Charles Darwin: Noloshiisa iyo Waraaqihiisa (Qaybta Koowaad): Iyada oo ay ku jirto Cutub Is-biograafi ah oo uu Qoray Charles Darwin
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول): مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين
Noocyada
تقديم
1 - عائلة داروين
2 - سيرة ذاتية
3 - ذكريات من حياة والدي اليومية
الخطابات
4 - الحياة في كامبريدج
5 - تعيين أبي في رحلة «البيجل»
6 - الرحلة
7 - لندن وكامبريدج
8 - الدين
Bog aan la aqoon
9 - الحياة في داون
10 - تطور كتاب «أصل الأنواع»
11 - تطور كتاب «أصل الأنواع»: الخطابات، 1843-1856
12 - الكتاب غير المكتمل
13 - كتابة كتاب «أصل الأنواع»
14 - بقلم البروفيسور هكسلي
ملاحظات
تقديم
1 - عائلة داروين
2 - سيرة ذاتية
Bog aan la aqoon
3 - ذكريات من حياة والدي اليومية
الخطابات
4 - الحياة في كامبريدج
5 - تعيين أبي في رحلة «البيجل»
6 - الرحلة
7 - لندن وكامبريدج
8 - الدين
9 - الحياة في داون
10 - تطور كتاب «أصل الأنواع»
11 - تطور كتاب «أصل الأنواع»: الخطابات، 1843-1856
Bog aan la aqoon
12 - الكتاب غير المكتمل
13 - كتابة كتاب «أصل الأنواع»
14 - بقلم البروفيسور هكسلي
ملاحظات
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول)
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الأول)
مع فصل سيرة ذاتية بقلم تشارلز داروين
تحرير
فرانسيس داروين
ترجمة
Bog aan la aqoon
الزهراء سامي
دينا عادل غراب
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
تشارلز داروين في عام 1874 (؟). بإذن من مجلة «سينتشري ماجازين».
تقديم
عند اختيار الخطابات الملائمة للنشر، كان الدافع الذي يوجهني إلى حد كبير هو الرغبة في توضيح طبيعة شخصية والدي. غير أن حياته كانت حافلة بالعمل وقد كرسها له بصفة أساسية؛ فلم يكن من الممكن أن نسرد تاريخ الرجل دون أن نقتفي عن كثب أثر حياته العملية كمؤلف؛ ومن ثم، فإن الجزء الأكبر من هذا الكتاب عبارة عن فصول تناظر عناوينها أسماء كتبه.
وعند ترتيب الخطابات، حاولت أن ألتزم بالتسلسل الزمني لها قدر الإمكان، لكن طبيعة أبحاثه وتنوعها تجعل من الالتزام التام بهذا أمرا مستحيلا؛ فقد كانت عادته أن يبحث في موضوعات متعددة في الوقت نفسه تقريبا. وغالبا ما كان يجري تجاربه على سبيل التنويع أو تنشيط ذهنه، بينما كان يعكف على كتابة الكتب التي تنطوي على التسويغ المنطقي وتجميع عدد هائل من الحقائق وترتيبها. وعلاوة على ذلك، فقد توقف عن العمل في العديد من أبحاثه ولم يستأنفه إلا بعد عدة سنوات؛ ومن ثم، فسوف نجد أن الالتزام التام بالتسلسل الزمني في عرض الخطابات، لن ينتج لنا سوى مزيج مختلط ومتنوع من الموضوعات المختلفة، التي سيصعب متابعة كل منها. وسوف يوضح جدول المحتويات ما قد حاولت القيام به لكي أتفادى مثل هذه النتيجة.
لقد اتبعت في عرض الخطابات الطريقة المعتادة في الإشارة إلى وجود حذف أو إضافة (وذلك باستثناء حالات قليلة). والواقع أن خطابات والدي كثيرا ما تعطي قارئها انطباعا بأنه قد كتبها على عجل أو كتبها وهو مرهق، وهي تحمل علامات على ذلك. وكثيرا ما كان يحذف أدوات التعريف والتنكير وكلمات الربط القصيرة حين كان يكتب إلى صديق أو إلى أحد أفراد العائلة، وقد أضفتها بدون ذكر الإشارات المعتادة على ذلك، فيما عدا حالات قليلة؛ فثمة أهمية خاصة للحفاظ على طبيعة التعجل التي تتضح في الخطاب، دون أن يجرى المساس بها. ولم أتبع في هذه الخطابات تنسيق الخطابات الأصلية من حيث الالتزام بتهجي الأسماء أو استخدام الحروف الكبيرة أو علامات الترقيم. وكذلك كان والدي يضع خطا تحت العديد من الكلمات في خطاباته، غير أنني لم أميزها كلها في الكتاب؛ إذ إن ذلك سيؤدي إلى المبالغة في التأكيد عليها بغير وجه حق.
لقد كانت لمفكرته اليومية أو لمفكرة جيبه والتي وردت فيها الاقتباسات التي سيلي ذكرها في الصفحات التالية، فائدة عظيمة؛ إذ أمدتنا بإطار من الحقائق يمكن تصنيف الخطابات إلى مجموعات وفقا لها. ومن سوء الحظ أنها قد كتبت باختصار كبير؛ فتجد تاريخ عام كامل وقد تكدس في صفحة أو أقل، وهي لا تتضمن سوى تواريخ الأحداث الأساسية في حياته أو أكثر قليلا، مع بعض الإدخالات المرتبطة بعمله، وكذلك بتلك الفترة التي كان يعاني فيها من مرض شديد. لم يؤرخ أبي خطاباته إلا نادرا؛ لذا، فلولا تلك المفكرة، لما تمكنا من معرفة تاريخ كتبه. كما أنها قد مكنتني أيضا من تحديد تواريخ العديد من خطاباته، والتي لولاها لكانت قد فقدت نصف قيمتها.
Bog aan la aqoon
أما الخطابات الموجهة إلى والدي، فلم أعرض منها الكثير؛ فقد كانت عادته أن يحتفظ بجميع الخطابات المرسلة إليه في ملفات صغيرة (وهي التي كان يدعوها باسم «الأسياخ»)، وحين كانت تمتلئ عن آخرها، كان يحرق خطابات سنوات عديدة، لكي يستخدم «الأسياخ» الفارغة. وقد استمر في فعل ذلك على مدى سنوات تخلص فيها من الغالبية العظمى من الخطابات التي تلقاها قبل عام 1862. أما بعد ذلك، فقد أقنعه البعض بأن يحتفظ بالخطابات المهمة والمثيرة، والتي قد جرى حفظها بطريقة يسهل الوصول إليها.
حاولت في الفصل الثالث أن أقدم صورة عن أساليبه في العمل؛ فلقد عملت مساعدا له في السنوات الثماني الأخيرة من حياته، مما أتاح لي الفرصة للتعرف على بعض عاداته وأساليبه.
لقد تلقيت مساعدات جمة من أصدقائي في أثناء عملي على هذا الكتاب؛ فأنا مدين لبعضهم بعرض ذكرياتهم مع والدي، ولآخرين بإمدادي بالمعلومات والنقد والنصيحة؛ فإلى جميع هؤلاء الذين قدموا المساعدات، أقر بما لهم من فضل كبير. وسوف أذكر أسماء بعضهم حين يرد ذكر مساهماتهم، غير أنني لن أذكر أسماء من أدين لهم بفضل فيما يتعلق بالنقد وتصويب ما ورد من أخطاء؛ ذلك أنني أريد أن أتحمل وحدي مسئولية أخطائي، فلا أدع أي جزء منها يقع بأي حال من الأحوال على عاتق هؤلاء الذين قد بذلوا قصارى جهدهم للحد منها وتصويبها.
وسوف يتضح للقارئ مقدار ما أدين به من فضل إلى السير جوزيف هوكر، لما قدمه من وسائل قد ساعدت في تصوير حياة والدي. وأعتقد أن القارئ أيضا سيشعر بالامتنان للسير جوزيف لما أولاه من عناية لحفظ مجموعته القيمة من الخطابات، كما أنني أود أن أعبر عن شكري وتقديري لكرمه لوضع هذه الخطابات تحت تصرفي، وكذلك لما أمدني به من عطف وتشجيع على مدى عملي.
كما أنني أدين بالشكر إلى السيد هكسلي، ليس فقط لما قدمه لي من مساعدة كبيرة، وإنما أيضا لأنه قد تفضل بقبول طلبي في أن يساهم بكتابة فصل عن الاستقبال الذي حظي به كتاب «أصل الأنواع».
وأخيرا، فإنه يسعدني أن أتقدم بالشكر والتقدير لما أظهره ناشرو مجلة «سينتشري ماجازين» من لطف وفضل؛ إذ أتاحوا لي كامل الحرية في استخدام رسوماتهم التوضيحية. كما أنني أدين بالشكر إلى كل من السيدين مول وفوكس، والسيدين إليوت وفراي؛ إذ كان لطفا منهم أن سمحوا لي بعرض نسخ من صورهم.
فرانسيس داروين
كامبريدج
أكتوبر، 1887
الفصل الأول
Bog aan la aqoon
عائلة داروين
توضح السجلات الأقدم للعائلة أن أفرادها كانوا من ملاك الأراضي الكبار الذين يعيشون على الحدود الشمالية لمقاطعة لينكنشير، بالقرب من يوركشاير. لقد أصبح الاسم نادرا للغاية في إنجلترا، لكنني أعتقد أنه معروف في أنحاء شيفيلد ولانكشاير. وفي عام 1600، نجد أن الاسم صار يكتب بطرق عدة مثل: درونت ودارون ودارويين وغير ذلك؛ لذا فمن الممكن أن تكون العائلة قد انتقلت في وقت ما غير معلوم من يوركشاير أو كامبرلاند أو ديربيشاير، حيث يوجد نهر يسمى درونت.
إن أول من نعرفه من الأسلاف هو ويليام داروين، وقد كان يعيش في مارتون بالقرب من جينزبوره عام 1500 تقريبا. وورث حفيده الأكبر ريتشارد داروين بعض الأراضي في مارتون وغيرها، وفي وصيته التي يعود تاريخها إلى عام 1584، نجد أنه قد «خصص مبلغا قدره ثلاثة شلنات وأربعة بنسات للمساهمة في دفع النفقات اللازمة لتعليق شعار النبالة الخاص بجلالة الملكة على باب المكان المخصص لجوقة الإنشاد في الكنيسة الرعوية في مارتون.»
يبدو أن ويليام داروين، نجل ريتشارد، والذي وصف بأنه «رجل نبيل»، كان رجلا ناجحا؛ فلقد حافظ على ملكية الأرض التي ورثها من أسلافه، وكذلك حاز ضيعة، عن طريق الشراء ومن خلال زوجته، في كليثام بأبرشية مانتون بالقرب من كيرتون لينزي، واستقر هناك. وظلت هذه الضيعة ملكا للعائلة يتوارثها أجيالها حتى عام 1760. ولم يتبق من أثر هذه الضيعة التي تدعى أولد هول سوى كوخ سميك الجدران وبعض برك الأسماك والأشجار القديمة، ولا يزال بتلك المنطقة حقل يسميه أهلها باسم «حقل داروين الخيري»؛ إذ خصص جزء من عائداته لصالح فقراء مارتون. لا بد أن ما ناله ويليام داروين من ترق في مكانته الاجتماعية يعود الفضل فيه، ولو جزئيا، إلى المنصب الذي كلفه به الملك جيمس الأول عام 1613؛ إذ عينه حارسا بمستودع الأسلحة الملكي في جرينتش. لم يكن المقابل المادي لهذه الوظيفة يزيد عن ثلاثة وثلاثين جنيها في العام، أما الواجبات، فالأرجح أنها كانت شكلية فحسب، وقد احتفظ بهذا المنصب حتى وفاته في أثناء الحروب الأهلية.
