مقدمة
جرت عادة الأصحاب بذكر الإمامة في كتب علم الكلام، وفي أصول الدين، وعدت في بعض كتبهم أحد الأصول الخمسة. وليس لذلك وجه يظهر فإنها مسألة فروعية، وباب من أبواب الفقه بين علمي وعملي، وليس ينبغي أن يعد من فن الكلام إلا ما كان علما بالله عز وجل ذاته وصفاته، وأفعاله وأحكام أفعاله، والذي ينبغي أن نعتذر به لهم في ذلك وجهان:
أحدهما: أنها مسألة قطعية، لا يؤخذ فيها إلا بالعلم اليقين، والأدلة والبراهين، فألحقت بالفن الذي هذا حاله وهذه صفته.
وثانيهما: إظهار الاهتمام بهذه المسألة وتعظيم شأنها، وإنزالها من القلوب بمنزلة رفيعة، إذ هذا الفن أجل الفنون. فكما أدخل فيه وألحق به انسحب عليه حكمه، والعذر الأول لا تعويل عليه ولا إلتفات إليه ويستنكر من أن يلحق بعلم الكلام كل مسألة قطعية، من الفروع وأصولها وغيرها.
وأما العذر الثاني: فعذر حسن، وأحسن منه أن الإمامة لما كانت خالفة النبوة وقائمة مقامها، وبدلا منها حتى قضت الحكمة برفعها، وكانت النبوة من فن الكلام، وباب من أبواب كتاب العدل منه ذكرت في الفن الذي تذكر النبوة فيه، لكنه لما لم يكن لها تعلق بباب العدل ولا غيره من أبواب فن الكلام.
أخزت وذكرت بعد فراغ ذلك الكلام على أبواب ذلك الفن وحذي يذكرها فيه حذو ذكرها في فن الفقه حيث تذكر في آخره. والله سبحانه وتعالى أعلم.
Bogga 2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم. الحمد لله الذي جعل الإمامة ذروة للدين، وسناما وصلاحا لآراء العالم ونظاما، وناط بها قواعد من الشرائع وأحكاما، وجعلها للنبوة الهادية للخلق إلى الحق ختاما، ولشرعة سيد الأنام الفاصلة بين الحلال والحرام تكملة وتماما، والصلاة المتبعة إكراما وسلاما، على أشرف البرية ومن كان للرسل إماما.
وعلى عترته الذين ما زالوا لشرعته حفاظا وقياما، وعلى أصحابه الذين وفوا بنصرته وشمروا الساق في طاعته أزمانا وأعواما، وفزعوا إلى نصب من يخلفه في أمته ويتحمل أعباء شرعته قبل مواراته في حفرته إجلالا لأمر الرئاسة الدينية وإعظاما، (وبنوا لها) بمسيس الحاجة إليها واهتماما.
Bogga 3
وبعد فإنه لم يزل بعض أهل الولع بالتحقيق في العلوم الدينية ومن همه في سلوك منهج التدقيق يسألنا إملاء نبذة في مسألة الإمامة شافية، وبما أراد من تنقيح معانيها وافية، وكلما اعتذرنا عن ذلك بما نحن عليه من الشواغل المستغرقة للأذهان على مر الزمان في كل مكان لم يزدد إلا مبالغة في طلب الإسعاد، والتماس الإسعاف إلى ذلك المراد، فلم نر إلا الإجابة وعدم الابتعاد، وإن كانت الأوقات مشغولة، والقلوب من كثرة المشاق معلولة، وأيدي الأنظار المحررة مغلولة، فإعانة الله سبحانه وتعالى مأمولة، وإياه نسأل أن يثبتنا في الورد والصدر، وما نأتي وما نذر، وأن يوفقنا لإصابة الصواب، ويعصمنا عن الزيغ والارتياب، ونحن نأتي من أصول مسائل الإمام وفروعها، بما اقترح السائل ذكره والتمس تحقيقه وصدره، ورام منا إيضاحه ونشره، ما سبقنا إليه وما لم نسبق، وما حقق في غير إملائنا هذا وما لم يحقق، حسب ما يدخل في حيز الإمكان، والله تعالى المستعان. مع التزام الإنصاف والاغتراف من المورد الصاف، ورفع التعصب بالكلية، فليس لنا بمذهب وليس وراء الله للمرء مطلب.
