Collection of Najdi Letters and Issues (Part Four, Section Two)
مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الرابع، القسم الثاني)
Baare
الأولى، بمصر ١٣٤٩هـ/النشرة الثالثة، ١٤١٢هـ
Daabacaha
دار العاصمة،الرياض
Goobta Daabacaadda
المملكة العربية السعودية
Noocyada
النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين للشيخ حمد بن ناصر
...
النبذة الشريفة النفيسة في الرد على القبوريين
من فتاوى "العلامة مفتي الديار النجدية وعالم الطائفة السلفية" الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر الحنبلي رحمه الله تعالى
إطلاق الكفر بدعاء غير الله
بسم الله الرحمن الر حيم
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ ١ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ند ولا معين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وحجة على الكافرين، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإنه ما كان منتصف جمادى الثانية من شهور سنة سبع عشرة بعد المائتين والألف وصلت إلينا رسالة من محمد بن أحمد الحفظي اليمني، يسأل فيها عن مسائل أوردها عليه بعض المجادلين، فطلب منا الجواب عليها.
منها زعم أن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه:
"الوجه الأول" عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه.
"الثاني" أنه إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك وكفر، ثم أولوه بالأصغر، وإما نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة وهي من الأصغر.
"الثالث" أنه قد ورد في الحديث -أي حديث الضرير- قوله: "يا محمد إني أتوجه بك"٢ الخ، وفي الجامع الكبير وعزاه للطبراني: "فمن انفلتت عليه دابته قال: يا عباد الله احبسوا" وهذا دعاء ونداء لغير الله.
"الجواب" وبالله التوفيق والتأييد، ومنه أستمد العون والتسديد. اعلم أن دعاء غير الله وسؤاله نوعان:
"أحدهما" سؤال الحي الحاضر ما يقدر عليه، مثل سؤاله أن يدعو له أو ينصره أو يعينه بما يقدر عليه، فهذا جائز كما كان الصحابة ﵃ يستشفعون بالنبي ﷺ في حياته فيشفع لهم، ويسألونه الدعاء فيدعو لهم. فالمخلوق يطلب منه من هذه
_________
١ سورة الفاتحة آية:٢: ٤.
٢ الترمذي: الدعوات "٣٥٧٨"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "١٣٨٥"، وأحمد "٤/١٣٨".
1 / 592
الأمور ما يقدر عليه منها، كما قال تعالى في قصة موسى: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ﴾ ١ وقال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ ٢ وكما ورد في الصحيحين: أن الناس يوم القيامة يستشفعون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، ثم بنبينا محمد ﷺ.
وفي سنن أبي داود "أن رجلا قال للنبي ﷺ إنا نستشفع بالله عليك ونستشفع بك على الله فقال: شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع به على أحد من خلقه"فأقره علىقوله: نستشفع بك على الله، وأنكر قوله: نستشفع بالله عليك؛ فالصحابة ﵃ كانوا يطلبون منه الدعاء، ويستشفعون به في حياته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
"النوع الثاني" سؤال الميت والغائب وغيرهما مما لا يقدر عليه إلا الله مثل سؤال قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، فهذا من المحرمات المنكرة باتفاق أئمة المسلمين، لم يأمر الله به ولا رسوله، ولا فعله أحد من الصحابة، ولا التابعين لهم بإحسان، ولا استحسنه أحد من أئمة المسلمين، وهذا مما يعلم بالاضطرار أنه ليس من دين الإسلام.
فإنه لم يكن أحد منهم إذا نزل به شدة أو عرضت له حاجة يقول: يا سيدي فلان اقض حاجتي أو اكشف شدتي، وأنا في حسبك، وأنا مستشفع بك إلى ربي. كما يقوله بعض هؤلاء المشركين لمن يدعونهم من الموتى والغائبين، ولا أحد من الصحابة استغاث بالنبي ﷺ بعد موته، ولا بغيره من الأنبياء عند قبورهم، ولا إذا أبعدوا عنهم، فإن هذا من الشرك الأكبر الذي كفر الله به المشركين.
فإن المشركين الذين كفرهم النبي ﷺ واستباح دماءهم وأموالهم لم يقولوا: إن آلهتهم شاركت الله تعالى في خلق العالم، أو أنها تنزل المطر وتنبت النبات بل
_________
١ سورة القصص آية: ١٥.
٢ سورة الأنفال آية: ٧٢.
1 / 593
كانوا مقرين بذلك لله وحده، كما قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ١ الآية وقال تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَِ﴾ ٢ إلى قوله: ﴿سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ﴾ ٣ وقال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ ٤.
قال طائفة من السلف في تفسير هذه الآية: كانوا إذا سئلوا من خلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله. وهم يعبدون غيره، ففسروا الإيمان في الآية بإقرارهم بتوحيد الربوبية، وفسروا الإشراك بإشراكهم في توحيد الإلهية الذي هو توحيد العبادة.
تعريف العبادة والدعاء
والعبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، من ذلك الدعاء بما لا يقدر على جلبه أو دفعه إلا الله، فمن طلب من غيره أو استعانه فيه فقد عبده به، والدعاء من أفضل العبادة وأجل الطاعات، قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ ٥.
وفي الترمذي عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: "الدعاء مخ العبادة" ٦ وللترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: " ﴿وقال ربكم ادعوني أستجب لكم﴾ إلى آخر الآية"٧ قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال الشارح: معنى قوله: "الدعاء هو العبادة" ٨ أي أعظمها فهو كقوله: "الحج عرفة " ٩ أي: ركنه الأعظم.
ومعنى قوله: "الدعاء مخ العبادة" ١٠ أي: خالصها؛ لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه. وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص. انتهى.
والدعاء في القرآن يتناول معنيين "أحدهما" دعاء العبادة وهو دعاء الله لامتثال أمره في قوله: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ١١.
