Cilm Adab Nafs
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
Noocyada
فالسرور الأول حدث مع حدوث الغاية، والثاني لم يحدث بعد وإنما نحن ننتظر حدوثه، فهل نشعر به ؟ نعم، نشعر به في الحالة الثالثة؛ أي نشعر به في تصورنا لحدوثه.
فهل الشعور نفسه حين حدوثه يختلف عن الشعور به حين تصوره واقعا أو حين توقعه؟ أجل يختلفان من حيث الحدة، وفي كثير من الظروف يكون السرور بتوقع حدوثه أشد منه حين حدوثه، وفي كثير من الأحوال ينتهي السرور حين تبلغ الغاية. (1-3) السرور غير الغاية طبعا
فمما تقدم يتضح لك أن الغاية ليست السرور بعينه؛ لحدوث السرور قبل حدوثها كما رأيت، وإنما هذه الحقيقة تخفى علينا لأننا ألفنا السرور متفقا مع الغاية، ولو فطنا إلى أن كثيرا من الأفعال نفعلها قبل أن نختبر غايتها لنعلم إن كانت سارة أو لا؛ لاقتنعنا بأن الغاية شيء، والسرور شيء آخر.
الغاية دفعت إليها الغريزة لحاجة الجسد أو النفس إليها؛ فالطفل لم يرضع ثدي أمه لأول مرة بغية لذة الشبع، وإنما الغريزة دفعته إلى رضاعة الثدي؛ لأن وظيفتها دفعه للفعل في سبيل حياته وبقائه، والطفل يبكي لا لأنه جائع ويتألم من الجوع - فقد يكون شبعان - وإنما يبكي لأن الغريزة تدفعه للبكاء لكي يحرض حنو أمه لإرضاعه، والحيوانات لا تتزاوج لأول مرة لأنها تتوقع لذة في المزاوجة، بل الغريزة تدفعها إليها لأجل بقاء النوع.
فبعدما اختبر الإنسان - والحيوان أيضا - أن الاندفاع في العمل بمقتضى تحريك الغريزة يمنحه لذة، صار يندفع هذا الاندفاع توخيا للذة، ولكن الغريزة لم ترم إلى اللذة، بل إلى النفع الحيوي، ترمي إلى نمو الفرد، وبقاء حياته، وبقاء نوعه. وإنما الطبيعة قرنت هذه الغاية بلذة لكي تغريه على الاندفاع في الفعل، فالغاية القصوى من الفعل ليست السرور، وإنما جاء السرور معها ومع الفعل توقعا له، كدليل على أن ما يندفع في فعله إنما هو حسن له، وصالح لبقائه وحياته ونجاحه إلخ، فالسرور حركة نفسانية سيكولوجية، والغاية أو الغرض حركة حيوية بيولوجية. (1-4) هل اللذة هي الغاية القصوى؟
بعد هذا البيان ترى أن نظرية الفريق الثاني القائل بأن الغاية تختلف عن السرور إنما هي نظرية وجيهة، ولكن الفريق الأول؛ أي السروريين، مع ذلك يصرون على أن الغاية القصوى هي السرور بعينه؛ لأنه متى لم يتوقع الإنسان سرورا من فعل فلا يندفع فيه. وإذا كانت الطبيعة قد جعلت اللذة مغريا للإنسان لكي يندفع في الفعل لأن غرضها حفظ الحياة وبقاء النوع؛ فالإنسان لا يكترث بتنفيذ غرض الطبيعة، بل يترك الطبيعة تفعل فعلها وهو يتوخى لذته؛ لذلك هو يرمي في كل أفعاله إلى الحصول على لذة، فهي غايته القصوى.
وهذه النظرية وجيهة أيضا لأدلة عديدة، فالإنسان يسعى إلى ادخار المال لا لأنه في حاجة إليه، بل لأنه يستلذ التنعم به، وقد يكون ترفه مفضيا إلى عكس الغرض الذي ترمي إليه الطبيعة؛ قد يمرض ويموت عاجلا، فكأن الثروة التي أفضت إلى رفاهيته وترفه كانت سيئة العاقبة له. وقد يعلم ذلك جيدا، ويفهم من اختباره بغيره أن الانغماس في شهوته يقصر عمره، فهو يريد الحياة عريضة قصيرة؛ لأنه يبتغي اللذة لنفسها، لا البقاء والحرص على الحياة.
كذلك فاعل الخير وخادم الإنسانية لا يتوخى من وراء فعله خيرا لنفسه، بل تمتعا بسرور الضمير بلذة الشهرة والمجد، كذلك الفنان يستسلم للعمل في الفن الجميل؛ كالشعر أو الموسيقى، وهو يعلم أنه فقير قليل التمتع بأطايب الحياة، وأن الفن لا يغنيه، ولكنه يجد لذة في فنه.
فاللذة هي الغاية القصوى من الفعل الذي يرمي به الإنسان إليها، ولا غاية له سواها، فهي مصاحبة الخلق المحرك للفعل منذ بدء النبضة الغريزية؛ أي استفزاز التعقل للتدبر والتدبير، إلى الاندفاع في الفعل إلى النهاية. وإذا كانت اللذة تنتهي عند الوصول إلى الغرض؛ فلأن الفعل انتهى، وانتهت بنهايته اللذة؛ لأنها كانت مصاحبة له، وإنما هي المقصودة من الفعل؛ ولهذا يعد تصور وقوعها محركا للفعل، أو على الأقل مصاحبا للخلق الغريزي الذي نبض لتحريك الفعل.
مع ذلك يعلل الفريق الثاني هذه الأمثلة المتقدمة وأمثالها بأن غرض الحرص على الحياة، أو تلبية الحاجة التي قضت بها الطبيعية كامن في الفعل؛ فالإنسان مهما كان يتوخى اللذة فلا يغفل عن الحرص على حياته وبقائه كغاية قصوى، بدليل أن المنغمس في شهواته لأجل التمتع باللذات متى ساءت عاقبة انغماسه، وشعر أنه أخطأ ولم يختر الحسن الصالح لنفسه، علم أن اللذة ليست الغرض الأول، بل الحياة والبقاء هما الغرض، وما اللذة إلا أمر مصاحب للفعل. واختيار الفعل الأصوب، ولو كان أقل لذة، إنما هو من وظيفة التعقل، فالتعقل خانه. (1-5) أدبية الفعل فصل الخطاب
Bog aan la aqoon