Bogga 4
القول في حقيقة الإمامة وبيان ماهيتها
أما لغة فقيل: ض (عبد الله الدواري): الإمام المتقدم على غيره، في أمر من الأمور على حد يقتدي به فيه، ومنه إمام الصلاة سواء كان مستحقا لذلك أو غير مستحق، في هدى أو ضلال، وعلى الأول قوله تعالى{واجعلنا للمتقين إماما }[الفرقان: 74] وعلى الثاني{وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار }[القصص: 41] وقيل: المقتدي به في خير أو شر، ويجمع ذلك قوله تعالى{يوم ندعو كل أناس بإمامهم }[الإسراء: 71].
والتحقيق أن الإمام لغة مأخوذ من أمهم، وأم بهم إذا تقدمهم، وأنه أيضا الذي يقتدي به، ذكر المعنى الأول في (القاموس)، والآخر في (الصحاح)، ولا يزاد على هذا.
وحيث حصل المعنى أطلق اللفظ، فلا يحتاج إلى ذلك التفصيل، والإمامة صفة الإمام ووظيفته وهو كونه يقتدى به وكونه متقدما.
وأما اصطلاحا فقيل الإمام ي: (يحيى بن حمزة) رئاسة عامة لشخص من الأشخاص بحكم الشرع، وقيل ض(عبد الله بن حسن الدواري): رئاسته على كافة الأمة في الأمور الدينية والسياسية، على حد لا يكون لأحد عليه طاعة في ذلك ولا لأحد معه.
وقيل: (الإمام المهدي): رئاسة عامة لشخص واحد، يختص به أيضا أحكام مخصوصة على وجه لا يكون فوق يده يد.
قلت: والمعنى متقارب، والاحترازات فيما ذكر لا يعزب على ذي الذوق السليم، وفسر بأمراء السرايا، وهذان المعنيان ثابتان في حق الإمام.
Bogga 5
ويقال فيهم خلفاء الله في أرضه، وكلام جار الله شعر بجوازه، لأن المراد أن الله استخلفهم على الملك كمن استخلفه سلطان على بلد من بلاده وهو المراد بقوله تعالى في آدم -عليه السلام-: {إني جاعل في الأرض خليفة }[البقرة: 30] وفي داود -عليه السلام-{ياداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض }[ص: 26]ه والنووي حكى الخلاف في ذلك، بأن قال جوزه بعضهم بقوله تعالى: {هو الذي جعلكم خلائف الأرض }[الأنعام: 165]ومنعه الجمهور حكاه عن الماوردي وروي: أن رجلا قال لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- ه وأن عمر بن عبد العزيز أنكر على من قال له ذلك ولا يكون هذا إلا في آدم -عليه السلام-.
وداود لما ذكر فيهما. وذكر الهادي إلى الحق -عليه السلام- في (الأحكام)، أنه من كانت فيه شروط الإمامة فهو خليفة الله تعالى في أرضه.
قال: وبلغنا، عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، أنه قال: ((من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر من ذريتي فهو خليفة الله في أرضه، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله)).
Bogga 6
القول في الإمامة
مذهب جمهور علماء الإسلام أنها واجبة، وحكى عن الأصم وهشام الفوطي وبعض الحشوية، وبعض المرجئة، وبعض النجدات من الخوارج، أنها لا تجب رأسا، بل إن أمكن الناس نصب إمام عدل من غير إراقة دم، ولا إثارة حرب، فحسن ولا بأس به.
وإن لم يتهيأ ذلك وقام كل واحد بأمر منزله، ومن لديه من ذي قرابة وجار، فأقام فيهم الحدود ، وأجرى عليهم الأحكام، وكفى ذلك ولم يكن بهم حاجة إلى الإمام.
وأما إقامته بالسيف والحرب فلا يجوز، وحكي عن هشام الفوطي: إنه لا يجوز نصب الإمام في حال ظهور الظلمة، لما يخشى من نفورهم وتعرضهم له، وما لا يؤمن من إثارة الفتنة.
وأما مع عدم ذلك فينصب وجوبا، لإظهار شعائر الشريعة، وحكي عن الأصم، عكس هذا.
وأما النجدات من الخوارج فالحكاية عنهم متحدة بما سبق ذكره، والقائلون بالوجوب، اختلفوا فالبصرية ذهبوا إلى أنها تجب بطريق الشرع لا العقل.