"الثاني" دعاء المسألة، وهو دعاؤه سبحانه في جلب المنفعة ودفع المضرة، وبقطع النظر عن الامتثال فقد فسرقوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
_________
١ سورة لقمان آية: ٢٥.
٢ سورة المؤمنون آية: ٨٤، ٨٥.
٣ سورة المؤمنون آية: ٨٩.
٤ سورة يوسف آية: ١٠٦.
٥ سورة غافر آية: ٦٠.
٦ الترمذي: الدعوات "٣٣٧١".
٧ الترمذي: تفسير القرآن "٢٩٦٩،٣٢٤٧" والدعوات "٣٣٧٢"، وأبو داود: الصلاة "١٤٧٩"، وابن ماجه: الدعاء "٣٨٢٨"، وأحمد "٤/٢٦٧،٤/٢٧١،٤/٢٧٦".
٨ الترمذي: تفسير القرآن "٣٢٤٧"، وابن ماجه: الدعاء "٣٨٢٨".
٩ الترمذي: الحج "٨٨٩"، والنسائي: مناسك الحج "٣٠٤٤"، وأبو داود: المناسك "١٩٤٩"، وابن ماجه: المناسك "٣٠١٥"، وأحمد "٤/٣٠٩،٤/٣٣٥"، والدارمي: المناسك "١٨٨٧".
١٠ الترمذي: الدعوات "٣٣٧١".
١١ سورة غافر آية: ٦٠.
1 / 594
لَكُمْ﴾ ١
بالوجهين:
"أحدهما" ما هو معلوم من الدعاء وغيره، وهو العبادة وامتثال الأمر له سبحانه، فيكون معنى قوله: ﴿أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ٢ أثبكم كما قال في الآية الأخرى: ﴿وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ٣ أي: يثيبهم على أحد التفسيرين.
"الثاني" ما هو خاص: معناه سلوني أعطكم، كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له" ٤ فذكر أولا لفظ الدعاء، ثم السؤال، ثم الاستغفار، والمستغفر سائل، كما أن السائل داع، فعطف السؤال على الدعاء والاستغفار، فهو من عطف الخاص على العام، وهذا المعنى الثاني هو الإخلاص لوجهين:
"أحدهما" ما في حديث النعمان بن بشير أن رسول الله ﷺ قال: "الدعاء هو العبادة ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ " ٥ فاستدلاله ﷺ بالآية على الدعاء دليل على أن المراد منها سلوني، وخطاب الرب ﷾ عباده المكلفين بصيغة الأمر منصرف إلى الوجوب ما لم يقم دليل يصرفه إلى الاستحباب، فيفيد قصور نقله على الله، فلا يجعل لغيره؛ لأنه عبادة، ولهذا أمر الله الخلق بسؤاله فقال: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه﴾ ٦.
وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي ﷺ "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" ٧ وله عن أبي هريرة مرفوعا: "من لم يسأل الله يغضب عليه" ٨ وله أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء".
فتبين بهذا أن الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات.
"الوجه الثاني" أنه سبحانه قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ ٩ والسائل راغب راهب، وكل سائل راغب راهب فهو عابد للمسئول، وكل عابد فهو أيضا راغب راهب، يرجو رحمته ويخاف عذابه،
_________
١ سورة غافر آية: ٦٠.
٢ سورة غافر آية: ٦٠.
٣ سورة الشورى آية: ٢٦.
٤ البخاري: التوحيد "٧٤٩٤"، ومسلم: صلاة المسافرين وقصرها "٧٥٨"، والترمذي: الدعوات "٣٤٩٨"، وأبو داود: الصلاة "١٣١٥" والسنة "٤٧٣٣"، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها "١٣٦٦"، وأحمد "٢/٢٥٨،٢/٢٦٤،٢/٢٦٧،٢/٢٨٢،٢/٣٨٣،٢/٤١٩،٢/٤٨٧،٢/٥٠٤"، ومالك: النداء للصلاة "٤٩٦"، والدارمي: الصلاة "١٤٧٩".
٥ الترمذي: تفسير القرآن "٣٢٤٧"، وابن ماجه: الدعاء "٣٨٢٨".
٦ سورة النساء آية: ٣٢.
٧ الترمذي: الدعوات "٣٥٧١".
٨ الترمذي: الدعوات "٣٣٧٣"، وابن ماجه: الدعاء "٣٨٢٧".
٩ سورة البقرة آية: ١٨٦.
1 / 595
وكل عابد سائل، وكل سائل فهو عابد لله، قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا﴾ ١ ولا يتصور أن يخلو داع لله دعاء عبادة أو دعاء مسألة من الرغب والرهب والخوف والطمع.
دعاء العبادة ودعاء المسألة
فدعاء العبادة ودعاء المسألة كلاهما عبادة لله، لا يجوز صرف شيء منهما إلى غيره؛ فلا يجوز أن يطلب من مخلوق ميت أو غائب قضاء حاجة، أو تفريج كربة، بل ما لا يقدر عليه إلا الله لا يجوز أن يطلب إلا من الله؛ فمن دعا ميتا أو غائبا فقال: يا سيدي فلان أغثني أو انصرني أو ارحمني أو اكشف عني شدتي ونحو ذلك؛ فهو كافر مشرك يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء، فإن هذا هو شرك المشركين الذين قاتلهم النبي –ﷺ فإنهم لم يكونوا يقولون: إنها تخلق وترزق وتدبر أمر من دعاها، بلكانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم في غير موضع من كتابه، وإنما كانوا يفعلون عندها ما يفعله إخوانهم من المشركين اليوم من دعائها والاستغاثة بها، والذبح لها، والنذر لها، يزعمون أنها وسائط بينهم وبين الله تعالى تقربهم إليه، وتشفع لهم لديه، كما حكاه عنهم في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ٢ وقال تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ ٣.