إن حقيقة أن ويليام هذا كان موظفا ملكيا قد تفسر لنا السبب في أن ابنه، الذي يسمى ويليام أيضا، قد التحق بخدمة الملك وهو لا يزال صبيا، فانضم إلى فرقة الفرسان التابعة للسير ويليام بيلم، برتبة «ملازم أول». وعند التسريح الجزئي للجيوش الملكية، وتراجع الجزء المتبقي منها إلى اسكتلندا، صادر البرلمان أملاك الصبي، لكنه استعادها مجددا بعد توقيعه على اتفاق «التحالف والعهد»، وبعد أن دفع غرامة لا بد أنها قد أثرت في أوضاعه المالية تأثيرا بالغا؛ ففي الالتماس الذي تقدم به إلى الملك تشارلز الثاني، نجد أنه يتحدث عما حل به من خسارة كبيرة جدا جزاء إخلاصه للقضية الملكية.
وفي أثناء فترة الكومنولث، أصبح ويليام داروين محاميا في جمعية لينكن للحقوق، ولعل ذلك هو ما أفضى إلى زواجه بابنة إيرازموس إيرل، الذي كان محاميا من الدرجة الأولى، والذي أخذ منه حفيده الأكبر، الشاعر إيرازموس داروين، اسمه الأول. وفي النهاية، أصبح قاضيا لمدينة لينكن.
أما الابن الأكبر لهذا القاضي، الذي سمي ويليام هو الآخر، فقد ولد في عام 1655 وتزوج بوريثة روبرت وارينج، الذي هو سليل عائلة جيدة من مقاطعة ستافوردشير. وقد ورثت هذه السيدة من عائلة لاسيلس ضيعة إلستون، التي تقع بالقرب من نيوارك، والتي احتفظت العائلة بملكيتها منذ ذلك الوقت. (تولى النقيب لاسيلس من إلستون، منصب كبير مساعدي منك، دوق ألبيمارل، خلال الحروب الأهلية.) إن ابن عمي فرانسيس داروين، يمتلك الآن مجموعة كبيرة من دفاتر الحسابات الممهورة في أماكن عديدة بتوقيع منك. وقد تكون لهذه الدفاتر أهمية خاصة لدى خبراء الأثريات أو المؤرخين، وهي تتضمن صورة شخصية للنقيب لاسيلس، مرتديا زيه العسكري، وهي التي كانت لا تزال بحالة جيدة بالرغم من أن صبيان عائلتنا كانوا يستخدمونها في وقت من الأوقات، كهدف للتدريب على الرماية. ويبدو ويليام داروين في هذه الصورة الشخصية وهو في إلستون، شابا حسن المظهر يرتدي شعرا مستعارا طويلا.
كان لويليام الثالث هذا ولدان، وهما ويليام وروبرت الذي تلقى تعليمه ليصبح محاميا. ورث ويليام ضيعة كليثام، غير أنه قد انقطع نسله من الورثة؛ إذ إنه لم ينجب سوى البنات، وآلت إلى أخيه الأصغر، الذي حصل على ضيعة إلستون كذلك. وعند وفاة والدته، تخلى روبرت عن مهنته واستقر بعد ذلك في ضيعة إلستون هول. وعن روبرت هذا، يكتب تشارلز داروين (ما يلي مقتبس من السيرة الذاتية التي كتبها تشارلز داروين عن جده، كإعلان أولي عن المقال الشائق الذي كتبه إرنست كراوز بعنوان «إيرازموس داروين»، لندن، 1879، صفحة 4): «يبدو أنه كان مهتما بالعلوم؛ فقد كان من الأعضاء الأوائل في نادي سبولدينج الشهير. وقد كتب عنه خبير الآثار المرموق، الدكتور ستوكلي، في كتابه «تقرير عن الهيكل العظمي شبه الكامل لحيوان كبير ...» الذي نشره على أجزاء في مجلة «فيلوسوفيكال ترانزاكشنز» على مدى أبريل ومايو عام 1719؛ فهو يبدأ كتابه بما يلي: «لقد عرفت من صديقي روبرت داروين، المحامي بجمعية لينكن للحقوق، وهو رجل تواق إلى المعرفة، بوجود هيكل عظمي بشري متحجر، عثر عليه كاهن إلستون مؤخرا ...» ويتحدث ستوكلي بعد ذلك عن هذا الهيكل على أنه اكتشاف نادر وعظيم للغاية، فيكتب: «لم أسمع قط عن مثيل له قد اكتشف من قبل في هذه الجزيرة.» وبناء على إحدى الصلوات التي كتبها روبرت وتناقلتها العائلة من بعده، يبدو لنا أنه كان من أشد المناصرين للاعتدال في الشراب، الذي قد ظل ولده من أشد المناصرين له طوال حياته كذلك:
من صباح لا يشرق بالنور،
ومن ابن يشرب النبيذ،
Bog aan la aqoon
ومن زوجة تتحدث اللاتينية،
اللهم احمني، وأنقذني!
من المحتمل أن تكون زوجته، أم إيرازموس، هي المقصودة بالسطر الثالث؛ فقد كانت على قدر عال من المعرفة. وقد ورث الابن الأكبر لروبرت، والذي عمد باسم روبرت وارينج، ضيعة إلستون، وتوفي هناك وهو في سن الثانية والتسعين، وكان لا يزال عزبا. كان روبرت متذوقا جيدا للشعر، كأخيه الأصغر إيرازموس. كما أنه كان يهتم بعلم النبات، وفي أيام كهولته، نشر كتابه «مبادئ علم النبات». كانت مخطوطة هذا الكتاب قد كتبت بخط رائع، وقد ذكر أبي [الدكتور آر دابليو داروين] أنه يعتقد أنها قد نشرت لأن عمه الأكبر لم يحتمل أن يذهب ذلك الخط البديع سدى. والحق أن ذلك لا يفي الكتاب حقه على الإطلاق؛ إذ كان يتضمن العديد من الملاحظات الشائقة في علم الأحياء، وهو الذي كان من الموضوعات المهملة تماما في إنجلترا في القرن الماضي. بالإضافة إلى ذلك، حظي الكتاب بإعجاب جمهور القراء؛ إذ إن النسخة التي أمتلكها من الطبعة الثالثة له.»
ورث الابن الثاني، ويليام ألفي، ضيعة إلستون، ثم انتقلت ملكيتها إلى حفيدته، وهي الراحلة السيدة داروين، صاحبة ضيعتي إلستون وكريسكيلد. أما الابن الثالث، جون، فقد أصبح كاهن إلستون، حيث إن تعيين الكاهن كان من ضمن سلطات العائلة. وأما الابن الرابع والأصغر، فهو إيرازموس داروين، الشاعر والفيلسوف.
ويوضح المخطط التالي، انحدار تشارلز داروين من روبرت وكذلك علاقته بغيره من أفراد العائلة الذين يرد ذكرهم في مراسلاته. ومن هؤلاء: ويليام داروين فوكس، وهو أحد مراسليه الأوائل، وفرانسيس جالتون، الذي جمعت بينهما أواصر صداقة حميمة امتدت على مدى سنوات عديدة. ويرد أيضا ذكر اسم فرانسيس سيشيفاريل داروين، الذي ورث حب التاريخ الطبيعي من إيرازموس ونقله إلى ابنه إدوارد داروين، الذي ألف كتاب «دليل القائمين على مناطق الصيد» (الطبعة الرابعة، 1863)، مستخدما الاسم المستعار «هاي إلمز» (أشجار الدردار العالية). ويضم هذا الكتاب ملاحظات دقيقة عن عادات أنواع مختلفة من الحيوانات.
من المثير دائما أن نتأمل إلى أي مدى يمكن تتبع سمات المرء الشخصية عبر أسلافه؛ فلقد ورث تشارلز داروين طول القامة من إيرازموس، لكنه لم يرث منه ضخامة الجسم، وأما الملامح، فليس بينه وبين جده من تشابه ملحوظ فيها. ويبدو أيضا أن إيرازموس لم يكن يحب التمرينات البدنية والصيد والرماية، بينما كانت تلك من الأمور التي كان تشارلز داروين يستمتع بها في شبابه، غير أن إيرازموس كان يشبه حفيده في حبه الجارف للعمل الذهني الشاق. كما أنهما كانا يشتركان في حبهما لفعل الخير والتعاطف مع الآخرين وكذلك ما كانا يتسمان به من جاذبية شخصية كبيرة. كان تشارلز داروين يتمتع بأعلى درجة من «خصوبة الخيال»، وقد ذكر أنها من السمات التي كان يتميز بها إيرازموس بالقوة نفسها كذلك، وأنها كانت عاملا أساسيا في «ميله الشديد إلى التعميم ووضع النظريات.» وأما بالنسبة إلى تشارلز داروين، فلم يكن يسمح لهذه النزعة بأن تتملك منه، بل كان يراقبها دوما؛ إذ كان يصر على اختبار نظرياته إلى أقصى درجة. كان إيرازموس يكن حبا كبيرا للآلات بجميع أنواعها، وذلك على خلاف داروين الذي لم يكن مهتما بها. كما أن داروين لم يكن يتمتع بذلك المزاج الأدبي الذي جعل من إيرازموس شاعرا وفيلسوفا. لقد كتب داروين عن إيرازموس يقول:
1 «أكثر ما أدهشني في خطاباته هو عدم اكتراثه بالشهرة، وغياب أي أثر يدل على مغالاته في تقييم قدراته، أو نجاح أعماله.» ولا شك في أن هذه السمات تتجلى بوضوح كبير في شخصية داروين نفسه. لكننا لا نملك دليلا على أن إيرازموس كان يتمتع بهذا القدر من التواضع والبساطة الشديدين، اللذين هما من أهم ما كان يميز طباع داروين. لكننا عندما نتأمل نوبات الغضب السريعة التي كان يدخل فيها إيرازموس عندما يشهد أيا من مظاهر الوحشية أو الظلم، نتذكر داروين وطباعه مرة أخرى.
بالرغم من ذلك، فإن ما يبدو لي بصفة عامة هو أننا لا نعرف القدر الكافي عن إيرازموس داروين وطباعه الشخصية الجوهرية؛ ما لا يسمح لنا بأن نعقد أكثر من مقارنة سطحية بين الرجلين. وبالرغم من أوجه الشبه المتعددة بين الاثنين، فإنني أعتقد أنهما كانت لهما شخصيتان مختلفتان. ولقد اتضح أن الآنسة سيوارد والسيدة شيميل بينيك، قد أساءتا التعبير عن شخصية إيرازموس داروين.
2
بالرغم من ذلك، فمن المحتمل جدا أن تكون تلك العيوب التي بالغتا في التعبير عنها، تنطبق على الرجل إلى حد ما؛ مما يدفعني إلى الاعتقاد بأنه لم يكن يخلو من الفظاظة أو حدة المزاج، وهو ما لم يوجد في حفيده.