وقالت الإمامية، والبلخي، والجاحظ، وأبو الحسين البصري، بل تجب عقلا وسمعا، وعن الإمامية عقلا فقط، ثم اختلف هؤلاء في طريق وجوبها عقلا.
فقالت الإمامية لكونها لطفا، فإن المكلف إذا عرف أن هنا إماما نصب لزجر من عصى، وعقوبته كان أقرب إلى فعل الطاعة، وتجنب المعصية، ممن لم يعرف ذلك.
Bogga 7
وقال النظام، والبلخي، وأبو الحسين البصري، طريق ذلك في أنه داخل في دفع الضرر المعلوم ووجوبه بالعقل لأن الناس مع كثرتهم، وتوفر دواعيهم إلى التعدي والظلم، لا يتكلف ذلك منهم إلا مع رئيس لهم له سلطان وأعوان، فيمتنعون لخوفهم إياه عن العدوان، ومعلوم أن في وجود السلطان وقوة شوكته، واستقامته، دفعا لهذه المضار في الغالب .
والمختار أن وجوبها لا يعلم إلا من جهة الشرع، وأنه لا مجال للعقل هنا، وأن اللطفية واندفاع الضرر غير معلومين ولا مظنونين.
وأنه كثير مما ينعكس ذلك، فيلون كثير من المكلفين، أبعد معها من الطاعة، وينفتح كثير من المضار الدنيوية، بسبب الإمامة.
قلت: ولم يزل يختلج في الخاطر إشكال ما ذكره الأصحاب من أمر الوجوب، وحقيقة ظاهر كلامهم إن الوجوب على الأمة، فهل الواجب تحصيل الإمام، ووجود الإمام في الخارج فهذا غير مقدور لهم، لأنه إذا فرض أن في الأمة واحدا أو اثنين، أو ثلاثة يصلحون للإمامة، ويجمعون شروطها.
فمن الجائز أن يمتنعوا عن التأهل لها، والقيام بتكاليفها، وليس في مقدور سائر الأمة فعلهم لذلك، بل إذا امتنعوا عن ذلك ولم يسعدوا إليه، لم يكن داخلا في إمكان سائر الأمة، ولا متصورا من جهتهم.
وإن كان المراد أن الواجب على الأمة(ص3) في ذلك والمبالغة، والإهتمام بأمره، سواء حصل أو لم يحصل، فالعبارة مشكلة، وكان الأليق على هذا أن يقال: يجب على الأمة إبلاغ الجهد، واستفراغ الوسع في نصب الإمام.
Bogga 8
وليس هذه العبارة بموجودة قط في شيئ من كتب علم الكلام، ولا في الفقه، وإن كان المراد: أنه يجب على من صلح للإمامة التأهل لها، إن كان واحدا ففرض عين.
وإن كانوا جماعة ففرض كفاية، ويجب على الأمة أن يعقدوا له، ويبايعوه وينصبوه، فهذا تفسير يقضى باختلاف معنى الوجوب في حق الأمة، فكان يليق أن يقال: يجب على من صلح للإمامة إن (يتأهل) لها، ويجب على سائر الأمة أن يعقدوها له ولو قبل هذا، إن لم تسعه، فإنما العقد من جماعة قليلة، وأشخاص معدودين من أهل العقد والحل، فكيف يجعل هذا واجبا على الأمة كلها.
وإن قيل: معناه إنه يجب على الأمة كافة، إجابته، وطاعته، ومتابعته، فهذا واجب آخر غير ما كنا بصدده، فالأمر كما ترى في تحقيق معنى الوجوب، والتحقيق المرجوع إليه أن الوجوب في هذه المسألة مختلف في حق الأمة، والصالح لها يجب عليه القيام والانتصاب، بعد حصول من يعقدها له، إذا قلنا طريقها العقد، ومع ظن الإجابة إن قلنا طريقها الدعوة، فهذا واجب على الصالح للإمامة، والواجب على المعتبر من خير الأمة، وأهل الحل والعقد منهم أن ينصبوه ويختاروه، وهو واجب كفاية، حيث كان الصالحون لذلك أكثر مما يحتاج إليه فيه.
والواجب على سائر الأمة أن يسلكوا طريقهم، ويتبعوا آثارهم، ويتابعوهم في ذلك، هذا حيث جعلنا طريقها العقد والاختيار.