فقاتلهم الرسول ﷺ ليكون الدعاء كله لله، والذبح كله لله، والاستغاثة كلها بالله، وجميع العبادات لله، والله سبحانه قد بين في غير موضع من كتابه أن الدعاء عبادة، فقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم ﵇: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ٤ الآية. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ
_________
١ سورة الأنبياء آية: ٩٠.
٢ سورة الزمر آية: ٣.
٣ سورة يونس آية: ١٨.
٤ سورة مريم آية: ٤٨، ٤٩.
1 / 596
كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ ١.
فأخبر سبحانه أنه لا أضل من هذا الداعي، وأن المدعو لا يستجيب له، وأن ذلك عبادة سيكفر بها المعبود يوم القيامة. كقوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ ٢.
الدعاء من أفضل العبادات وأجل الطاعات
وقد سمى الله سبحانه الدعاء دينا في غير موضع، وأمرنا أن نخلصه له، وأخبر أن المشركين يخلصون له في الشدائد فقال تعالى: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ٣ وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ٤ وقال تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ ٥.
فأخبر سبحانه أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له، مخلصين في تلك الحال، لا يستغيثون بغيره فيها، فلما نجاهم من تلك الشدة إذا هم يشركون في دعائهم. ولهذا قال: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ﴾ ٦ أي أنه سبحانه لما نجاكم إلى البر أعرضتم أي: نسيتم ما عرفتم من توحيده، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له.
وقال تعالى: ﴿فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ٧ وقال تعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ ٨.
فالدعاء من أفضل العبادات، وأجل الطاعات؛ ولهذا أخبر أنه الدين، فذكره معرفا بالألف واللام، وأخبر أن المشركين يخلصونه له في الشدائد، وأنهم في الرخاء يشركون معه غيره، فيدعون من لا ينفعهم ولا يضرهم، ولا يسمع دعاءهم فصاروا بذلك كافرين.
شرك المشركين كان في الدعاء والذبح
ومن تأمل الكتاب والسنة علم أن شرك المشركين الذين كفرهم النبي ﷺ
_________
١ سورة الأحقاف آية: ٥، ٦.
٢ سورة مريم آية:٨١، ٨٢.
٣ سورة لقمان آية: ٣٢.
٤ سورة يونس آية: ٢٢.
٥ سورة العنكبوت آية: ٦٥.
٦ سورة الإسراء آية: ٦٧.
٧ سورة غافر آية: ١٤.
٨ سورة غافر آية: ٦٥.
1 / 597
إنما هو في الدعاء والذبح والنذر والتوكل والالتجاء ونحو ذلك. فإن جادل مجادل وزعم أنه ليس هذا، قيل له: فأخبرنا عما كانوا يفعلون عند آلهتهم، وما الذي يريدون وما هذا الشرك الذي حكاه الله عنهم؟.
فإن قال: شركهم عبادة غير الله. قيل له: وما معنى عبادتهم لغير الله؟ أتظن أنهم يعتقدون أن تلك الأخشاب والأحجار تخلق وترزق، وتدبر أمر من دعاها؟ فهذا يكذبه القرآن؛ لأن الله عزوجل ذ أخبر عنهم أنهم مقرون بذلك لله وحده.
فإن قال: إنهم يريدون منهم النفع والضر من دون الله، فهذا يكذبه القرآن أيضا؛ لأن الله أخبر أنهم لم يريدوا إلا التقرب بهم إلى الله، وشفاعتهم عنده كما قال تعالى حاكيا عنهم: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ١ وقال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ ٢.
وأخبر تعالى عن شركهم في غير آية من كتابه كقوله: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا﴾ ٣ أي: لا يدفعونه بالكلية، ولا يحولونه من حال إلى حال. ثم قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ ٤.
قال طائفة من السلف: كان أقوام يدعون المسيح والعزير والملائكة فبين الله لهم أن هؤلاء عبادي كما أنتم عبادي، يرجون رحمتي كما ترجون رحمتي، ويخافون عذابي كما تخافون عذابي، وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، وهذا هو الإغاثة.
والمشركون يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم بالسؤال عند الله والطلب منه فيقضي الله لهم تلك الحاجات؛ فأبطل هذه الشفاعة التي يظنها المشركون، وبين أنه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه فقال: ﴿وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ ٥ وقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ﴾ ٦.
_________
١ سورة الزمر آية: ٣.
٢ سورة يونس آية: ١٨.
٣ سورة الإسراء آية: ٥٦.
٤ سورة الإسراء آية: ٥٧.
٥ سورة سبأ آية: ٢٣.
٦ سورة البقرة آية: ٢٥٥.
1 / 598
هذا فهو كافر مشرك.
إطلاق الكفر بدعاء غير الله
إذا تقرر هذا فنقول: قول القائل: "إن إطلاق الكفر بدعاء غير الله غير مسلم لوجوه الوجه الأول: عدم النص الصريح على ذلك بخصوصه". كلام باطل، بل النصوص صريحة في كفر من دعا غير الله، وجعل لله ندا من خلقه يدعوه كما يدعو الله، ويرجوه كما يرجو الله، ويتوكل عليه في أموره كلها. قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ ١ وقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ ٢ إلى قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾ ٣ فمن أحب مخلوقا كما يحب الله، أو رجاه كما يرجو الله؛ فقد جعله ندا لله، وصار من الخالدين في النار.
وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود –﵁ قال: قال رسول الله –ﷺ: "من مات وهو يدعو لله ندا دخل النار "٤.
وفي الصحيحين "أنه ﷺ سئل: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" ٥ والند المثل، قال الله تعالى: ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ ٦ وقال تعالى عن أهل النار: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ٧ ومعلوم أنهم ما يساوونهم به في الخلق والرزق والإحياء والإماتة، وإنما يساوونهم به في الدعاء والخوف والرجاء والمحبة والتعظيم والإجلال.