Bog aan la aqoon
لقد ورث ابنا إيرازموس داروين شيئا من ميوله الفكرية؛ فقد كتب عنهما تشارلز داروين ما يلي: «كان ابنه الأكبر تشارلز (الذي ولد في الثالث من سبتمبر عام 1758) شابا ذا مستقبل واعد للغاية، لكنه توفي في الخامس عشر من مايو عام 1778 قبل أن يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما، إثر جرح قد أصابه بينما كان يجري تشريحا لدماغ طفل. ورث من أبيه حبه الشديد لفروع مختلفة من العلوم، وكذلك كتابة الشعر، والميكانيكا ... كما أنه قد ورث التلعثم في الحديث، وقد أرسله والده إلى فرنسا وهو في الثامنة تقريبا (1766-1767) مع معلم خاص أملا في أن يفلح ذلك في علاجه؛ إذ كان يعتقد أنه إن لم تتح له الفرصة في التحدث بالإنجليزية لبعض الوقت، فستزول عنه عادة التلعثم. ومن الغريب أنه لم يكن يتلعثم قط في السنوات التالية حين كان يتحدث الفرنسية. بدأ منذ الصغر في جمع العينات بجميع أنواعها. وفي السادسة عشرة من عمره بعث لمدة عام إلى جامعة أكسفورد [كلية كنيسة كرايست]، لكن المكان لم يرق له؛ فقد كان يعتقد (كما عبر عن ذلك والده) «أن ذهنه المتوقد قد فتر في سعيه هذا إلى طلب الوجاهة الكلاسيكية، مثلما وهن هرقل إذ انكفأ على مغزله، وكان يتوق إلى الانتقال إلى كلية الطب في إدنبرة؛ حيث الدراسة والممارسة المكثفة.» مكث في إدنبرة ثلاث سنوات، كان يجتهد خلالها في دراسته للطب ويرعى «المرضى الفقراء في أبرشية ووترليث بكل اجتهاد وعناية، ويوفر لهم الأدوية اللازمة.» منحته جمعية إسكيليبيان وسامها الذهبي الأول عن بحث تجريبي قام به عن الصديد والمخاط. وورد ذكره في العديد من المجلات، وقد اتفق جميع الكتاب على ما يتمتع به من طاقة وقدرات متميزة. ويبدو أنه كان محبوبا من أصدقائه، كما كانت الحال أيضا مع والده؛ فقد تحدث عنه ... البروفيسور أندرو دانكان ... بعد وفاته بسبعة وأربعين عاما بأصدق العواطف، وذلك حينما كنت أدرس الطب في إدنبرة ...
وأما عن ابنه الثاني إيرازموس (الذي ولد عام 1759)، فليس لدي الكثير لأقوله؛ فبالرغم من أنه كان يكتب الشعر، فيبدو أنه لم يرث من والده اهتماماته الأخرى، وإنما كانت له اهتماماته المميزة، وهي: علم الأنساب، وجمع العملات المعدنية والإحصاء؛ فعندما كان صبيا، أحصى جميع المنازل في مدينة ليتشفيلد وتوصل إلى عدد السكان في معظمها؛ وهو بذلك قد قام بتعداد للسكان، وحين أجري تعداد فعلي للمرة الأولى، تبين أن التقدير الذي توصل إليه يقترب من الدقة إلى حد كبير. وكان خجولا هادئ الطباع، وقد كان والدي يؤمن بقدراته إيمانا كبيرا، والأرجح أن ذلك كان حقيقيا، وإلا لما دعي إلى السفر مع العديد من الشخصيات الهامة المميزة في مختلف المجالات وقضاء وقت طويل معهم، ومن هؤلاء المهندس بولتون والروائي والفيلسوف الأخلاقي داي.» ويبدو أن حالة من الجنون قد بدأت تتملك عقله، مما أدى إلى إقدامه على الانتحار الذي أفضى إلى موته في عام 1799.
ولد روبرت وارينج، والد تشارلز داروين، في الثلاثين من مايو عام 1766، والتحق بمهنة الطب كوالده. درس لبضعة أشهر في جامعة لايدن، وحصل على شهادة الطب منها في السادس والعشرين من فبراير عام 1785. إن والده إيرازموس «قد أرسله
3
إلى شروزبيري قبل أن يتم عامه الحادي والعشرين (1787)، وترك له عشرين جنيها، قائلا: «أخبرني حين تريد المزيد وسوف أرسل لك المبلغ الذي تريده.» ثم أرسل له عمه، كاهن إلستون، عشرين جنيها غيرها وكان ذلك هو كل ما تلقاه من مساعدة مالية ... وقد أخبر إيرازموس السيد إيدجوورث أنه بعدما استقر ابنه روبرت في شروزبيري لمدة ستة أشهر فقط، «كان عدد مرضاه يتراوح بين الأربعين والخمسين.» وبحلول عامه الثاني هناك، اتسع عمله وظل في ازدياد منذ ذلك الحين.»
تزوج روبرت وارينج داروين في (18 أبريل عام 1796) من سوزانا، وهي ابنة صديق والده، جوزايا ويدجوود، وهو من إتروريا، وهي التي كانت في ذلك الوقت في الثانية والثلاثين من عمرها. لدينا صورة صغيرة جدا لها ظهرت فيها بوجه جميل وسعيد، والذي نجد أن بها بعض الشبه من الصورة الشخصية التي رسمها لوالدها السير جوشوا رينولدز؛ إذ تبدو في طلعتها ملامح الرقة والود، وهو ما تصفه بها الآنسة ميتيارد.
4
ولقد توفيت في الخامس عشر من يوليو عام 1817، قبل وفاة زوجها باثنين وثلاثين عاما؛ إذ توفي في الثالث عشر من نوفمبر عام 1848. كان الدكتور داروين قد عاش قبل زواجه في شارع سان جونز هيل لعامين أو ثلاثة، ثم انتقل بعد ذلك إلى حارة ذا كريسنت، حيث ولدت ابنته الكبرى ماريان، ثم انتقل في النهاية إلى ذا ماونت الذي يقع في ذلك الجزء من شروزبيري الذي يعرف باسم فرانكويل، والذي شهد مولد جميع أبنائه الآخرين. بنى الدكتور داروين منزل ذا ماونت عام 1800 تقريبا، وقد انتقل الآن إلى ملكية السيد سبنسر فيليبس وخضع إلى بعض التغييرات الطفيفة. المنزل كبير وبسيط ومربع الشكل، وقد بني بالطوب الأحمر، وتعد تلك الصوبة الزراعية التي تطل عليها غرفة الجلوس النهارية أكثر معالمه تميزا.
يقع هذا المنزل في موقع ساحر على قمة ضفة تنحدر نزولا إلى نهر السيفرن. ويوجد على هذه الضفة المدرجة ممشى طويل، يمتد من بدايتها إلى نهايتها، وهو لا يزال يدعى باسم «ممشى الدكتور». وفي مكان ما على هذا الممشى تنمو شجرة كستناء حلو، وهي التي تنحني أغصانها إلى الوراء مرة أخرى بالتوازي بعضها مع بعض بطريقة غريبة، وقد كانت تلك هي الشجرة المفضلة لتشارلز داروين حينما كان صبيا، وهي التي كان له ولأخته كاثرين فيها مقعد خاص بكل منهما.
كان الدكتور يجد في الاعتناء بحديقته سرورا كبيرا، فكان يزرعها بأشجار الزينة وشجيراتها، كما أنه قد نجح في زراعة أشجار الفاكهة على وجه الخصوص، وأعتقد أن حبه للنباتات هو كل ما كان يمتلكه من ميل قد يمت بصلة إلى التاريخ الطبيعي. وبالنسبة إلى «حمام ذا ماونت» الذي تصفه الآنسة ميتيارد بأنه يوضح اهتمام الدكتور بالتاريخ الطبيعي، فذلك مما لم أسمع به ممن هم أكثر دراية منها ومعرفة بالرجل. إن رواية الآنسة ميتيارد عنه ليست دقيقة في عدة نقاط؛ فهي تذكر مثلا، أن الدكتور داروين كان يميل إلى التفكير الفلسفي، والواقع أنه كان يميل إلى الاهتمام بالتفاصيل، لا التعميم. وكذلك فإن الذين عرفوه عن قرب يذكرون أنه لم يكن يأكل إلا أقل القليل؛ ولهذا فإنه لم يكن «أكولا يتناول إوزة على العشاء بالسهولة التي يتناول بها غيره من الرجال طائرا من نوع الحجل.»
Bog aan la aqoon
5
أما فيما يتعلق بذوقه في اللبس، فقد كان تقليديا متحفظا، وظل حتى آخر حياته يرتدي السراويل القصيرة التي تصل إلى الركبتين، والجراميق القماشية، والتي لم تصل بالتأكيد إلى ما فوق الركبة، كما قالت بذلك الآنسة ميتيارد، وإنما كان ما وصفته زيا يرتديه بصفة أساسية رماة القنابل اليدوية في عهد الملكة آن، وكذلك قطاع الأخشاب وعمال الحرث في العصر الحديث.
كان تشارلز داروين يكن أقوى مشاعر الحب والاحترام لذكرى والده. وقد كان يتذكر كل ما يتعلق به بوضوح شديد، وكثيرا ما كان يتحدث عنه؛ فغالبا ما كان يبدأ أي حكاية سيرويها عنه بأن يقول مثلا: «كان والدي، وهو أحكم من عرفت من الرجال ...» ومن المدهش أنه كان يتذكر آراء والده بكل وضوح؛ ومن ثم، فقد كان بإمكانه أن يذكر بعض مبادئه أو إرشاداته في معظم الحالات المرضية. وبصفة عامة، فإنه لم يكن يثق كثيرا بالأطباء؛ لذا فإن ثقته المطلقة فيما يتمتع به الدكتور داروين من قدرة ومهارة في الطب وكذلك في أساليب العلاج التي كان يتبعها لهو أمر أكثر غرابة.
لقد كان يبجله تبجيلا لا محدودا وصادقا. كان يميل للتخلي عن عاطفته في أي رأي يصدره على الإطلاق، أما ما يرد من والده، فقد كان يصدقه ويثق به ثقة شبه مطلقة. لقد ذكرت ابنته السيدة ليتشفيلد أنها تتذكر قوله بأنه يتمنى ألا يصدق أي من أبنائه شيئا لأنه قد قاله، ما لم يكونوا هم مقتنعين بأن تلك هي الحقيقة؛ وهي رغبة تتعارض تعارضا صارخا مع سلوكه فيما يتعلق بتصديق ما ورد عن والده.
استطاعت ابنة تشارلز داروين من خلال الزيارة التي قامت بها هي وهو إلى شروزبيري عام 1869 أن تدرك بوضوح مدى حبه لمنزله القديم؛ فقد راح قاطن المنزل آنذاك يطوف بهم في أرجائه، وقد أخطأ في التقدير وظل مصاحبا لهم على مدى الزيارة كلها، ظنا منه أن ذلك من حسن ضيافته لهم . وبينما كانوا يغادرون، قال تشارلز داروين وفي عينيه نظرة ندم قد امتزجت بالأسى: «لو كان بإمكاني أن أختلي بنفسي في تلك الصوبة لمدة خمس دقائق، لكان باستطاعتي تخيل والدي على كرسيه المتحرك بكل وضوح وكأنه هناك أمامي.»