وإن جعلنا طريقها الدعوة، فالواجب على الأمة إجابة الداعي الكامل، وطاعته،ومتابعته لا غير. والله عز وجل أعلم ه.
Bogga 9
وقد قيل: المهدي في مذهب الإمامة مرجعه، إلى أن الواجب في هذا هو على الله سبحانه، وهو أن يجعل لنا إماما ينص عليه، ويعلمنا بوجوب طاعته، كما أنه يجب أن يكلفنا بالشرعيات، التي هي لطف.
فإذا عرفت ذلك: فأحسن ما يحمل عليه القول بوجوب الإمامة، أنه يجب على المسلمين عموما الإهتمام بأمرها، والنظر في تحصيلها، على سبيل الجملة.
وأما التفصيل فعلى حسبما ذكرناه آنفا، والقصد أن يجري الناس على أسلوب ما كان عليه الصحابة -رضى الله عنهم- بعد موت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من الاهتمام الكلي، والفزع إلى نصب الإمام وإيثاره على تجهيزه -صلى الله عليه وآله وسلم- مع كونه من أهم الأمور، ومباشرة ذلك ينهى من الأعيان، والكبراء، وأهل الحل والعقد، وسائر الناس فرضهم العمل بما أبرموه واعتمدوه.
فهذا هو المعنى والمراد، ولا مشاجة في العبارة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم إنا نعود إلى تتميم الكلام، فيما كنا بصدده. فنقول: قد حققنا المذاهب في وجوب الإمام.
فأما المنكرون لوجوبها، فاحتجوا بأن الإمام بمنزلة الوكيل للأمة، وللموكل أن يتولى بنفسه ما وكل فيه من دون الوكيل.
وهذا احتجاج ركيك وليس الإمام بوكيل للأمة، ولا خليفة عنهم، وإنما هو خلفية لرسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-. وكمأمور لله تعالى، وأمين له، ومؤتمن على الدماء والأموال والأديان، وبإقامة الأدلة على وجوب الإمامة عليه يسقط هذا القول ويبين بطلانه.
وأما ذكر ما يحتج به القائلون، بأن وجوبها إنما يعرف بالعقل وحده، فبطلانه يتبين بإقامة الحجج الشرعية السمعية.
Bogga 10
وأما ما يحتج به القائلون بأن العقل طريق إلى وجوبها مع الشرع، فليس مما يهمنا ذكره إن صح ما زعموه فزيادته خير، وتقوية للوجوب، ومعين على المطلوب.
وإن لم يصح ففي الأدلة، الأدلة السمعية الشرعية، غنية وكفاية، وحججهم جميعا في الكتب المتداولة معروفة فمن رغب إلى الوقوف عليها، فليطالعها.
وأما الحجج التي يذكرها أهل المذهب المختار، فهي ثلاث:
الحجة الأولى: إجماع الصحابة على ذلك، فإنه لما توفي النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فزعوا إلى نصب إمام من غير تراخ منهم، آثروه على تجهيز رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولم يسمع من أحد منهم على شك ينازعهم في تعيين الإمام القول بأن هذا أمر لا حاجة بنا إليه ، ولا تكليف علينا فيه، ولا ملجئ لنا إلى هذا التنازع بل لم يختلفوا في النصب وإن اختلفوا في المنصوب.
الحجة الثانية: إن الصحابة أجمعوا على أن أمر الحدود إلى الإمام، وأن التكليف بها على سبيل الإستمرار إلى أن ينقطع التكليف، والخطاب بها ورد مطلقا غير مشروط بقيام إمام، وقامت الأدلة السنية، على أن الإمام شرط في ذلك، ووجوب تحصيل ما لا يتم الواجب إلا به، لأنه يجب كوجوبه.
الحجة الثالثة: إن المعلوم ضرورة من دينه -صلى الله عليه آله وسلم- أن الجهاد فرض واجب على الأمة، وأن وجوبه لم يسقط بموته -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن الإمام شرط في آدائه والقيام به، مع كون إقامة الإمام أمرا ممكنا للأمة.