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ﴾ ٨ وقال تعالى: ﴿وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ
_________
١ سورة الأنعام آية: ١.
٢ سورة البقرة آية: ١٦٥.
٣ سورة البقرة آية: ١٦٧.
٤ البخاري: تفسير القرآن "٤٤٩٧"، وأحمد "١/٣٧٤،١/٤٠٢،١/٤٠٧،١/٤٦٢،١/٤٦٤".
٥ البخاري: الأدب "٦٠٠١"، ومسلم: الإيمان "٨٦"، والترمذي: تفسير القرآن "٣١٨٢،٣١٨٣"، والنسائي: تحريم الدم "٤٠١٣،٤٠١٤،٤٠١٥"، وأبو داود: الطلاق "٢٣١٠"، وأحمد "١/٣٨٠،١/٤٣١،١/٤٣٤،١/٤٦٢،١/٤٦٤".
٦ سورة البقرة آية: ٢٢.
٧ سورة الشعراء آية: ٩٧، ٩٨.
٨ سورة الزمر آية: ٨.
1 / 599
رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ﴾ ١.
فصرح بكفره وقال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ﴾ ٢ إلى قوله: ﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ٣ فبين أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ ٤ وقال فيما حكاه عن المسيح: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ﴾ ٥ وقال: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ﴾ ٦. فدلت الآية الكريمة على أن أعظم شركهم إنما هو دعاء غير الله، فأخبر أنهم لا يملكون من قطمير، وهو القشر الذي يكون على ظهر النواة، أي ليس لهم من الأمر شيء، وإن قل.
ثم أخبر أنهم لا يسمعون دعاءهم، وأنهم لو سمعوا ما استجابوا لهم، وهذا صريح في دعاء المسألة.
ثم أخبر أن هذا شرك يكفرون به يوم القيامة فقال: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ﴾ ٧ كقوله: ﴿كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾ ٨ وكقوله: ﴿وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ﴾ ٩.
والله سبحانه قد أرسل رسله، وأنزل كتبه ليعبدوه وحده، ويكون الدين كله له، ونهى أن يشرك به أحد من خلقه، وأخبر أن الرسالة عمت كل أمة، وأن دين الرسل واحد، وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له، وأنه لا يشرك به أحد سواه كما قال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا﴾ الطَّاغُوتَ﴾ ١٠ وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ١١ وأخبر أنه لا يغفر أن يشرك به، وأن من أشرك فقد حبط عمله وصار من
_________
١ سورة المؤمنون آية: ١١٧.
٢ سورة آل عمران آية: ٧٩.
٣ سورة آل عمران آية: ٨٠.
٤ سورة النساء آية: ٤٨.
٥ سورة المائدة آية: ٧٢.
٦ سورة فاطر آية: ١٣، ١٤.
٧ سورة فاطر آية: ١٤.
٨ سورة مريم آية: ٨٢.
٩ سورة الأحقاف آية: ٦.
١٠ سورة النحل آية: ٣٦.
١١ سورة الأنبياء آية: ٢٥.
1 / 600
الخالدين في النار، كما قال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ ١ فيقال لمن أنكر أن يكون دعاء الموتى والاستغاثة بهم في الشدائد شركا أكبر: أَخْبِرْنَا عن هذا الشرك الذي عظَّمَه الله، وأخبر أنه لا يغفره، أتظن أن الله يحرمه هذا التحريم ولا يبينه لنا؟
بيان القرآن للشرك واستحالة تركه بغير بيان
ومعلوم أن الله سبحانه- أنزل كتابه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين. وقد أخبر في كتابه أنه أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينا. فكيف يجوز أن يترك بيان الشرك الذي هو أعظم ذنب عُصِيَ الله به سبحانه-؟.
فإذا أصغى الإنسان إلى كتاب الله وتدبره وجد فيه الهدى والشفاء ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه﴾ ٢ ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾ ٣ ويقال أيضا: قد أمرنا الله بدعائه وسؤاله، وأخبر أنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأمرنا أن ندعوه خوفا وطمعا، فإذا سمع الإنسان قوله تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ٤ وقوله: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً﴾ ٥.
فمعلوم أن هذا عبادة، فيقال: فإن دعا في تلك الحاجة نبيا أو ملكا، أوعبدا صالحا، هل أشرك في هذه العبادة؟. فلا بد أن يقر بذلك، إلا أن يكابر ويعاند. ويقال أيضا: إذا قال الله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ ٦ وأطعت الله ونحرت له، هل هذا عبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم. فيقال له: فإذا ذبحت لمخلوق نبي، أوملك، أوعبد أو غيرهما، هل أشركت في هذه العبادة؟ فلا بد أن يقول: نعم، إلا أن يكابر ويعاند، وكذلك السجود عبادة، فلو سجد لغير الله لكان مشركا في هذه العبادة.
دعاء الموتى
ومعلوم أن الله سبحانه- ذكر في كتابه من النهي عن دعاء غيره، وتكاثرت
_________
١ سورة التوبة آية: ١٧.
٢ سورة الأعراف آية: ١٨٦.
٣ سورة النور آية: ٤٠.
٤ سورة غافر آية: ٦٠.
٥ سورة الأعراف آية: ٥٥.
٦ سورة الكوثر آية: ٢.
1 / 601
نصوص القرآن في النهي عن ذلك أعظم مما ورد في النهي عن السجود لغير الله والذبح لغير الله، فإذا كان من سجد لقبر نبي أو ملك أو عبد صالح لا يشك أحد في كفره، وكذلك لو ذبح القُرْبَان لم يشك أحد في كفره؛ لأنه أشرك في عبادة الله غيره، فيقال: السجود عبادة، وذبح القربان عبادة، والدعاء عبادة؛ فما الفارق بين السجود والذبح وبين الدعاء، إذ الكل عبادة؟ وما الدليل على أن السجود لغير الله، والذبح لغيره شرك أكبر؟ والدعاء بما لا يقدر عليه إلا الله شرك أصغر؟.
