته فسئل عن ذلك فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن الله تعالى قبض خلقه قبضتين فقال: هؤلاء في الجنة، وهؤلاء في النار، ولا أدري في أي القبضتين كنت؟ "، فقال بعض السلف: ما أبكى العيون وما أبكاها الكتاب السابق.
وقال سفيان لبعض الصالحين: هل أبكاك قط علم الله فيك؟ فقال له ذلك الرجل: تركني لا أفرح أبدًا. وكان سفيان يشتد قلقه من السوابق والخواتيم فكان يبكي ويقول: أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيًّا، ويبكي ويقول: أخاف أن أسلَب الإيمان عند الموت.
وكان مالك بن دينار يقوم طول ليله قابضًا على لحيته ويقول: يا رب، قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، ففي أي الدراين منزل مالك؟
وقال حاتم الأصم: من خلا قلبه من ذكر أربعة أخطار فهو مغتر فلا يأمن الشقاء:
الأول: خطر يوم الميثاق حين قال: هؤلاء في الجنة ولا أبالي، وهؤلاء في النار ولا أبالي، فلا يعلم في أي الفريقين كان.
والثاني: حين خلق في ظلمات ثلاث، فنادى الملَك بالشقاوة والسعادة، ولا يدري أمن الأشقياء هو أم من السعداء.
والثالث: ذكر هول المطلع، فلا يدري أيُبَشَّر برضا الله أم بسخطه.
والرابع: يوم يصدر الناس أشتاتًا، فلا يدري أي الطريقين يسلك به.
وقال سهل التستري: المريد يخاف أن يبتلى المعاصي، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر. ومن هنا كان =
1 / 30
[٢] أَخْبَرَنَا طِرَاد، نا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرَان السُّكَّرِي المُعَدِّل، أنا أَبُو عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الصَّفَّار قِرَاءَةً في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، أنا أحمد بن منصور، ونا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ، ثنا مَعْمَرٌ، عَنْ هِشَامِ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إني بَنِي أَبِي سَلَمَةَ فِي حَجْرِي١، ليس لَهُمْ شَيْءٌ إِلا مَا أَنْفَقْتُ عَلَيْهِمْ، وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ، أَفَلِي أَجْرٌ إِنْ أَنْفَقْتُ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَنْفِقِي عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّ لَكِ أَجْرَ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ".
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَعَنْ عَبْدِ الرزاق.
_________
= الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ويشتد قلقهم وجزعهم منه، فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر، كما تقدم أن دسائس السوء الخفية توجب سوء الخاتمة، وقدكان النَّبِيُّ ﷺ يكثر أن يقول في دعائه: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، ققيل له: يا نبي الله، آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ فقال: "نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن ﷿ يقبلها كيف شاء" خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث أنس.
وخرج الإمام أحمد من حديث أم سلمة أن النبي ﷺ كان يكثر في دعائه أن يقول: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، فقلت: يا رسول الله، أوإن القلوب لتنقلب؟ قال: "نعم، ما من خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله ﷿ فإن شاء الله ﷿ أقامه وإن شاء أزاغه"، فنسأل الله ربنا ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، قالت: قلت: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: "بلى، قولي: اللهم رب النبي محمد ﷺ اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، واؤجرني من مضلات الفتن ما أحييتني"، وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة.
وخرج مسلم من حديث عبد الله بن عمرو: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن ﷿ كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول الله ﷺ: "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".
"جامع العلوم والحكم ٦٩-٧١".
[٢] م "٢/ ٦٩٥" "١٢" كتاب الزكاة - "١٤" باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مُشْرِكِينَ - من طريق أبي أسامة، عن هشام به.
ومن طريق إسحاق بن إبراهيم وعبد الرزاق عن معمر به.
خ "٣/ ٤٢٨" "٦٩" كتاب النفقات - "١٤" باب ﴿وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ﴾ وهل على المرأة من شيء - من طريق موسى بن إسماعيل، عن وهيب، عن هشام به.