Bogga 11
ويثبت بذلك وجوبه، فهذه الأدلة الثلاثة غاية ما يستدل به في هذه المسألة، ويعتمد عليه ولم يشر إلا إلى أصولها، ولها بسط وتفصيل وسياق، لمقدماتها واحتجاج عليها يطول شرحه، ونشره، فلم نر موجبا لاستيفائه هنا، إذ هي أمور معروفة متداولة، والقصد الاختصار، والله تعالى الموفق للصواب.
Bogga 12
القول في كون هذه المسألة قطعية
هذا هو مذهب الأكثر على ما حكاه الإمام المهدي أحمد بن يحيىعليه سلام الله ورضوانه، قال -عليه السلام: وزعمت الأشعرية، وبعض المعتزلة، أنها اجتهادية بناء منهم على أن أدلتها ظنية.
قلت: ولا يبعد أن أكثرهم القائلون إنها اجتهادية، فإنه لا ينقل عن أحد من طوائف الفقهاء وأتباع أئمتهم، القول بقطعيتها، وكلامهم فيها وقواعدهم تقضي بأنها عندهم من المسائل الظنية الاجتهادية.
واعلم: أن هذا الخلاف يذكر في وجوب الإمامة، والظاهر أن القائلين بقطعيتها يقولون بذلك في وجوبها، وغيره من مسائلها كشروطها، وأحكامها وطريقتها، والنص على بعض الأئمة وغير ذلك.
ويعدون الإمامة وتفاريعها من المسائل القطعية العلمية، وما كان فيها من عملي فمترب على علمي، وإدخالهم لها في فن الكلام، يدل على ذلك فأنه لا شيء منه ظني.
وأن القائلين بظنيتها دون ذلك، في جميع مسائلها، إذ لا يصح أن يكون فروعها قطعيه، وأصولها ظنية ولا ذلك، وهو كالعلم بالصفة ، مع العلم بالذات، فلا يصح أن يكون العلم بالذات استدلاليا، والعلم بالصفة ضروريا، ولا أن يكون اعتقاد الذات غير علم واعتقاد الصفة علما، وهذا أمر ظاهر. والله أعلم.
ونحن نقول وبالله التوفيق: هذه مسألة تحار فيها الأفهام، وتكثر فيها الأوهام، ومن حقق النظر فيها ازداد تحيره، وطال تفكره، فإن حكمنا على أدلتها بأنها ظنية، وأن المسألة اجتهادية، أدى ذلك إلى طرف من التهاون بأمرها، وتحقير ما عظمه الله تعالى من قدرها.
Bogga 13
مع كون هذه المسألة من قواعد الإسلام، وعليها يدار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو من أعظم أبواب الدين، وله بعثت الرسل عليهم السلام، وأنزلت الكتب، وعليها يترتب إذهاب النفوس، وإتلاف الأموال، وتجهيز الجنود وإنفاق أموال الله تعالى، وغير ذلك مما يطول ذكره ونشره.
وإن قلنا بأنها قطعية، وأنها من المسائل العلمية اليقينية، فقاعدة ذلك قيام البراهين الموصلة إلى العلم اليقين، المؤدية إليه، الموقفة عليه، وما سكنت النفوس إلى أن أدلة هذه المسائل من هذا القبيل الصريح، ولا وجدناها على ما يراد من التنقيح والتصحيح، ولا سليمة من ورود الإشكال، ولا خالصة عن التشكك بحال، والأدلة السمعية القطعية في القرآن الصريح، الذي هو نص، والسنة المتواترة تواترا حقيقيا، مع صراحة دلالتها، وخلوها عن اللبس، وكونها من قبيل النص والإجماع المتواتر المعلوم، والقياس القطعي الذي (لا) شك فيه.
فأما الدليل من الكتاب والسنة، على وجوب الإمامة فمنتف ولم يرد في آيات القرآن، ولا الأحاديث النبوية المتواترة صريحة الدلالة في هذه المسألة شيء.
وأما القياس فلا مدخل له هنا وأدلته المذكورة من قبيل الإجماع، ومرجعها كلها إليه، ومدارها عليه، وقطعية دلالة الإجماع، تنبني على أصليين لا بد أن يكونا قطعيين:
أحدهما: أدلة حجية الإجماع.
والثاني: تهيئ الطريق إلى حصوله.
Bogga 14
فأما أدلة حجيته: فهي مذكورة مشهورة، وفي إفادتها للقطع إشكال، لأن الذي استدل به في ذلك من الكتاب من قبيل الظواهر، التي دلالتها ظنية، والذي استدل به من السنة، أخبار أحادية والذي تكلفه ابن الحاجب وغيره.