ويقال أيضا: قد ذكر أهل العلم من أهل كل مذهب باب حكم المرتد، وذكروا فيه أنواعا كثيرة، كل نوع منها يكفر به الرجل، ويحل دمه وماله، ولم يرد في واحد منها، ما ورد في الدعاء؛ بل لا نعلم نوعا من أنواع الكفر والردة ورد فيه من النصوص مثل ما ورد في دعاء غير الله بالنهي عنه، والتحذير من فعله، والوعيد عليه، ولا يشتبه هذا إلا على مَن لم يعرف حقيقة ما بعث الله به محمدا ﷺ من التوحيد، ولم يعرف حقيقة شرك المشركين الذين كفَّرَهم النبي ﷺ وأحَلَّ دماءهم وأموالهم، وأمره الله أن يقاتلهم حتى لا تكون فتنة؛ أي: لا يكون شرك ﴿وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ ١.
فمن أصغى إلى كتاب الله عَلِمَ علمًا ضروريا أن دعاء الموتى من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين، فكيف يَسُوغُ لمن عرف التوحيد الذي بعث الله به محمدا ﷺ أن يجعل ذلك من الشرك الأصغر ويقول: قد عدم النص الصريح على كفر فاعله.
فإن الأدلة القرآنية، والنصوص النبوية قد دلت على ذلك دلالة ظاهرة ليست خفية، ومن أعمى الله بصيرته فلا حيلة فيه: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ ٢.
وأيضا فإن كثيرا من المسائل التي ذكرها العلماء في مسائل الكفر والردة، وانعقد عليها الإجماع: لم يرد فيها نصوص صريحة بتسميتها كفرا، وإنما يستنبطها
_________
١ سورة الأنفال آية: ٣٩.
٢ سورة الأعراف آية: ١٨٦.
1 / 602
العلماء من عمومات النصوص، كما إذا ذبح المسلم نسكا متقربا به إلى غير الله: فإن هذا كفر بالإجماع، كما نص على ذلك النووي وغيره. وكذلك لو سجد لغير الله، فإذا قيل: هذا شرك؛ لأن الذبح عبادة والسجود عبادة، فلا يجوز لغير الله كما دل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ ١ وقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ﴾ ٢ فهذا صريح في الأمر بهما، وأنه لا يجوز صرفهما لغيره.
فيبقى أن يقال: فأين الدليل المُصَرِّح بأن هذا كفرٌ بعينه؟ ولازمُ هذه المجادلة الإنكارُ على العلماء في كل مسألة من مسائل الكفر، والردة التي لم يرد فيها نص بعينها، مع أن هذه المسألة المسئول عنها قد وجدت فيها النصوص الصريحة من كلام الله وكلام رسوله، وأوردنا من ذلك ما فيه الهدى لمن هداه الله.
نصوص الفقهاء في شرك من يدعو غير الله بالإجماع
وأما كلام العلماء فنشير إلى قليل من كثير، ونذكر كلام من حكى الإجماع على ذلك، قال في الإقناع وشرحه: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم كَفَرَ إجماعا؛ لأن هذا كفعل عابدي الأصنام قائلين: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ ٣ انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين ﵀: وقد سئل عن رجلين تناظرا فقال أحدهما: لا بد لنا من واسطة بيننا وبين الله؛ فإنا لا نقدر أن نصل إليه إلا بذلك. فأجاب بقوله: إن أراد بذلك أنه لا بد من واسطة تبلغنا أمر الله: فهذا حق؛ فإن الخلق لا يعلمون ما يحبه الله ويرضاه، وما أمر به، وما نهى عنه إلا بالرسل الذين أرسلهم إلى عباده، وهذا مما أجمع عليه أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى؛ فإنهم يثبتون الوسائط بين الله وبين عباده، وهم الرسل الذين بلغوا عن الله أوامره ونواهيه.
قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ ٤ ومن أنكر هذه الوسائط، فهو كافر بإجماع أهل الملل،
_________
١ سورة الكوثر آية: ٢.
٢ سورة الأنعام آية: ١٦٢، ١٦٣.
٣ سورة الزمر آية: ٣.
٤ سورة الحج آية: ٧٥.
1 / 603
وإن أراد بالواسطة أنه لا بد من واسطة يتخذه العباد بينهم وبين الله في جلب المنافع، ودفع المضار مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد ونصرهم وهداهم يسألونه ذلك، ويرجعون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كَفَّرَ الله به المشركين حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء يجتلبون بهم المنافع، ويدفعون بهم المَضَارّ، لكن الشفاعة لمن يأذن الله له فيها.
قال تعالى: ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ﴾ ١ وقال: ﴿وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾ ٢ وقال: ﴿وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ﴾ ٣ وقال: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ ٤.
وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا﴾ ٥ إلى قوله: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُور﴾ ٦.
قال طائفة من السلف: كان أقوام من الكفار يدعون عيسى والعزير والملائكة والأنبياء، فبيَّن الله لهم أن الملائكة والأنبياء لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، وأنهم يتقربون إليه ويرجون رحمته ويخافون عذابه. وقال تعالى: ﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ٧ فبيَّن ﷾ أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر. فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم، ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار، مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب، وتفريج الكُرُبَات وسد الفَاقَات فهو: كافر بإجماع المسلمين.
وقد قال تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ
_________
١ سورة السجدة آية: ٤.
٢ سورة الأنعام آية: ٥١.
٣ سورة الأنعام آية: ٧٠.