١ حَجْرِي: أي كنفي وحمايتي.
1 / 31
[٣] أَخْبَرَنَا طَرَّادُ، نا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ رِزْقَوَيْهِ١ قَالَ: أنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حَرْبٍ، نا عَلِيُّ بن حرب، نا سفيان ابن عُيَيْنَةَ٢، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بن جبير بن مُعْطِم، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنِّي أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يُمحى بِي الكفر، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي أَحْشُرُ النَّاسَ، وأنا العاقب ٣ الذي ليس بعده نَبِيٌّ".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ.
[٤] أَخْبَرَنَا طَرَّادٌ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ رزق البزاز٤ في شهر
_________
[٣] خ "٢/ ٥١٢" "٦١" كتاب المناقب - "٧" باب ما جاء في أسماء الرسول ﷺ مِنْ طريق إبراهيم من المنذر، عن معن، عن مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ محمد بن جبير به، رقم "٣٥٣٢".
م "٤/ ١٨٢٨" "٤٣" كتاب الفضائل - "٣٤" باب في أسماء النَّبِيُّ ﷺ من طريق سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عن محمد بن جبير به، رقم "١٢٤/ ٢٣٥٤".
١ له ترجمة في تاريخ بغداد "١/ ٣٥١" قال الخطيب البغدادي فيها: "كان ثقة صدوقًا كثير السماع والكتابة، وحسن الاعتقاد جميل المذهب ... وهو أول شيخ كتبت عنه".
٢ في الأصل: سفيان بن عيينة، عن محمد بن جبير بن مطعم، وسقط بينهما "الزهري"، من الكاتب كما يتبين من كتب التخريج، ومن نسخة "ب".
٣ العاقب: قال أبو عبيد: كل شيء خلف بعد شيء فهو عاقب؛ ولذا قيل لولد الرجل بعده: هو عقبه، وكذا آخر كل شيء. ورواه ابن وهب عن مالك قال: معنى العاقب: ختم الله به الأنبياء، وختم بمسجده هذه المساجد؛ يعني: مساجد الأنبياء.
[٤] خ "١/ ٢٠٩" "١٠" كتاب الأذان - "١١" باب أذان الأعمى - من طريق عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن ابن شهاب به، وفيه:"ثم قال: كان رجلًا أعمى لا ينادي حتى يقال له: أصبحت أصبحت". رقم "٦١٧".
م "٢/ ٧٦٦" "١٣" كتاب الصيام - "٨" باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، وأن له الأكل وغيره حتى يطلع الفجر، وبيان صفة الفجر الذي تتعلق به الأحكام، من الدخول في الصوم، ودخول وقت صلاة الصبح، وغير ذلك - من طريق حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب به، رقم "٣٧/ ١٠٩٢".
وفي بعض روايات مسلم: "ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا".
قال العلماء: معناه أن بلالًا كان يؤذن قبل الفجر، ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه، ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم، فيتأهب ابن أم مكتوم للطهارة وغيرها، ثم يرقى ويشرع في الأذان مع أول طلوع الفجر.
٤ هو ابن رزقويه الذي سبقت ترجمته في التعليق على الحديث السابق.
1 / 32
رمضان سنة إحدى عشرة وأربعمائة، نا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، نا جَدِّي عَلِيُّ بْنُ حَرْبٍ، نا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "إِنَّ بِلالا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى تَسْمَعُوا آذَانَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ.
[٥] أَخْبَرَنَا طَرَّادٌ، أنا أَبُو الْفَتْحِ هِلالُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سَعْدَانَ بن
_________
[٥] خ "١/ ٢٩٤" "١١" وكتاب الجمعة - "٣٢" باب إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين - من طريق أبي النعمان، عن حماد بن زيد به. رقم "٩٣٠".
وفي الباب الذي بعده "٣٣" باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين - من طريق علي بن عبد الله، عن سفيان، عن عمرو به. رقم "٩٣١".