ولعل هذه الحادثة توضح ما أعتقد أنه الحقيقة، وهو أن أكثر ما كان يحبه تشارلز داروين من ذكريات والده، هي ذكرياته حين كان مسنا. وقد كتبت السيدة ليتشفيلد بعض الكلمات التي تصور مشاعره تجاه والده تصويرا جيدا؛ فهي تصفه وهو يقول بنبرة في غاية الرقة والاحترام: «أعتقد أن أبي كان متحاملا علي قليلا حينما كنت صغيرا، غير أنني أشعر بالامتنان إذ توطدت علاقتي به بعد ذلك وأصبحت من أقرب الناس إليه.» وهي تتذكر بوضوح شديد التعبير الذي خالطه وهو يقول تلك الكلمات؛ فقد كان يرددها وكأنه في حلم سعيد، وكأنه يستعيد العلاقة كلها في ذاكرته وقد تركته الذكرى في حالة من السلام والامتنان العميقين.
وفيما يلي مقتطف كتبه تشارلز داروين في سيرته الذاتية، وذلك في عام 1877 أو 1878:
أعتقد أنني سأضيف هنا بضع صفحات عن والدي، الذي كان رجلا عظيما من نواح عديدة.
لقد كان يبلغ من الطول ستة أقدام وبوصتين، وقد كان عريض الكتفين وممتلئ الجسم بحيث كان أضخم رجل عرفته على الإطلاق. وفي آخر مرة قد وزن فيها نفسه، كان يزن 24 ستونا، لكن وزنه قد ازداد بعد ذلك بدرجة كبيرة. وقد كانت أهم سماته الذهنية هي قوة الملاحظة والقدرة على التعاطف، ولم أعرف قط أحدا تفوق عليه في هاتين الصفتين أو كان ندا له فيهما. ولم تكن ملكة التعاطف لديه تقتصر على التعاطف مع أحزان من هم حوله فحسب، وإنما مع أفراحهم أيضا، بل إنه كان يتعاطف مع أفراحهم بدرجة أكبر. ولهذا فقد كان دائما ما يسعى إلى إسعاد الآخرين، والقيام بالعديد من الأعمال الخيرية، وذلك بالرغم من كرهه للإسراف في العطاء؛ فعلى سبيل المثال، أتاه في أحد الأيام السيد ب... وهو أحد صغار المصنعين في شروزبيري، وقال له إنه سيفلس إن لم يتمكن من اقتراض عشرة آلاف جنيه في الحال، لكنه لا يستطيع أن يقدم على ذلك أي ضمانة قانونية، فسمع منه والدي ما يبرر أنه سيتمكن من رد هذا المبلغ في النهاية، وقد تيقن بما له من حدس رائع، أن الرجل محل ثقة؛ ومن ثم، أقرضه ذلك المبلغ، الذي كان مبلغا كبيرا جدا بالنسبة إليه، إذ كان لا يزال شابا، لكن الرجل رده إليه بعد فترة من الوقت.
أعتقد أن ملكة التعاطف لديه هي ما مهد له تلك القدرة المطلقة على الفوز بثقة الآخرين، مما ساهم في النجاح العظيم الذي حققه في ممارسة الطب. لقد بدأ في العمل قبل أن يبلغ من العمر واحدا وعشرين عاما، وقد استطاع من أتعابه التي جمعها خلال السنة الأولى أن يحتفظ بفرسين ويستعين بخادم. وفي السنة التالية، ازداد عمله وتوسع، وقد استمر هذا التوسع لمدة ستين عاما، توقف بعدها عن عيادة أي شخص. والواقع أن نجاحه الكبير في مهنة الطب لهو أمر مدهش للغاية؛ فقد أخبرني أنه كان يبغض عمله بشدة في البداية؛ فما كان لأي شيء أن يدفعه إلى الاستمرار فيه على الإطلاق لو أنه كان يمتلك أي دخل ولو زهيد، أو لئن أتاح له والده أي خيار آخر. لقد ظل حتى آخر حياته يكاد يشعر بالغثيان من مجرد التفكير في العمليات الجراحية، ولم يكن يطيق أن يرى شخصا ينزف - وهو سبب من أسباب الرعب قد نقله إلي - وإنني لأتذكر الرعب الذي انتابني حين قرأت وأنا صغير في أيام الدراسة عن بليني (على ما أعتقد)، الذي ظل ينزف وهو في حمام ساخن حتى مات ...
Bog aan la aqoon
وبفضل قدرات والدي في اكتساب ثقة الناس، فقد كان العديد من المرضى - ولا سيما النساء - يستشيرونه فيما يهمهم من أي ألم أو ضيق، في شكل هو أقرب إلى الاعتراف الذي يسرون به للقس في الكنيسة. لقد أخبرني بأنهم غالبا ما كانوا يبدءون بالشكوى من صحتهم بصورة عامة ومبهمة، لكنه سرعان ما كان يبدأ في تخمين حقيقة الأمر من خلال الخبرة التي اكتسبها في هذا المجال. فكان يخبرهم بأن العلة في عقولهم؛ ومن ثم يخبرونه بمشكلاتهم، ولا يعود يسمع أي شكوى عن الجسد ... وبفضل مهارة والدي في الفوز بثقة الناس، استمع إلى اعترافات غريبة عن التعاسة والذنب. لقد كان يشير كثيرا إلى هذا العدد الكبير من الزوجات التعيسات اللائي عرفهن. في حالات عديدة، كان الأزواج وزوجاتهم يعيشون في جو من التفاهم لمدة عشرين أو ثلاثين عاما، ثم تدب بينهم الكراهية المريرة؛ وهو ما كان يعزوه إلى تلك الرابطة المشتركة التي يفقدها الزوج وزوجته عندما يكبر أطفالهما.
لكن الملكة الأبرز التي كان يمتلكها والدي هي قراءة شخصيات الناس، حتى إنه كان يقرأ أفكار من يلتقي بهم ولو لفترة قصيرة. وقد شهدنا العديد من الأمثلة على هذه الملكة، حتى إن بعضها كان يبدو خارقا للطبيعة. وقد حفظ ذلك والدي من صداقة من لا يستحقون صداقته (فيما عدا رجلا واحدا، كان هو الاستثناء الوحيد وهو الذي سرعان ما اتضحت حقيقته). لقد كان كاهنا غريبا أتى إلى شروزبيري وقد بدا عليه أنه رجل ثري، فراح الجميع يزورونه ودعاه معظم الناس إلى بيوتهم. وكذلك زاره أبي، وعندما رحل أبي عائدا إلى منزله، طلب من أخواتي ألا يدعون هذا الشخص ولا أي فرد من أسرته إلى منزلنا؛ إذ إنه غير جدير بالثقة. وبعد بضعة أشهر، هرب فجأة وهو غارق في الديون، ثم اتضح أنه محتال محترف. ولدينا أيضا مثال آخر عن الثقة التي لم يكن ليغامر بمنحها إلا قلة من الرجال؛ فهناك رجل أيرلندي زار والدي في أحد الأيام، وهو غريب عن البلد تماما، وأخبره بأن محفظته قد ضاعت، وأنه سيتضرر كثيرا إن انتظر في شروزبيري حتى تأتيه حوالة من أيرلندا. وقد طلب من والدي أن يقرضه عشرين جنيها، وهو ما حدث على الفور؛ إذ شعر والدي بأن القصة حقيقية. وفي أول موعد لوصول الخطابات من أيرلندا، ورد خطاب به تعبير عن وافر الشكر، وإشارة إلى تضمنه ورقة نقدية بقيمة عشرين جنيها إسترلينيا، غير أنه لم يكن به أي ورقة نقدية. سألت والدي عما إذا كان ذلك قد أدهشه، لكنه أجابني «كلا، على الإطلاق.» وفي اليوم التالي، ورد خطاب آخر يعتذر الرجل فيها كثيرا؛ إذ نسي (كما هي عادة الرجال الأيرلنديين) أن يضع الورقة النقدية في خطاب اليوم السابق ... [أحد الرجال الأفاضل] أحضر ابن أخيه إلى والدي، وقد كان هذا الفتى لطيفا لكن به علة في عقله قد جعلته يتهم نفسه بارتكاب جميع الجرائم المعروفة. وعندما ناقش والدي بعد فترة أمر الفتى مع عمه، قال له: «إنني متأكد من أن ابن أخيك قد ارتكب ... جريمة شنيعة.» وعندئذ قال [الرجل الفاضل]: «يا إلهي! من أخبرك يا دكتور داروين؟ لقد ظننا أنه لا أحد يعرف بالأمر غيرنا!» لقد أخبرني والدي بهذه القصة بعد عدة سنوات من حدوثها، وقد سألته كيف استطاع أن يميز بين الاتهامات الزائفة التي كان يوجهها الفتى إلى نفسه وبين الاتهامات الحقيقية؛ فما كان منه إلا أن يخبرني، كعادته، بأنه لا يستطيع أن يشرح الأمر.
وستوضح القصة التالية قدرة والدي الجيدة على التخمين. كان اللورد شيلبيرن، والذي أصبح فيما بعد الماركيز الأول في لانزداون، مشهورا (كما يذكر ماكولي في موضع ما) بمعرفته بشئون أوروبا، وهو أمر كان يعتز به كثيرا. وكان قد استشار والدي في مسألة طبية، ثم راح يخاطبه بلهجة حادة عن شئون هولندا. وكان والدي قد درس الطب في لايدن، وفي أحد الأيام [بينما كان هناك] قام بجولة طويلة في الريف مع صديق اصطحبه إلى بيت كاهن هناك (وسندعوه هنا بالمبجل السيد أ... إذ إنني قد نسيت اسمه)، وكان هذا الكاهن متزوجا من امرأة إنجليزية. كان والدي جائعا جدا، ولم يكن لديهم على الغداء سوى الجبن، ولم يكن والدي يتناوله أبدا. كانت السيدة العجوز مندهشة وحزينة لذلك، وظلت تؤكد لوالدي أنه جبن ممتاز قد أرسل إليهما من بوود، وهي مقر اللورد شيلبيرن. لقد تعجب والدي من إرسال هذا الجبن من بوود، لكنه لم يفكر في الأمر أكثر من ذلك إلى أن لاح مرة أخرى في ذهنه بعد ذلك بسنوات عديدة، بينما كان اللورد شيلبيرن يتحدث عن هولندا. فأجابه: «لا بد أن الموقر السيد أ... كان رجلا مهما للغاية وعلى دراية جيدة بأمور هولندا.» استطاع والدي أن يدرك أن الإيرل، والذي قد غير موضوع المحادثة فورا، قد بهت واندهش للغاية. وفي الصباح التالي، تلقى والدي خطابا من الإيرل يقول فيه إنه قد أجل موعد البدء في رحلته؛ إذ إنه يرغب في رؤية والدي. وحين أتى، تحدث الإيرل إلى والدي قائلا: «دكتور داروين، إنه لأمر في غاية الأهمية لي وللموقر السيد أ... أن نعرف كيف اكتشفت أنه مصدر معلوماتي عن هولندا.» ومن ثم، فقد اضطر والدي أن يشرح ما حدث فجعله يتوصل إلى هذه النتيجة، وقد رأى أن اللورد شيلبيرن كان معجبا للغاية بقدرة والدي الكبيرة على التخمين؛ إذ على مدى سنوات عديدة بعدها، ظل يتلقى منه العديد من الخطابات اللطيفة عن طريق عدد من الأصدقاء. وأعتقد أنه ولا بد قد حكى هذه القصة إلى أولاده؛ إذ سألني السير سي لايل قبل عدة أعوام عن سبب ما عبر عنه ماركيز لانزداون (وهو ابن أو حفيد الماركيز الأول) من اهتمام كبير بي وبعائلتي، وهو الذي لم يرني من قبل. وحين أضيف إلى نادي الأثنيام أربعون من الأعضاء الجدد (وقد كانوا يدعون حين ذاك باسم الأربعين لصا)، كان هناك الكثير من النقاش بشأن انضمامي معهم، وبدون أن أطلب ذلك من أحد، قدمني اللورد لانزداون وأصبحت عضوا منتخبا. وإذا كنت محقا في افتراضي، فقد كانت تلك سلسلة غريبة من الأحداث أن يكون عدم تناول والدي للجبن قبل نصف قرن في هولندا، قد أدى إلى أن أصبح عضوا منتخبا في نادي الأثنيام.