٤ سورة سبأ آية: ٢٢، ٢٣.
٥ سورة الإسراء آية: ٥٦.
٦ سورة الإسراء آية: ٥٧.
٧ سورة آل عمران آية: ٨٠.
1 / 604
ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ ١
إلى قوله: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ ٢ وقال: ﴿لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ ٣ الآية، وقال: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ ٤ الآية، وقال: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ ٥.وقال تعالي ﴿إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ (١)
اتخاذ الوسائط في عبادة الله
فمن أثبت الوسائط بين الله وبين خلقه كالحجاب بين الملك ورعيته بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه، وأن الله -تعالى- إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الخالق، كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك حوائج الناس؛ لقربهم منهم والناس يسألونهم، أدبا منهم أن يباشروا سؤال الملك؛ أو لأن طلبهم من الوسائط: أنفع لهم من طلبهم من الملك لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل.
وهؤلاء مُشَبِّهُون، شبَّهُوا الخالقَ بالمخلوق، وجعلوا لله أندادا، وفي القرآن من الرد على هؤلاء ما لا تتسع له هذه الفتوى، فإن هذا دين المشركين، عُبَّاد الأوثان، كانوا يقولون: إنها تماثيل الأنبياء والصالحين، وإنها وسائل يتقربون بها إلى الله تعالى- وهو من الشرك الذي أنكره الله تعالى- على النصارى حيث قال: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه﴾ ٦ الآية، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي﴾ ٧ أي فليستجيبوا إذا دعوتهم بالأمر والنهي، وليؤمنوا بي: أني أجيب دعاءهم لي بالمسألة والتضرع، وقال: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ ٨.
وقد بين الله هذا التوحيد في كتابه، وحسم موادَّ الإشراك به حيث لا يخاف
_________
١ سورة الأنبياء آية: ٢٦: ٢٨.
٢ سورة الأنبياء آية: ٢٦.
٣ سورة النساء آية: ١٧٢.
٤ سورة النجم آية ٢٦
٥ سورة البقرة آية ٢٥٥.
٦ سورة التوبة آية: ٣١.
٧ سورة البقرة آية: ١٨٦.
٨ سورة الشرح آية: ٧، ٨.
1 / 605
أحدٌ غيرَ الله ولا يرجو سواه، ولا يتوكل إلا عليه قال تعالى: ﴿فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ﴾ ١ ﴿فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ٢ وقال: ﴿وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ﴾ ٣ وقال: ﴿مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ ٤ فبين أن الطاعة لله والرسول، وأما الخشية والتقوى فللَّه وحده.
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ﴾ ٥ فبيَّن أن الإتيان لله والرسول؛ وأما التحسب فهو لله وحده كما قالوا: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ ٦ ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله، ونظيره قوله تعالى: ﴿زَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ ٧.
تحقيق النبي لمعنى التوحيد وبيان كلمته وحسم الشركة
وقد كان النبي ﷺ يحقق هذا التوحيد لأمته، ويحسم عنهم مواد الشرك؛ إذ هذا تحقيق قولنا: "لا إله إلا الله" فإن الإله هو الذي تَأْلَهُهُ القلوبُ بالمحبة والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف، حتى قال لهم: "لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء محمد" ٨ وقال لرجل قال له: ما شاء الله وشئت فقال: "أجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده" ٩.
وقال لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله" ١٠ وقال: "لا تُطْرُونِي كما أَطْرَت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله" ١١ وقال: "لا تتخذوا قبري عيدا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" ١٢ وقال -في مرضه الذي مات فيه-: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد "١٣ يحذر ما صنعوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا. وهذا باب واسع. انتهى ما لخصته من كلام الشيخ ابن تيمية في مسألة الوسائط.
وقال ﵀ في موضع آخر-: والله سبحانه- لم يجعل أحدا من الأنبياء والمؤمنين واسطة في شيء من الربوبية والإلهية، مثل ما ينفرد به من الخلق والرزق
_________
١ سورة المائدة آية: ٤٤.
٢ سورة آل عمران آية: ١٧٥.
٣ سورة التوبة آية: ١٨.
٤ سورة النور آية: ٥٢.
٥ سورة التوبة آية: ٥٩.
٦ سورة التوبة آية: ٥٩.
٧ سورة آل عمران آية: ١٧٣.
٨ ابن ماجه: الكفارات "٢١١٨"، وأحمد "٥/٧٢"، والدارمي: الاستئذان "٢٦٩٩".
٩ أحمد "١/٢٨٣".
١٠ الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع "٢٥١٦"، وأحمد "١/٢٩٣،١/٣٠٣،١/٣٠٧".
١١ البخاري: أحاديث الأنبياء "٣٤٤٥"، وأحمد "١/٢٣،١/٢٤".
١٢ أبو داود: المناسك "٢٠٤٢"، وأحمد "٢/٣٦٧".
١٣ البخاري: الصلاة "٤٣٦"، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة "٥٣١"، والنسائي: المساجد "٧٠٣"، وأحمد "١/٢١٨،٦/٣٤،٦/٨٠،٦/١٢١،٦/١٤٦،٦/٢٥٢،٦/٢٥٥،٦/٢٧٤"، والدارمي: الصلاة "١٤٠٣".
1 / 606
وإجابة الدعاء، والنصر على الأعداء، وقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، بل غاية ما يكون العبد سببا مثل أن يدعو ويشفع، والله -تعالى- يقول: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ ١ وقال تعالى: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ ٢ وقال تعالى: ﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ٣.