م "٢/ ٥٩٦" "٧" كتاب الجمعة، "١٤" باب التحية والإمام يخطب - من طريق أبي الربيع الزهراني وقتيبة بن سعيد، عن حماد به. رقم "٥٤/ ٨٧٥".
كما روى مسلم عن طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر أنه قال: جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة، ورسول الله ﷺ قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي، فقال له النبي ﷺ: "أركعت ركعتين؟ " قال: لا. قال: "قم فاركعهما". رقم "٥٨/ ٨٧٥".
وروى الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح: "أن أبا سعيد الخدري دخل يوم الجمعة ومروانُ يخطب، فقام يصلي، فجاء الحرس ليُجلسوه، فأبَى حتى صلى، فلما انصرف أتيناه، فقلنا: رحمك الله، إن كادوا ليقعوا بك! إن كادوا ليقعوا بك! فقال: ما كنت لأتركهما بعد شيء رأيتُه من رسول الله ﷺ ثم ذكر أن رجلًا جاء يوم الجمعة في هيئة بذة والنبي ﷺ يخطب يوم الجمعة فأمره فصلى ركعتين، والنبي ﷺ يخطب".
قال ابن أبي عمر: كان سفيان بن عيينة يصلي ركعتين إذا جاء والإمام يخطب، وكان يأمر به، وكان أبو عبد الرحمن المقري يراه.
قال أبو عيسى: وسمعت ابن أبي عمر يقول: قال سفيان بن عيينة: كان محمد بن عجلان ثقة مأمونًا في الحديث.
قال: وفي الباب عن جابر، وأبي هريرة، وسهل بن سعد. =
1 / 33
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَاهَوَيْهِ بْنِ مِهْيَارِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ الكَسْكَرِي١، قِرَاءَةً، ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَيَّاشٍ الْقَطَّانُ قِرَاءَةً، فِي رَجَبٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وثلاثين وثلاثمائة، ثنا أَبُو الأَشْعَثِ أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ الْعِجْلِيُّ يَوْمَ الاثْنَيْنِ لَسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَجُلا أَتَى الْمَسْجِدَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَصَلَّيْتَ يَا فُلانُ؟ " قَالَ: لا، قال: "قم فَارْكَعْ".
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادٍ وَغَيْرِهِ عَنْ عَمْرٍو.
_________
= قال أبو عيسى: حديث أبي سعيد الخدري حديث حسن صحيح.
والعمل على هذا عند بعض أهل العلم.
وبه يقول الشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال بعضهم: إذا دخل والإمام يخطب فإنه يجلس ولا يصلي.
وهوقول سفيان الثوري، وأهل الكوفة.
والقول الأول أصح.
حدثنا قتيبة، حدثنا العلاء بن خالد القرشي قال: رأيت الحسن البصري دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب، فصلى ركعتين، ثم جلس.
إنما فعل الحسن اتباعًا للحديث، وهو رَوى عن جابر عَنِ النَّبِيِّ ﷺ هذا الحديث. "الترمذي" "٢/ ٣٨٥-٣٨٧".
قال البغوي ﵀ في فقه هذا الحديث: في الحديث دليل على أن الإمام إذا تكلم في أثناء الخطبة لا يعيدها، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه يعيد الخطبة.
وفيه دليل على أن مَن دخل والإمام يخطب لا يجلس حتى يصلي ركعتين، وهو قول كثير من أهل العلم، وإليه ذهب الحسن، وبه قال ابن عيينة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقال بعضهم: يجلس ولا يصلي، وهو قول سفيان الثوري، وأصحاب الرأي، وفيه: أن التطوع ركعتان ليلًا ونهارًا. "شرح السنة ٤/ ٢٦٦".
١ له ترجمة في تاريخ بغداد "١٤/ ٧٥". وقال الخطيب: كتبنا عنه وكان صدوقًا ... وسألته عن مولده، فقال: ولد في شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ... ومات سنة أربع عشرة وأربعمائة.
1 / 34