إن حدة ملاحظته قد جعلته قادرا على أن يتنبأ بالمسار الذي سيتخذه أي مرض بمهارة فائقة، وكان يقدم عددا لا نهائيا من التفاصيل التي تؤدي إلى شعور المرضى بالارتياح. لقد سمعت عن طبيب شاب في شروزبيري كان يكره والدي وهو الذي كان يزعم أنه لم يكن علميا على الإطلاق، غير أنه كان يتمتع بالقدرة على التنبؤ بنهاية أي مرض بدقة لا مثيل لها. وحين كان أبي يرى في السابق أن علي أن أصبح طبيبا، كان يحدثني كثيرا عن مرضاه. وقد كانت ممارسة الفصد منتشرة في الماضي على نحو كبير، غير أن والدي كان يرى أنها تضر أكثر مما تفيد، حتى إنه كان ينصحني بألا أدع أي طبيب يستخرج مني سوى كمية ضئيلة جدا من الدم، إن مرضت في أحد الأيام. وقبل أن يجرى تمييز حمى التيفود عن غيرها بوقت طويل، أخبرني والدي بأن مصطلح حمى التيفود يطلق على نحو خاطئ على نوعين مختلفين تماما من الحمى. وقد كان يعارض تناول الكحوليات معارضة قاطعة، وكان مقتنعا بأن تناولها بانتظام، حتى إن كان بكميات معقولة، يتسبب في أضرار شديدة، بعضها يحدث مباشرة والبعض الآخر ينتقل بالوراثة، وذلك في الغالبية العظمى من الحالات. غير أنه قد أقر بأن بعض الأشخاص قد يتناولون كميات كبيرة من الكحوليات طوال حياتهم دون أن تظهر عليهم أي أضرار يعانون منها، وقدم بعض الأمثلة على ذلك، وقد كان يرى أنه يستطيع أن يعرف هؤلاء الذين لن يعانوا من هذه الأضرار مقدما. وأما عنه، فهو لم يتناول ولا قطرة واحدة من أي شراب كحولي. وتذكرني هذه الملاحظة بحالة توضح كيف يمكن أن يكون أحد الشهود مخطئا تماما، حتى إن كانت الظروف مواتية؛ فقد حث والدي أحد الرجال الأفاضل من المزارعين على ألا يتناول الكحوليات، وقد شجعه على ذلك بأن أخبره بأنه هو نفسه لم يمس قط أي شراب روحي؛ وعندئذ قال هذا الرجل لوالدي: «حنانيك أيها الطبيب! إنني لا أصدق هذا، غير أنه لطف منك أن تخبرني بذلك حرصا على صحتي، لكنني أعرف أنك تتناول كأسا كبيرة للغاية تتضمن مزيجا من الماء الساخن والجن كل مساء بعد عشائك.» فسأله والدي كيف تسنى له أن يعرف هذا، وقد أجاب الرجل: «كانت طاهيتي تعمل لديك خادمة في المطبخ لسنتين أو ثلاث، وقد رأت الساقي يعد خليط الجن والماء ويذهب بهما إليك.» والواقع أن والدي كانت لديه تلك العادة الغريبة بأن يشرب بعد عشائه ماء ساخنا في كأس طويلة وكبيرة للغاية، وقد اعتاد الساقي أن يضع بعض الماء البارد أولا في الكأس، وهو ما ظنت الفتاة أنه شراب الجن، ثم يملأ الكأس بالماء المغلي من غلاية المطبخ.
لقد كان أبي يخبرني بالكثير من التفاصيل الصغيرة التي اكتشف أنها مفيدة في ممارسته لمهنة الطب؛ فقد كانت النساء يبكين كثيرا حين كن يخبرنه بمشكلاتهن، وهو ما كان يضيع الكثير من وقته الثمين، وسرعان ما اكتشف أنه حين كان يطلب منهن تمالك أنفسهن والتوقف عن البكاء، ما كان ذلك يزيدهن إلا بكاء ونحيبا؛ لذا فقد كان يحثهن على الاستمرار في البكاء، مخبرا إياهن بأن ذلك هو ما سيخفف عنهن أكثر من أي شيء آخر، ودائما ما كانت النتيجة هي توقفهن عن البكاء، مما يتيح له الاستماع جيدا لحالاتهن وتقديم النصيحة المطلوبة. وحين كان مرضاه الذين ساءت حالتهم يشتهون أنواعا غريبة وغير معتادة من الأطعمة، كان يسألهم عما دفع هذه الفكرة في عقولهم، وإن أجابوا بأنهم لا يعرفون، فإنه كان يسمح لهم بتناول ما يشتهون، وغالبا ما كان ينجح الأمر؛ إذ كان يثق بأنها رغبة غريزية لديهم فحسب، أما إذا أجابوا بأنهم قد سمعوا أن ذلك الطعام قد أفاد شخصا آخر في حالته المرضية، فإنه لم يكن يعطي موافقته على الإطلاق.
لقد قدم في أحد الأيام لمحة صغيرة وغريبة عن الطبيعة البشرية. كان ذلك حين كان شابا صغيرا إذ دعي إلى زيارة أحد الرجال المميزين في شروبشاير مع طبيب العائلة، وتقديم المشورة في حالته. وقد أخبر الطبيب العجوز الزوجة بأن هذا المرض سينتهي بالموت لا محالة. أما أبي، فقد كان له رأي آخر وقال بأن الرجل سيتعافى، غير أنه كان مخطئا تماما (وذلك عند تشريح الجثة على ما أعتقد)، وقد أقر أبي بخطئه. وكان مقتنعا حينئذ بأنه يجب ألا يقدم المشورة إلى هذه الأسرة مجددا، غير أن أرملة هذا الرجل قد أرسلت إليه بعد ذلك ببضعة أشهر؛ إذ لم تعد تستعين بخدمات طبيب الأسرة العجوز. كان أبي مندهشا لذلك للغاية، حتى إنه قد طلب من أحد أصدقاء الأرملة أن يسأل عن السبب الذي دفعهم إلى أخذ مشورته مجددا. فأجابت الأرملة هذا الصديق بأنها «لن ترى ثانية هذا الطبيب الكريه العجوز الذي قال من البداية إن زوجها سوف يموت بالتأكيد، على العكس من الدكتور داروين الذي كان يؤكد دوما أنه سيتعافى!» وفي حالة أخرى، كان والدي قد أخبر سيدة بأن زوجها سوف يموت لا محالة، ثم رأى والدي هذه السيدة بعد وفاة زوجها بعد ذلك بعدة أشهر، وقد كانت سيدة حكيمة فقالت له: «إنك ما تزال صغيرا للغاية؛ فاسمح لي أن أنصحك بأن تمنح الأمل لأي شخص يرعى قريبا له، طالما أمكنك ذلك. لقد جعلتني أشعر باليأس، ومنذ هذه اللحظة خارت قواي.» وقد كان أبي يقول إنه من ذلك الحين، أدرك الأهمية القصوى لإعطاء الأمل لمن يقوم على رعاية المريض؛ إذ إن ذلك يحافظ على تماسكه وقوته، مما يصب في مصلحة المريض. وقد كان يواجه صعوبة في فعل ذلك أحيانا لأنه يتعارض مع الحقيقة. غير أنه في إحدى المرات قد أنقذه سيد عجوز من تلك الحيرة. كان السيد ب... قد أرسل في طلب والدي لاستشارته، قائلا: «بناء على كل ما رأيته وسمعته عنك، فإنني أثق بأنك ستخبرني الحقيقة، وأنني إن سألتك متى سأموت، فسوف تجيبني. والآن فإنني أرغب بشدة في أن تشرف على حالتي، إن وعدتني بألا تخبرني أنني سأموت، مهما قلت لك.» وقد قبل والدي ذلك على أساس هذا الاتفاق الذي يعني أن كلامه لن يكون له في الواقع أي معنى على الإطلاق.
لقد كان والدي يتمتع بذاكرة استثنائية، لا سيما في تذكر التواريخ، حتى إنه كان لا يزال يتذكر وهو في كبره تواريخ الميلاد والزواج والوفاة لعدد كبير من الناس في شروبشاير، وقد أخبرني ذات يوم أن هذه الملكة تزعجه؛ فقد كان يحفظ أي تاريخ فور أن يسمعه، ولا يمكنه أن ينساه ؛ ومن ثم، فلطالما كان يتذكر تواريخ وفاة العديد من أصدقائه ويتذكرهم، فيشعر بالحزن. وبفضل ما كان يتمتع به من ذاكرة استثنائية، فقد كان يعرف عددا هائلا من القصص المشوقة الغريبة، والتي كان يحب أن يرويها؛ إذ كان متحدثا بارعا. لقد كان بوجه عام شخصا مرحا؛ يضحك ويمزح مع الجميع، وفيهم خدمه، بمنتهى الأريحية، غير أنه كان يعرف كيف يجعل الجميع يطيعون أوامره بحذافيرها. لقد كان العديد من الناس يخشونه بشدة؛ فقد حكى لنا والدي ذات يوم وهو يضحك أن بعض الناس قد سألوه عما إذا كانت الآنسة ... وهي سيدة عجوز مهيبة في شروبشاير، قد زارته، فتساءل عن السبب الذي دفعهم إلى سؤاله، وقد أخبروه بأن الآنسة ... التي كان أبي قد أغضبها بشدة، قد راحت تخبر الجميع بأنها ستزور وتخبر «هذا الطبيب السمين العجوز برأيها فيه بكل صراحة.» وقد زارته بالفعل، لكن شجاعتها قد خانتها، وقد كانت معه في غاية اللطف والود. وحين كنت صبيا، ذهبت كي أمكث في منزل ... وقد كانت زوجته بها بعض الجنون، وفور أن رأتني هذه المسكينة، تملكت منها أشد حالات الهلع التي رأيتها على الإطلاق؛ فقد راحت تنتحب بمرارة وتسألني مرارا وتكرارا: «هل سيأتي والدك؟» غير أنه سرعان ما هدأ روعها. وعند عودتي إلى المنزل، سألت والدي عن سبب هلعها، فقال إنه سعيد بسماع ذلك؛ إذ إنه قد تعمد إخافتها لأنه رأى أنها ستعيش في مأمن ودون تقييد لحريتها إن نجح زوجها في التأثير عليها، حينما تنتابها نوبات العنف، بأن يخبرها بأنه سيبعث في طلب الدكتور داروين، وقد كانت هذه الكلمات تنجح في تهدئتها في كل مرة على مدى ما تبقى من حياتها الطويلة.