أقسام الناس في الشفاعة
فبيَّن سبحانه- أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر؛ ولهذا كانوا في الشفاعة على ثلاثة أقسام:
فالمشركون أثبتوا الشفاعة التي هي شرك، كشفاعة المخلوق عند المخلوق، كما يشفع عند ملوك خواصّهم؛ لحاجة الملوك إلى ذلك، فيسألونهم بغير إذنهم، ويجيب الملوك سؤالهم؛ لحاجتهم إليهم، فالذين أثبتوا مثل هذه الشفاعة عند الله: مشركون كفار؛ لأن الله -تعالى- لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه، بل من رحمته وإحسانه: إجابة دعاء الشافعين؛ ولهذا قال:. ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ﴾ ٤ وقال: ﴿أمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ ٥.
وقال عن صاحب يس ﴿أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُونِ﴾ ٦.
وأما الخوارج والمعتزلة ٧ فإنهم أنكروا شفاعة نبينا ﷺ في أهل الكبائر من أمته، وهؤلاء مبتدعة ضُلال مخالفون للسنة المستفيضة عن النبي ﷺ ولإجماع خير القرون.
﴿القسم الثالث﴾ أهل السنة والجماعة وهم سلف الأمة وأئمتها ومن اتبعهم بإحسان، أثبتوا ما أثبته الله في كتابه وسنة رسوله، ونفوا ما نفاه، فالشفاعة التي أثبتوها: هي التي جاءت بها الأحاديث.
وأما الشفاعة التي نفاها القرآن كما عليه
_________
١ سورة البقرة آية: ٢٥٥.
٢ سورة النجم آية: ٢٦.
٣ سورة آل عمران آية: ٨٠.
٤ سورة السجدة آية: ٤.
٥ سورة الزمر آية: ٤٣، ٤٤.
٦ سورة يس آية: ٢٣.
٧ هؤلاء هم القسم الثاني في الشفاعة.
1 / 607
المشركون والنصارى ومن ضَاهَاهُم من هذه الأمة، فينفيها أهل العلم والإيمان مثل: أنهم يطلبون من الأنبياء، والصالحين الغائبين والميتين قضاء حوائجهم ويقولون: إنهم إذا أرادوا ذلك قضوها، ويقولون: إنهم عند الله كخواصّ الملوك عند الملوك، يشفعون بغير إذن الملوك، ولهم على الملوك إِدْلالٌ يقضون به حوائجهم فيجعلونهم لله بمنزلة شركاء الملك، والله تعالى- قد نَزَّهُ نفسه عن ذلك. انتهى.
كلام ابن القيم في الشرك الأصغر والأكبر
وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: وأما الشرك فنوعان: أكبر وأصغر. فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، وهو أن يتخذ من دون الله ندا يحبه كما يحب الله، وهو الشرك الذي يتضمن تسوية آلهة المشركين برب العالمين. ولهذا قالوا لآلهتهم في النار:. ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ١ مع إقرارهم بأن الله هو الخالق وحده، خالق كل شيء ومليكه، وأن آلهتهم لا تخلق ولا ترزق، ولا تحيي ولا تميت، وإنما كانت هذه التسوية في المحبة والتعظيم والعبادة كما هو حال أكثر مشركي العالم؛ بل كلهم يحبون معبوديهم ويعظمونها ويوالونها من دون الله، وكثير منهم بل أكثرهم يحبون آلهتهم أعظم من محبة الله، ويستبشرون بذكرهم أعظم من استبشارهم إذا ذكر الله وحده.
ويغضبون إذا انتقص أحدٌ معبودَهم وآلهتهم من المشايخ أعظم مما يغضبون إذا انتقص أحدٌ ربَّ العالمين. وإذا انتقص حرمة من حُرُمَات آلهتهم ومعبوداتهم غضبوا غضب الليث إذا حرب، وإذا انتُهكت حُرُمَات الله: لم يغضبوا لها، بل إذا قام المُنْتَهِكُ لها بإطعامهم شيئا رضوا عنه، ولم تُنْكِر له قلوبهم، وقد شاهدنا هذا منهم نحن وغيرنا.
وترى أحدهم قد اتخذ ذكر إلهه ومعبوده من دون الله على لسانه، إن قام، وإن قعد، وإن عثر، وإن مرض، فذكر إلهه ومعبوده من دون الله هو الغالب على لسانه، وهو لا ينكر ذلك ويزعم أنه باب حاجته إلى الله وشفيعه عنده ووسيلته إليه، وهكذا كان عُبَّاد الأصنام سواء.
_________
١ سورة الشعراء آية: ٩٧، ٩٨.
1 / 608
وهذا القدر هو الذي قام بقلوبهم يتوارثه المشركون بحسب اختلاف آلهتهم؛ فأولئك كانت آلهتهم من الحجر، وغيرهم اتخذوها من البشر، قال تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ ١ ثم شهد عليهم بالكذب والكفر، وأخبر أنه لا يهديهم فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ ٢.
فهذا حال من اتخذ دون الله وليا، يزعم أنه يقربه إلى الله، وما أعز مَن يُخْلُصُ مِن هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي من أنكره، والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم: أن آلهتهم تشفع لهم عند الله، وهذا عين الشرك، وقد أنكره الله عليهم في كتابه، وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له، وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن رضي قوله وعمله، وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء- ثم ساق كلاما طويلا، وقرره أحسن تقرير.
فتأمل كلامه ﵀ وهذا حيث قرر أن الذي يفعله مشركو زمانه هو عين الشرك الذي فعله المشركون الأولون، ثم قال: وما أعز من يخلص من هذا، بل ما أعز مَن لا يعادي مَن أنكره، ففي هذا شاهدٌ لصحة الحديث الوارد عن رسول الله ﷺ أنه قال: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدا" ٣ وقوله فيما صح عنه ﷺ "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه" ٤ قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟ " خَرَّجَاه في الصحيحين.