واعتسفوا فيه من الاستدلال على الإجماع بالإجماع، أو ما يعود إليه، هو من قبيل ظن السراب ماء.
ولقد أتى ابن الحاجب مع كماله، وجلالة حاله، في هذا المعنى بما لا يروج ولا يلتفت إليه، وسلك فيه مسلكا بعيدا عن المنهج السوي، ولم يزل منذ طالعنا كتابه ودارسناه، نستهجن ذلك ونتعجب من عدم تنبيه شارحي كتابه، على عدم صوابه، وكوننا لم نقف على اعتراضه في ذلك، ولا تعرض أحد من المحققين لمنافسته، مع تداول الأيدي لكتابه.
واحتفال أهل المذاهب على اختلافها حتى وفق الله سبحانه للوقوف على كلام لبعض المحققين المعتبرين من المتأخرين، يتضمن تزييف ما ذكره، وتضعيف ما زبره وسطره، في هذا المعنى حتى كأنا أخذنا كلامنا عنه، أو أخذ كلامه عنا، فتأمل ما ذكرناه تأمل إنصاف، وأحط بما أشرنا إليه من جميع الأطراف، وما زلنا في هذه المسألة نقدم رجلا ونؤخر أخرى، ونمعن النظر فيما هو أولى وأحرى.
فإن نظرنا إلى الأدلة المذكورة، وتأملنا مقدماتها، وأردنا نظمها في سلك الأدلة القطعية، والبراهين اليقينية، وجدناها كما أشرنا إليه ونبهنا عليه.
Bogga 15
وإن حكمنا على تلك الأدلة بأنها ظنية، ورجعنا إلى أن هذه المسائل اجتهادية، فكيف هذا وعلى أي وجه يتقرر، مع كون هذه المسألة كما قدمنا ذكره من معظمات المسائل الدينية، وقواعد الأحكام الشرعية، وعليها يبنى أمر الجهاد الأعظم، الذي هو سنام الإسلام، وأفضل أنواع البر.
ومعظم ما بعث له النبي الأمين عليه وعلى آله أفضل الصلاة، وأزكى التحيات، واشتغل خاتم النبيين -عليه السلام-، وإليها مرجع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتجديد أمر الشريعة النبوية المطهرة، وصيانتها من كل خصلة رذلة، وإنصاف المظلوم من الظالم، والذب عن المناهي والمحارم.
ثم أنه خطر بالبال في هذا المعنى شيء مما يظهر به حال الإمامة ومحلها وعظم قدرها، وفخامة أمرها، وحاصله لذلك سبحانه جبل القلوب، وغرس فيها استعظام أمر الإمامة، وشدة الاحتفال بذلك.
Bogga 16
وذكر فيها أن هذا بشر له حال مزيد على حال أهل الرئاسة، والمملكة والسلطنة، وبعث الدواعي إلى الإتصال به، والإقتراب والتمسك منه، بسبب من الأسباب، فكم إمام راجح، زح الحال قليل المال، ذي لباس خشن، وطعام غليظ، ومنزل غير واسع، وقلة من الحفل والأعوان، ومكابدة المشاق والرقاق، وفي زمنه وبالقرب منه سلطان أو سلاطين، كل منهم ذو أبهة رائعة، ومملكة واسعة، وأموال زكية، وقصور عالية، وجنود وافية،ولباس ورواء يروق الناظرين، وأطعمه شهية لذيذة للوافدين، وقناطير مقنطرة، من الذهب والفضة، وغير ذلك من زهرة الحياة الدنيا ومحاسنها الغض، التي صارت القلوب إليها مقبلة، وبها مولعة، ولمثلها متمنية، ثم ترى الناس إلى ذلك الإمام الذي ذكرنا صفته وحاله أميل، وله أحب، ولأمره أشد تعظيما، وأبلغ تجليلا وتكريما، ويجد له من الموقع ما لا يكاد الوصف يحيط به دون من ذكر ممن هو ذو سلطنة، وحاله في الدنيا مستحسنة، ونجد كثيرا من الناس له علق بالإمام، وشغف به وغرام، وداره عنه نائية، فلا يعرفه، ولا يدري ما صفته، ولا ينال شيئا من