لقد كان أبي حساسا للغاية؛ لذا فقد كانت العديد من الوقائع الصغيرة تزعجه أو تؤلمه بشدة. لقد سألته ذات مرة بعد أن كبرت سنه ولم يعد قادرا على السير، عن السبب في عدم الخروج والتنزه بالعربة، فأجابني: «إن كل طريق خارج شروزبيري يرتبط في ذهني بحادث أليم.» لكنه فيما عدا ذلك، كان شخصا مرحا في معظم الأحوال. وبالرغم من أنه كان يغضب بشدة بسهولة، فإن عطفه كان هائلا ولا حدود له. وقد كان محبوبا بشدة من الجميع.
لقد كان رجل أعمال جيدا وحريصا؛ فنادرا ما خسر أي نقود في أي استثمار، وقد ترك لأولاده إرثا كبيرا للغاية. وإنني أتذكر الآن قصة توضح مدى السهولة التي تنشأ بها المعتقدات العارية من الصحة وتنتشر انتشارا واسعا. كان السيد إي ... وهو من ملاك الضياع في إحدى أقدم العائلات في شروبشاير، وشريك كبير في أحد المصارف، قد انتحر، وقد بعثوا في طلب والدي من باب الواجب، لكنه وجده ميتا بالفعل. وأريد أن أذكر هنا، لأوضح كيفية تدبير مثل هذه الأمور في هذه الأيام الخوالي، أنه لما كان السيد إي ... رجلا عظيما يحترمه الجميع، فلم يجر تحقيق بخصوص موته. وعند عودة أبي إلى المنزل، رأى أنه يجب عليه الذهاب إلى المصرف (الذي كان لديه حساب فيه) لكي يخبر الشركاء التنفيذيين بما حدث؛ فلم يكن من المستبعد أن يتسبب ذلك في سحب كثير من الناس لأموالهم من البنك. وقد انتشرت شائعة انتشارا كبيرا وواسعا، مفادها أن والدي ذهب إلى المصرف وسحب جميع أمواله، وغادر البنك ثم عاد مجددا، وقال: «يمكنني أن أخبركم بأن السيد إي ... قد قتل نفسه.» ثم غادر. يبدو أنه كان هناك اعتقاد شائع حينها بأن النقود التي تسحبها من المصرف، لن تصبح آمنة حتى تخطو خارج باب المصرف. ولم يسمع أبي بهذه الشائعة إلا بعد ذلك بفترة قصيرة، حين قال الشريك التنفيذي إنه قد خرق قاعدته الثابتة التي تقضي بألا يطلع أي شخص على حساب شخص آخر؛ إذ كشف عن سجل الحساب الخاص بوالدي للعديد من الأشخاص، لكي يثبت أن أبي لم يسحب بنسا واحدا من نقوده في ذلك اليوم. ولئن انتشر الخبر بأن والدي قد سحب نقوده، لكان ذلك عارا عليه؛ إذ استخدم معلومة حصل عليها بسبب مهنته لمنفعته الخاصة. وعلى الرغم من ذلك، فقد نال التصرف المزعوم إعجاب العديد من الأشخاص، حتى إنه بعد ذلك بسنوات عديدة، قال أحد الرجال الأفاضل لوالدي: «لكم كنت رائعا في إدارة أعمالك أيها الطبيب! لقد تمكنت من سحب جميع نقودك من ذلك المصرف بأمان!»
لم يكن والدي يتمتع بملكة التفكير العلمي، ولم يحاول تعميم معرفته وجمعها تحت قوانين عامة، غير أنه كان يكون نظرية عن جميع ما تعرض له تقريبا. لا أعتقد بأنني قد أخذت منه الكثير من الناحية الفكرية، غير أنه كان مثالا يحتذى به في الأخلاق لجميع أطفاله. وقد كانت إحدى قواعده الذهبية (وهي قاعدة يصعب اتباعها) هي «لا تصادق من لا يمكن أن تكن له الاحترام.»
Bog aan la aqoon
كان للدكتور داروين ستة أبناء: ماريان التي تزوجت من الدكتور هنري باركر، وكارولين التي تزوجت من جوزايا ويدجوود، إيرازموس ألفي، وسوزان التي لم تتزوج حتى ماتت، وتشارلز روبرت، وكاثرين التي تزوجت من الكاهن تشارلز لانجتون. (إن السيدة ويدجوود هي الوحيدة الباقية على قيد الحياة الآن من بين كل هؤلاء.)
ولد الابن الأكبر إيرازموس عام 1804، وتوفي دون أن يتزوج في السابعة والسبعين من عمره.
ومثل أخيه، تلقى تشارلز داروين تعليمه في مدرسة شروزبيري، وفي كلية كرايست بجامعة كامبريدج. وقد درس الطب في إدنبرة ولندن، وحصل على درجة البكالوريوس في الطب من جامعة كامبريدج، لكنه لم يتخذ أي خطوة لممارسة مهنة الطب، وبعد أن غادر كامبريدج، عاش حياة هادئة في لندن.
لطالما كان هناك شيء شجي فيما يكنه تشارلز داروين لأخيه إيرازموس من عواطف، وكأنه ما فتئ يتذكر حياة العزلة التي عاشها، وكذلك صبره الذي يثير العواطف وطبيعته العذبة. كان كثيرا ما يتحدث عنه بالاسم «أخي الكبير المسكين راس» أو «أخي الكبير العزيز فيلوس»، وأعتقد أن كلمة فيلوس (الفيلسوف) كانت مما بقي من تلك الأيام الخوالي التي عملا فيها في الكيمياء بمستودع الأدوات في شروزبيري، وقد كانت هذه الفترة من الذكريات السعيدة التي كان يعتز دوما بتذكرها؛ ولأن إيرازموس كان أكبر من تشارلز داروين بأكثر من أربع سنوات، فلم يمكثا معا طويلا في كامبريدج، لكنهما قد أقاما معا في النزل نفسه قبل ذلك حين كانا في إدنبرة، ثم أقاما معا لبعض الوقت بعد رحلة «البيجل» في منزل إيرازموس بشارع جريت مالبرا. وفي هذا الوقت أيضا، نجد أنه يتحدث عن إيرازموس بعاطفة كبيرة في خطاباته إلى فوكس؛ فنجده يستخدم كلمات مثل: «أخي الكبير العزيز الغالي.» وبعد ذلك بعدة سنوات، كان إيرازموس داروين يأتي إلى داون أحيانا، أو يزور أسرة أخيه في عطلة الصيف. لكن الأمر قد انتهى تدريجيا إلى أنه عزم على البقاء في لندن وعدم مغادرتها نظرا لسوء صحته؛ فاقتصرت رؤية كل من الأخوين للآخر على المرات التي كان يذهب فيها تشارلز داروين لزيارة أخيه، ويقضي معه أسبوعا في منزله بشارع كوين آن.
وفيما يلي نبذة قصيرة كتبها تشارلز داروين عن شخصية أخيه في الوقت نفسه تقريبا الذي أضيف فيه وصف والده إلى عمله «ذكريات»:
كان أخي إيرازموس يتمتع بذهن صاف للغاية، وقد كانت اهتماماته ومعارفه في الأدب والفن، وحتى في العلوم، شاملة ومتنوعة؛ فعلى مدى فترة قصيرة، كان يجمع النباتات ويقوم بتجفيفها، وعلى مدى فترة أطول بعض الشيء، كان يجري تجارب في الكيمياء. لقد كان شخصا لطيفا للغاية، وكثيرا ما كانت بديهته وظرفه يذكرانني بما أجده في أعمال تشارلز لام وخطاباته. ولقد كان رقيق القلب للغاية ... وكان ضعيفا عليلا منذ صباه؛ ولذا فلم يكن يتمتع بطاقة كبيرة. ولم يكن شخصا مرحا في أغلب الأحوال؛ فقد كان الاكتئاب يخيم عليه أحيانا، لا سيما عند بداية بلوغه مبلغ الرجال وكذلك في منتصف عمره. كان يقرأ كثيرا منذ صباه، وكان يشجعني على القراءة في أيام الدراسة ويعيرني الكتب. وبالرغم من ذلك، فقد كنا نختلف اختلافا كبيرا في طبيعة تفكيرنا وأذواقنا؛ حتى إنني أعتقد أنني لا أدين له بالكثير من الناحية الفكرية. وأنا أميل إلى الاتفاق مع فرانسيس جالتون في الاعتقاد بأن التعليم والبيئة لا يؤثران في عقل المرء إلا تأثيرا صغيرا، وأن معظم صفاتنا غريزية فينا.
بالرغم من أن اسم إيرازموس داروين غير معروف لدى الجمهور العام، فإننا قد نتذكره من خلال وصف شخصيته الذي ورد في كتاب كارلايل «ذكريات»، الذي سأذكر بعضا منه فيما يلي:
كان إيرازموس داروين رجلا مختلفا للغاية، وقد تعرف علينا منذ فترة قريبة (كان قد سمع بكارلايل في ألمانيا وغيرها)، وهو لا يزال يزورنا منذ ذلك الوقت حتى إنه أصبح صديقا للعائلة يتردد على منزلنا كثيرا، غير أن زياراته قد صارت تتباعد وتقل أكثر فأكثر بمرور الوقت؛ نظرا لما يعاني منه من اعتلال الصحة، ولضيق وقتي وانشغالي كذلك، وغير ذلك. لقد كان يتمتع بنبوغ حقيقي يبعث على السخرية، وهو رجل من أكثر الرجال صدقا وإخلاصا، ومن أشدهم تواضعا. إنه الأخ الأكبر لتشارلز داروين (داروين المشهور هذه الأيام لكتابه عن الأنواع)، والحق أنني أفضل إيرازموس عنه لتفكيره وعقله، لولا اعتلال صحته الذي أجبره على أن يلوذ بالصمت والصبر في سكون ... لقد كان لسليل عائلة داروين الأمين هذا منزلة وحظوة خاصة لدى زوجتي العزيزة؛ فكثيرا ما كان يصحبها في عربته، ويسير بها في مختلف الطرق إلى المحلات وغيرها (فكانت عربة داروين بمنزلة نجمة الملك جورج بالنسبة لها) إذ لم تكن أجرة ركوب الحافلات العامة بالهينة في تلك الأيام، كما أن ما كان يتفوه به من عبارات قليلة وهي التي كانت ساخرة في معظم الأحيان، مصدر سرور كبير بالنسبة لها. لقد رأت فيه على الفور أنه «رجل فاضل تماما»، ويتمتع برجاحة عقل ورقة لا حدود لهما.
6
لم يحب تشارلز داروين تلك الصورة التي رسمها كارلايل لأخيه؛ إذ كان يرى أنه لم يستطع أن يصور فيها جوهر طبيعته المحبوبة للغاية.
Bog aan la aqoon
والآن، تدفعني رغبتي في أن أسهب في تصوير شخصية من الشخصيات التي أحبها جميع أبناء تشارلز داروين بكل صدق إلى أن أعرض هنا خطابا قد كتبته ابنة عمه الآنسة جوليا ويدجوود إلى مجلة «ذا سبيكتاتور» (3 سبتمبر 1881).