كلام ابن تيمية في الشرك
وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية في الرسالة السنية، لما تكلم على الخوارج: فإذا كان في زمن النبي ﷺ وخلفائه ممن انتسب إلى الإسلام مَن قد مرق من الدين مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام في هذا الزمان قد يمرق أيضا،
_________
١ سورة الزمر آية: ٣.
٢ سورة الزمر آية: ٣.
٣ مسلم: الإيمان "١٤٥"، وابن ماجه: الفتن "٣٩٨٦"، وأحمد "٢/٣٨٩".
٤ البخاري: أحاديث الأنبياء "٣٤٥٦"، ومسلم: العلم "٢٦٦٩"، وأحمد "٣/٨٤،٣/٨٩،٣/٩٤".
1 / 609
وذلك بأمور منها: الغلو الذي ذمه الله كالغلو في بعض المشايخ كالشيخ عدي، بل الغلو في علي بن أبي طالب، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية، مثل أن يدعوه من دون الله، بأن يقول: يا سيدي فلان أغثني، أو أنا في حسبك، فكل هذا شرك وضلالة يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله أرسل الرسل، وأنزل الكتب ليُعْبَدَ وحده، ولا يجعل معه إله آخر، والذين يجعلون معه آلهة أخرى مثل الملائكة والمسيح والعزير والصالحين أو قبورهم لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق وترزق، وإنما كانوا يدعونهم يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فبعث الله الرسل تَنْهَى أن يُدْعَى أحدٌ من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استعانة. انتهى.
كلام ابن عقيل في الشرك
وقال أبو الوفاء ابن عقيل ﵀: لما صعبت التكاليف على الجُهَّال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع إلى أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم؛ إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور، وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد السُّرُج وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها بأمور: أن افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور وشد الرحال إليها، وإلقاء الخِرَق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى.
والويل عندهم لمن لم يقبل مشهد الكفر ولم يتمسح بالآجر يوم الأربعاء، ولم يقل الحَمَّالون على جنازته: الصديق أبو بكر أو محمد، وعليّ، أو لم يعقد على قبر أبيه أزجا بالجص والآجر، ولم يخرق ثيابه، ولم يُرِقْ ماء الورد على القبر. اهـ كلامه.
فتأمل رحمك الله- ما ذكره هذا الإمام وما كشفه من الأمور التي يفعلها الخواص من الأنام، فضلا عن النساء والغوغاء والعوام مع كونه في سادس القرون، والناس لما ذكره يفعلون، وجهابذة العلماء والنقدة لذلك مشاهدون، وحظهم من النهي مرتبته الثانية فهم بها قائمون، يتضح لك فساد ما زخرفه المبطلون ومَوَّهَ به المتعصبون والملحدون.
1 / 610
دعاء غير الله شرك لا كالحلف والطيرة
وأما قوله الثاني: ﴿إن نظر فيه من حيثية القول فهو كالحلف بغير الله، وقد ورد أنه شرك، وكفر، ثم أوَّلوه بالأصغر. وإن نظر فيه من حيثية الاعتقاد فهو كالطيرة، وهي من الأصغر".
فنقول: هذا كلام باطل، وليس يخفى ما بينهما من الفرق، فأيّ مشابهة بين من وَحَّدَ الله وعبده، ولم يشرك معه أحدا من خلقه، وأنزل حاجاته كلها بالله، واستغاث به في تفريج كُرُبَاته وإغاثة لهفاته، لكنه حلف بغير الله يمينا مجردة لم يقصد بها تعظيمه على ربه، ولم يسأله، ولم يستغث به، وبين من استغاث بغير الله، وسأله جلب الفوائد، وكشف الشدائد، فإن هذا صَرَفَ مُخَّ العبادة -الذي هو لبها وخالصها- لغير الله، وأشرك مع الله غيره في أجلّ العبادات وأفضل القُرُبَات التي أمر الله به في غير موضع من كتابه، وأخبر النبي ﷺ أنه هو العبادة كما تقدم في حديث النعمان بن بشير: " أن الدعاء هو العبادة" ١ وفي حديث أنس: "إن الدعاء مخ العبادة" ٢ وأخبر النبي ﷺ "أن الله يحب المُلِحِّين فيه"وأن "من لم يسأل الله يغضب عليه" ٣ وفي الترمذي عن ابن مسعود عن النبي ﷺ " سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يُسْأَل" ٤ وفيه أيضا: "إن الله يحب الملحين في الدعاء" وفيه أيضا: "من لم يسأل الله يغضب عليه" ٥ وفي الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ "ليس شيء على الله أكرم من الدعاء" ٦.
وأما الحلف فلم يأمرنا الله به بل أمرنا بحفظه فقال: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ ٧ قيل: المعنى لا تحلفوا، وقيل: لا تحنثوا، ولا يرد على هذا ما روي عن النبي ﷺ أنه حلف في مواضع، فإن اليمين تستحب إذا كان فيها مصلحة راجحة.
وعلى هذا حمل العلماء ما روي في ذلك عن النبي ﷺ فهو يحلف لمصالح مطلوبة للأمة، كزيادة إيمانهم وطمأنينة قلوبهم، كما أمره الله بذلك في ثلاثة مواضع
_________
١ الترمذي: تفسير القرآن "٢٩٦٩"، وابن ماجه: الدعاء "٣٨٢٨".
٢ الترمذي: الدعوات "٣٣٧١".
٣ الترمذي: الدعوات "٣٣٧٣"، وابن ماجه: الدعاء "٣٨٢٧".
٤ الترمذي: الدعوات "٣٥٧١".
٥ الترمذي: الدعوات "٣٣٧٣"، وابن ماجه: الدعاء "٣٨٢٧".
٦ الترمذي: الدعوات "٣٣٧٠"، وابن ماجه: الدعاء "٣٨٢٩".
٧سورة المائدة آية: ٨٩.
1 / 611