معروفه، ولا يسمع شيئا من كلامه، ولا يطلع له على سبب مما يقتضى المحبة ويغرسها، سواء كونه إماما وكون انتصابه للإمامة نما إلى سمعه ومثل هذا لا يتفق لأحد من الملوك، ولو أنه حيزت له الدنيا بحذافيرها، وانتشرت مملكته في جميع أقطارها، وترى أعادي الإمام، وإن اشتدت عداوتهم له، ونكايتهم إياه، أو نكايته لهم، لا يخلون عن استعظام قدره، ولا يجحدون ما عظمه الله تعالى من أمره، ولا يخلون عن شجن ومخافة من عداوته، وترقب لسوء مغبتها، وترى منهم من يواصله سرا وظاهرا، ويرغب أن يكون له عبد، وتجد من ينتصب لعداوة الإمام ومعاندته، لا يخلو عن أهل أو ولد، أو ذي علقة بهم، يخالف ما هو عليه، وله محبة في جانب الإمام، وتعظيم له ومواصلة باطنه، واتصال إليه بسبب، ولم يحمله على ذلك كراهة من هو في جانبه، وترى أعوان الظلمة وأعيان جندهم، ووجوه أركان دولتهم، لا يقطعون أيديهم عن الإمام، ولا يخلون عن مواصلة كماله.
وأعجب من هذا ما يتفق من بعض الملوك أهل النخوة والتكبر والترفع من الخضوع للإمام، وإعظامه غاية الإعظام، والتذلل له ولرسله إليهم، ولمن له به أدنى علقة سبابه يستحيل منهم، أن يفعلوه لأعظم ملوك زمانهم، ويجد في قلوب الأخيار، والعلماء الأحبار، والزهاد الأبرار، من المحبة للإمام، والولع والإشتغال بأمره أمرا عظيما، لم يقدهم إليه هوى ولا غرض، ولا داع من دواعي الدنيا، ولا غرض مع تنوير قلوبهم وتصفيتها عن أدران الذنوب، وترى كثيرا من أهل المذاهب المخالفين لأهل هذا المذهب الشريف، المتحاملين عليه والمزورين عنه، ينسون أو يتناسون ذلك في حق الإمام غالبا، وأعيانهم وعلمائهم يعظمون الإمام غاية التعظيم، ويكرمونه غاية التكريم.
Bogga 18
ولو شرحنا ما وقفنا عليه في هذه الأنواع في حقنا، وعلمنا حقا متيقنا، لطال شرح ذلك، فهذه الأمور التي نبهنا عليها وأشرنا إليه، وغيرها مما تركنا ذكره، تدل دلالة واضحة على أن الإمامة لها سر عظيم، وشأن خطير، وأنها عند الله تعالى بمكان مكين، ومحل رفيع، وأنها ليست بمنزلة المسائل الاجتهادية الظنية، التي كل مجتهد فيها مصيب، والمقدم فيها والمحجم آخذ من الإصابة بنصيب.
ووجه آخر وهو: أن المتأمل لأمورها، وحال المترشح لها، الناهض بأعبائها، مطلع على أنه يحصل بالإمام من المصالح الدينية، والمطالب المرضية، وحراسة الدين الحنيف، والعلم العظيم الشريف، ونفع المسلمين، وقمع الظالمين، وجنود الدين، وإيغار صدور المعتدين، ما لا يكاد تخطر سعته وكثرته ببال، ومن تأمل حال الأمة ومساعيهم، وما تشتمل عليه الأوقات والساعات، من أعمالهم وأقوالهم، وخطابهم وكتابهم، وجد من ذلك ما يشفي الصدور، ويدل على الحظ الموفور، وإن ذلك لو لم يكن لكان سببا في الاختلال، وتناقض الأحوال، والمصالح التي يشتغل بها الإمام، ويعتني بها الاعتناء التام، ويقطع فيها الليالي والأيام، والشهور والأعوام، لو أخذنا في ذكرها ونشرها وتفصيلها وتحصيلها استوعبت كثيرا من الأوراق، ولطال فيها المشاق، وخرجنا عما نحن بصدده من الإيجاز، والتحفظ عن إرخاء القلم والإحتراز، ولا ينبئك مثل خبير.