إن الوصف الذي قدمه السيد كارلايل، الذي قد أعجب الجميع ممن أحبوا الشخصية الأصلية، يعبر ولا شك عن قدر كبير من التميز، مما يستدعي بعض كلمات الإشادة والتقدير، لا سيما وأن الشخص الذي يصفه قد توفي بالفعل. إن إيرازموس، الأخ الوحيد لتشارلز داروين، والصديق المخلص والمحب للسيد كارلايل وزوجته، قد خلف من بعده دائرة من الراثين الذين لا يعوزهم الثناء من كاتب لامع كي يعطروا ذكرى هذا الشخص العزيزة إلى قلوبهم، غير أن ذلك الثناء قد أثار دون شك اهتمام دائرة أوسع، تلك التي ربما استقبلت هذه الذكرى بانتباه شديد قد خلف لديها انطباعا فريدا لا يمحى، بالرغم من أنه خلف في قلوب أناس لا يستطيعون أن ينقلوه؛ ولهذا، فلا بد أنه سيتلاشى سريعا معهم. وهم يتذكرون ذكراه بتقدير يليق بعبقري؛ فهو قد أثرى الحياة وزاد من حلاوتها، وشكل نقطة التقاء مشتركة لمن لم يكن لهم غيرها، وبأثر ذكراه القوي الفواح بالفردانية، عزز من احترام ما يتميز به البشر من خصوصية وتفرد في طبائعهم، وهي التي بدونها، يصبح الحكم الأخلاقي قاسيا وسطحيا دائما، وظالما في معظم الأحيان. لقد كان كارلايل يجد متعة خاصة في رفقة إيرازموس داروين التي تجمع بين الحيوية والسكينة، اللتين كانتا تبعثان فيمن يكون في رفقته حالة من التحفيز والهدوء في الوقت نفسه، ولم يكن ما قاله كارلايل عن إيرازموس بعد موته، هي المرة الأولى التي يتضح فيها ما كان يكنه له من تقدير ومودة؛ إذ لا تزال خطاباته التي تعبر عن القلق والتي كتبها قبل ما يقرب من ثلاثين عاما، حين كان يهدد حياته الواهنة التي طالت حتى الشيخوخة، مرض عضال، حاضرة في ذاكرتي. لقد جمعت بينه وبين كارلايل وزوجته علاقة صداقة دافئة. وأنا أتذكر جيدا أنها قد أبدت اعتراضا مثيرا للضحك، حينما عبر إيرازموس داروين عن تفضيله للقطط عن الكلاب؛ إذ إنها قد اعتبرت ذلك إهانة لكلبها الصغير «نيرو»، وتشي النبرة التي كان عليها ردها الذي قالت فيه: «أوه، لكنك مولع بالكلاب! إنك رقيق للغاية، فلا يمكن ألا تكون مولعا بها!» بأنها رأت منه الكثير من الأفعال التي تنم عن الكرم والطيبة، والتي كانت تتذكرها بامتنان. وقد جمعته علاقة حميمة كذلك بهاريت مارتينو، التي كان أصدقاؤها، كأصدقاء السيد كارلايل، لا يشعرون دوما بالفخر لوجودهم في معيتها. وقد سمعته غير مرة يدعوها بصديقتي المخلصة، ودائما ما كان ذلك يبدو لي أنه ثناء غريب على شيء ما في تلك الصداقة، لم يكن يقدمه سواه، غير أنني أعتقد أنها إن كانت قد كتبت عنه على الإطلاق، فقد كان ذكره سيحف بحرارة التقدير، وكان سيشكل نقطة التقاء غريبة ونادرة مع غيره مما يرد في كتاب «ذكريات»؛ فسوف يوجد الكثير من التشابهات والكثير من الاختلافات كذلك. من غير الممكن أن ننقل طابع إحدى الشخصيات، وإنما يمكننا أن نحاول طرحه فقط من خلال الشبه، وإنه لتمثيل فريد لتلك المفارقة التي تحكم مشاعرنا أو توجهها، أنني حين أحاول تقديم الرجل الذي يبدو أنه أكثر من أحبه كارلايل بخلاف أهله، فلا يمكنني أن أقول أي شيء أكثر توضيحا من أنه يبدو لي أنه يشترك في بعض السمات مع الرجل الذي لم يكن يحظى بتقدير كارلايل. في رأيي، إن عالم إيرازموس داروين كان يتمتع بالجاذبية التي كانت تتمتع بها كتابات تشارلز لام؛ إذ نجد فيه ذلك النوع نفسه من المرح وخفة الظل والرقة وربما العيوب نفسها. وعلى جانب آخر من طبيعته، لطالما ذكرني به حس الدعابة الغريب الرقيق والتعصب السطحي وتلك الينابيع العميقة من الشفقة وذلك المزيج العجيب من الحنق والسخرية المبهجة، البعيد كل البعد عن الازدراء، التي تميز الحوارات القديمة التي كان السير آرثر هلبس يكتبها على لسان شخصيته إلزمير. ولعلنا نتذكر هذه الطباع بوضوح فائق؛ لما كان هذا الشبه هو كل ما يتبقى منها. إن طباع المرء وشخصيته ليست مركبة فيه، وما نفقده بسبب ضعف قدرتنا على التعبير عن طباعنا، يبدو أننا نستعيده مرة أخرى من خلال وضوح تلك الطباع. لقد توفي إيرازموس داروين وهو في سن كبيرة، غير أن ذاكراه ما تزال تفوح برائحة نضارة الشباب؛ إذ كان وجوده ينشر قدرا كبيرا من السعادة، من ذلك النوع المرتبط بالشباب، على العديد ممن هم حوله، ومنهم هذا القلم اللامع الذي تكفي شهادته لوضع هذا الإكليل الذاوي على قبره، بالرغم من أنها لا تشي بالتأكيد بالرغبة في ذلك.
إن الصفحات السابقة قد قدمت، على نحو سريع، قدرا كافيا قدر الإمكان من المعلومات عن الأسرة التي نشأ فيها تشارلز داروين، وهي تصلح كمقدمة لسيرته الذاتية التي سترد في الفصل التالي.
الفصل الثاني
سيرة ذاتية
[إن ما كتبه أبي من ذكريات تتعلق بسيرته الذاتية، التي تظهر في الفصل الحالي، كان قد كتبه لأبنائه، ولم يكن يخطر بباله قط حينها أنها سوف تنشر. وقد يبدو ذلك للعديد من الأشخاص على أنه أمر محال، أما من يعرفون والدي، فسوف يتفهمون أنه أمر ممكن جدا، بل طبيعي أيضا. وقد جاءت هذه السيرة الذاتية تحت عنوان «ذكريات عن تطوري الذهني والشخصي»، وهي تنتهي بالملاحظة التالية: «3 أغسطس 1876. لقد بدأت في كتابة هذه السيرة التي تسرد أحداث حياتي في الثامن والعشرين من مايو في هوبدين، وداومت، منذ ذلك الوقت، على الكتابة على مدى ساعة تقريبا في معظم العصاري.» وفي سرد شخصي وحميمي كهذا، قد كتب إلى الزوجة والأبناء، من الطبيعي جدا أن توجد بعض الفقرات التي يجب علي حذفها، ولا أرى ضرورة لبيان مواضع الحذف هذه. ولقد وجدت أنه من الضروري أن أصحح بعض الهفوات الواضحة في الكتابة، غير أنني لم أجر هذه التغييرات إلا في أضيق الحدود. إف دي.]
لقد بعث إلي محرر ألماني يطلب مني أن أكتب عن تطوري الذهني وتطور شخصيتي مع سرد جانب من سيرتي الذاتية. وقد رأيت أنني سأستمتع بهذه المحاولة، وأنها قد تثير اهتمام أبنائي أو أبنائهم؛ فأنا عن نفسي، أعرف أنني كنت سأهتم اهتماما كبيرا بقراءة عرض موجز للتطور الذهني لجدي، الذي قد كتبه هو بنفسه، حتى إن كان هذا العرض مملا ومختصرا للغاية؛ إذ كان سيثير اهتمامي أن أتعرف على أفكاره وأعماله وطريقته في أداء عمله. وقد حاولت أن أكتب سيرتي الذاتية هذه، كما لو أنني كنت ميتا أعيد النظر إلى حياتي من العالم الآخر. والواقع أنني لم أجد صعوبة في ذلك؛ إذ إن حياتي قد شارفت على الانتهاء، ولم أبذل الكثير من الجهد للاهتمام بأسلوبي في الكتابة.
لقد ولدت في شروزبيري في الثاني عشر من فبراير عام 1809، وتعود أولى ذكرياتي إلى حين كنت قد تخطيت الرابعة من العمر بعدة شهور، وذهبنا إلى منطقة بالقرب من أبيرجالي للاستحمام في البحر، وأنا أتذكر بعض الأحداث والأماكن هناك بالقليل من الوضوح.
توفيت والدتي في يوليو عام 1817، وكنت حينها أكبر من الثامنة بقليل، ومن الغريب أني لا أستطيع أن أتذكر أي شيء عنها سوى الفراش الذي ماتت عليه، وردائها الأسود المخملي، ومنضدة عملها ذات التصميم الغريب. وفي ربيع هذا العام نفسه، بعثت إلى مدرسة نهارية في شروزبيري وقضيت فيها عاما. وقد عرفت منهم أن وتيرتي في التعلم كانت أبطأ كثيرا من شقيقتي الصغرى كاثرين، وأعتقد أنني كنت ولدا شقيا، من نواح عديدة.
وفي ذلك الوقت الذي ذهبت فيه إلى هذه المدرسة النهارية، كان اهتمامي بالتاريخ الطبيعي، وبالجمع على وجه الخصوص، قد تشكل وتطور؛ فكنت أحاول معرفة أسماء النباتات والتمييز بينها، وكنت أجمع مختلف الأشياء من الصدف والأختام وطوابع البريد والعملات المعدنية والمعادن. وقد كان ذلك الشغف بجمع الأشياء، الذي يدفع بالمرء إلى أن يصبح مختصا في التاريخ الطبيعي، أو هاويا للفنون وجامعا للتحف القديمة، أو بخيلا؛ حاضرا في بدرجة كبيرة، ومن الواضح أنه كان فطريا؛ إذ إن أحدا من إخوتي لم يظهر قط أي اهتمام بمثل هذا الأمر.
Bog aan la aqoon
حدث واحد صغير في هذا العام ظل حاضرا في ذهني لا يبرحه، وأتمنى أن يكون ذلك لما كان يشعر به ضميري من ذنب شديد، وإنه لأمر غريب إذ يوضح أنني كنت مهتما بتنوع النباتات واختلافها وأنا في مثل هذه السن الصغيرة! كنت قد أخبرت فتى آخر (وأظن أنه لايتون، وهو الذي أصبح فيما بعد عالما مشهورا في علم الأشنات والنبات) أنني أستطيع إنتاج نرجسيات وزهور الربيع المختلفة الألوان، وذلك من خلال سقيها بسوائل ملونة معينة، وما كان ذلك بالطبع إلا خرافة شنيعة قد اختلقتها ولم أجربها قط. ويمكنني أن أعترف هنا أيضا بأنني كنت أميل في صغري إلى اختلاق مزاعم كاذبة عن عمد، وقد كان ذلك دوما لخلق بعض الإثارة؛ فعلى سبيل المثال، كنت قد جمعت في أحد الأيام بعض الفواكه الثمينة من أشجار أبي وخبأتها في الشجيرات، ثم انطلقت أجري لاهث الأنفاس لكي أعلن أنني قد عثرت على كنز من الفاكهة المسروقة.