وبالجملة فأئمة الهدى حقا مما قيل (خلفاء الله في أرضه، وأمناه على خلقه، وحراس دينه، وحفظة شريعته، وملجأ بريته).
Bogga 19
ولو أن إماما تناهي به ضعف الشوكة، وقلة الجهد، وعدم انبساط اليد إلى أن يقف بأعلى جبل عال، لا يمد ولا يقبض، ولا يبرم ولا ينقض، مع كماله في نفسه، وجمعه لشرائط الإمامة وكونه لم يؤت في ذلك من سوء تدبير، ولا زهد في الخير ولا تقصير في السعي لكان للمسلمين فيه خير كثير، ونفع كبير، يرجعون إليه في المهمات، ويصدرون عنه في كثير من التصرفات، ويكونون الأمور المركبة على الإمامة أهل استقرار وثبات.
قال بعض الفضلاء من السادة، لإمام زمانه وقد كثرت حركاته واقتحامه لأخطار الأسفار ما معناه: ترجيح السكون، وعدم تعريض النفس للذهاب، أن يقال للمسلمين ولو (و) قع السكون والوقوف رأس جبل عال ليس بقليل، وهو أرجح من فوائد الإحتراك مع تجويز الهلاك.
ووجه آخر: وهو أنك تجد لأئمة الهدى من التنويرات والكرامات، وإجابة الدعوات، والحالات الدالة على عظم المكانة عند الله تعالى ما يهدي إلى شرف هذه المنزلة، وعلو هذه الدرجة، وأن هذا ليس بموكول إلى نظر الناظر، واجتهاد المجتهد، ولا بحال يستوي فيه المحتفل والمهمل، والناهض والرافض، والمحب والباغض، والنافي والمثبت، والملتزم والمتلعب، وأن هذه المسألة ليست كمسألة المضمضة والاستنشاق، وغسل الرجلين ومسحهما، ونحو ذلك من المسائل الظنية والإجتهادية، التي درجتها بالنظر إلى غيرها غير عليه.
Bogga 20
وغير بعيد أن يستهجن كثير ممن يقف على كلامنا هذا، جعلنا هذه الوجوه طريقا إلى عظم شأن هذه المسألة ومخرطة لها عن حيز المسائل القليلة الخطر، ومنهجا إلى إلحاقها بالمسائل الجليلة القدر، العظيمة الشأن، التي يصير بها من لم يصب جادة الصواب فيها ويسلكها من الآثمين بل من الظالمين وسبب الاستهجان كون هذه المشاق مما لم يسبق إليه.
ولا يطرق الأسماع وكأنه قريب الميلاد، والنفوس تنفر عما لا تألفه وتعتاده، وإلا فمن أنصف وجانب التكبر بما تعجرف، وتأمل ما هداه الدليل إليه من سواء السبيل وتعرف.
وجده كلاما حسن المعاني، قوي المباني، وهذا شيء دعانا إليه ما تيقناه من عظم أمر الإمامة وحالها ومحلها، وارتفاع منزلتها ودرجتها، مع كون أدلتها ليست بذلك.
فقد ورد عليها أسئلة مشكلة من أراد الإطلاع على تحقيقها، والوقوف على غاية ما قيل فيها، فليطالع المراسلة الدائرة فيها، بننا وبين حي الفقيه الأفضل جمال الدين علي بن محمد البكري رحمه الله تعالى، فإنا وإياه أشبعنا فيها الفصل، وأتينا بما له على ما ذكره غيرنا في ذلك فضل.
وكذلك شرح مقدمة الكلام من كتاب (البحر) لمصنفه قدس الله تعالى وجهه وروحه، فإنه بسط في ذلك ووسع المسالك، فجزاه الله تعالى خيرا.
Bogga 21
تنبيه: تعرف مما ذكرناه ونشرناه أن الإمام من مصالح الدين العظيمة، وخيراته العميمة، وهو أمر لا ينبغي أن يعدل عنه ولا أن يستراب فيه، وعليه نص الشيخ أبو علي، وقاضي القضاة، وعزا إلى الشيخ أبي هاشمالقول: بأنه من مصالح الدنيا، والأمور المتعلقة به كلها دنيوية فحكمه في ذلك كحكمها، وكان مثل هذا الشيخ جدير بأن لا يصدر عنه مثل هذا القول ولا يحوم حوله، والله سبحانه أعلم.
Bogga 22