لا بد أنني كنت فتى ساذجا للغاية في بداية عهدي بالمدرسة وذهابي إليها؛ ففي أحد الأيام، اصطحبني ولد يدعى جارنيت إلى متجر كعك، واشترى بعضا منه لكنه لم يدفع ثمنه؛ إذ كان البائع يثق به. وحين خرجنا سألته عن السبب في عدم دفعه الثمن، فأجابني على الفور: «ألا تعرف أن عمي قد منح البلدة مبلغا هائلا من المال شريطة أن يعطي كل تاجر أي شخص يرتدي قبعته القديمة ويحرك [إياها] بطريقة معينة ما يرغب فيه دون مقابل؟» وبعد ذلك، أراني كيفية تحريكها، ثم دخل متجرا آخر يتمتع فيه بالثقة كذلك، وطلب غرضا صغيرا محركا قبعته بالطريقة المناسبة، ثم حصل عليه بالطبع دون أن يدفع ثمنه. وعندما خرجنا تحدث إلي قائلا: «والآن، إن كنت ترغب في العودة إلى متجر الكعك (الذي ما زلت أتذكر موقعه بدقة شديدة)، فسوف أعيرك قبعتي، ويمكنك أن تحصل على أي شيء تريده إن حركت القبعة على رأسك بالطريقة الصحيحة.» قبلت هذا العرض السخي بكل سرور، ودخلت إلى محل الكعك وطلبت بعضا منه ثم حركت القبعة القديمة بالطريقة السليمة. وبينما كنت أسير خارجا من المتجر، اندفع البائع نحوي، فسقط مني الكعك ورحت أجري كي أنجو بحياتي، وكم كنت مندهشا من صيحات الضحك التي استقبلني بها صديقي المخادع جارنيت.
يمكنني أن أشهد لنفسي بأنني كنت صبيا محبا للخير، غير أنني أدين بذلك بالكامل إلى إرشاد أخواتي ومثالهن. إنني لا أعرف على وجه التحديد ما إذا كان حب الخير صفة فطرية أم مكتسبة. لقد كنت مولعا جدا بجمع البيض، لكنني لم آخذ قط أكثر من بيضة واحدة من عش كل طائر، فيما عدا مرة واحدة أخذت فيها البيض كله ، وما كان ذلك لقيمته، وإنما على سبيل استعراض قدراتي.
كنت أحب بشدة الصيد بالصنارة، وكنت أجلس على مدى ساعات طويلة على ضفة نهر أو بحيرة أراقب فلينة الصنارة؛ وحين كنت في مير، سمعت بأنني أستطيع قتل الدود بالملح والماء، ومنذ ذلك اليوم، لم أدخل دودة حية واحدة في خطاف الصنارة، متخليا بذلك ربما عن جزء من النجاح في الصيد.
وذات مرة حين كنت ما أزال ولدا صغيرا في المدرسة النهارية أو حتى قبل ذلك الوقت، تصرفت بقسوة، وضربت جروا صغيرا، وأظن أن ذلك كان بدافع الاستمتاع بالشعور بالقوة فحسب، لكن هذا الضرب لم يكن قويا بأي حال؛ إذ لم يعو الجرو، وأنا متيقن من ذلك لأنه كان في بقعة قريبة من المنزل. وما تزال تلك الواقعة تثقل بشدة ضميري، وهو ما يتضح من تذكري للمكان الدقيق الذي وقعت فيه تلك الجريمة. وأعتقد أن وطأتها راحت تزداد علي بسبب ما كنت أكنه من حب للكلاب في ذلك الوقت وهو الذي امتد على مدى فترة طويلة بعد ذلك، حتى أصبح شغفا لدي. ويبدو أن الكلاب كانت تدرك ذلك؛ فقد كنت بارعا في جعلها تحبني أكثر من أصحابها.
لم تتبق سوى حادثة أخرى هي التي أتذكرها بوضوح من أحداث هذا العام، الذي قضيته في مدرسة السيد كيس النهارية، وهي حادثة دفن جندي من سلاح الفرسان. من المدهش أنني ما زلت أستطيع أن أتذكر بوضوح حذاء الجندي العالي الرقبة وبندقيته القصيرة وهما معلقان بسرج حصانه، بينما تطلق الطلقات من حول المقبرة. لقد أهاج هذا المشهد في جميع الخيالات الشاعرية التي كانت بداخلي.
في صيف العام 1818، ذهبت إلى مدرسة الدكتور باتلر في شروزبيري، وقضيت فيها سبع سنوات حتى منتصف الصيف في عام 1825، حين بلغت السادسة عشرة. لقد أقمت في تلك المدرسة؛ فتمتعت بتلك الميزة العظيمة بأن أختبر حياة الدراسة الحقيقة؛ غير أنها لم تكن تبعد عن منزلي بأكثر من ميل واحد؛ لذا، فغالبا ما كنت أعدو إلى المنزل في الفترات الفاصلة الطويلة بين انتهاء الدراسة وإغلاق أبواب المدرسة في الليل. وأعتقد أن ذلك مثل ميزة كبيرة بالنسبة لي؛ إذ تمكنت من الحفاظ على ارتباطي بالمنزل وأسرتي. وفي بداية حياتي المدرسية، أتذكر أنني غالبا كنت أضطر إلى الجري بسرعة كي أصل في الموعد، وعادة ما كنت أنجح في ذلك؛ إذ كنت عداء سريعا، وحين كنت أشك في النجاح، كنت أتضرع إلى الله بدعائي سائلا العون منه، وأتذكر جيدا أنني كنت أعزو نجاحي إلى استجابة الله لدعائي، لا إلى سرعتي في الجري، وكم كنت أتعجب من عونه الدائم لي.
لقد سمعت أبي وأختي الكبرى يقولان إنني كنت أميل في طفولتي إلى التجول منفردا لمسافات طويلة، غير أنني لا أدري ما الذي كنت أفكر فيه في تلك الجولات. كثيرا ما كنت أشرد بذهني، وذات مرة بينما كنت عائدا إلى المدرسة من فوق المتاريس المحيطة بشروزبيري، والتي كانت قد تحولت إلى ممشى عام بدون حاجز على أحد الجانبين، تعثرت وسقطت على الأرض، غير أن الارتفاع لم يكن يزيد عن سبعة أو ثمانية أقدام. ومع ذلك، فإن عدد الأفكار الذي دار بذهني في أثناء تلك السقطة الصغيرة جدا والمفاجئة وغير المتوقعة تماما، كان مذهلا، ولا يبدو لي أنه يتفق مع ما أثبته المختصون في علم وظائف الأعضاء، على ما أعتقد، وهو أن الفكرة الواحدة تستغرق فترة ملحوظة من الوقت حتى تتكون.
كانت مدرسة السيد باتلر هي الأسوأ لتطوري الذهني على الإطلاق؛ إذ كانت تقليدية تماما، ولم يكن يدرس بها سوى بعض من الجغرافيا والتاريخ القديمين. لم أستفد من تلك المدرسة بأي قدر من التعليم؛ فعلى مدى حياتي كلها، لم أتمكن من إتقان أي لغة. وقد كانت هذه المدرسة تولي اهتماما عظيما بنظم الشعر، ولم أكن أجيد ذلك على الإطلاق. غير أنه كان لي العديد من الأصدقاء وكنا نحفظ معا مجموعة جيدة من أبيات الشعر القديم، فكنت آخذ أجزاء من هذه الأبيات وأدمجها معا، بمساعدة بعض الصبية الآخرين في بعض الأحيان، وهذا ما جعلني أتمكن من تناول أي موضوع شعرا. وقد كان الاهتمام كبيرا بحفظ الدروس التي تعلمناها في اليوم السابق، وهذا ما كنت أتقنه بسهولة كبيرة؛ فقد كنت أحفظ ما يقرب من الأربعين أو الخمسين سطرا لفيرجيل أو هوميروس، وأنا لا أزال في المصلى الصباحي، غير أن هذا الأمر لم يكن مفيدا على الإطلاق؛ فقد كانت جميع هذه الأبيات تتلاشى من ذاكرتي في غضون ثمان وأربعين ساعة. لم أكن بليدا، وباستثناء نظم الشعر، فقد كنت بوجه عام أجتهد في دراسة الأعمال الكلاسيكية وأداء واجباتي المتعلقة بها، دونما أي محاولة للغش. وأما الشيء الوحيد الذي كنت أستمتع بدراسته من تلك الدراسات، فقد كان بعض القصائد الغنائية لهوراس، التي أعجبتني بشدة.
عندما غادرت المدرسة، لم أكن بالنابغة ولا بالبليد بالنسبة لسني، وأعتقد أنني كنت في رأي أبي وجميع المدرسين، ولدا عاديا للغاية، أو إلى حد ما أقل من المستوى المعتاد في الذكاء. وقد قال لي والدي ذات يوم: «إنك لا تهتم بأي شيء سوى الصيد والكلاب ومطاردة الفئران، ولسوف تكون عارا على نفسك وكل عائلتك.» وهو ما أشعرني بالخجل والخزي الشديدين، لكن أبي، الذي كان أطيب من عرفت من الرجال والذي أحب ذكراه بكل قلبي، لا بد أنه كان غاضبا ومتحاملا بعض الشيء حين استخدم هذه الكلمات.
Bog aan la aqoon
وحين أعيد النظر بقدر استطاعتي في شخصيتي خلال فترة الدراسة، أجد أن الصفات الوحيدة التي كنت أتمتع بها في تلك الفترة والتي تبشر بمستقبل جيد، كانت تعدد اهتماماتي وشغفي بها؛ وامتلاكي لحماس كبير لما يثير اهتمامي؛ وإيجادي لسرور كبير في فهم أي أمر أو موضوع معقد. لقد تعلمت حساب إقليدس على يد معلم خاص، وأنا أتذكر جيدا ذلك الشعور الغامر بالرضا الذي منحتني إياه البراهين الهندسية الواضحة. وأتذكر بالوضوح نفسه، مدى السرور الذي شعرت به حين شرح لي عمي (والد فرانسيس جالتون) الفكرة الأساسية لورنية مقياس الضغط الجوي. وأما عن اهتماماتي الأخرى بعيدا عن العلوم، فقد كنت مولعا بقراءة مختلف الكتب، وقد اعتدت على الجلوس لساعات طويلة أقرأ فيها المسرحيات التاريخية لشكسبير، وقد كان ذلك عادة في نافذة قديمة بالجدران السميكة للمدرسة. وقد قرأت أيضا غير ذلك من الشعر مثل «الفصول» لتومسون وكذلك قصائد بايرون وسكوت، التي كانت قد نشرت حديثا. وأنا أذكر ذلك لأنني مع الأسف الشديد، وفي مرحلة لاحقة من حياتي، لم أعد أجد أي متعة في قراءة الشعر من أي نوع، بما في ذلك شعر شكسبير. وبخصوص الاستمتاع بالشعر، فيمكنني أن أضيف أيضا أنه في عام 1822، شعرت ولأول مرة بالاستمتاع الشديد بمشاهدة الطبيعة؛ إذ كنت في جولة بالخيول على حدود ويلز، وقد استمر هذا الشعور لفترة أطول من أي شعور مماثل متعلق بمتعة جمالية أخرى.
في بداية أيامي بالمدرسة، كان أحد الفتيان يقتني نسخة من كتاب «عجائب العالم»، وكثيرا ما كنت أقرأ فيه وأختلف مع الصبيان الآخرين بشأن صحة بعض المزاعم الواردة فيه، وأعتقد أن هذا الكتاب هو أول ما أثار في الرغبة في السفر إلى بلاد بعيدة، وهو ما تحقق بعد ذلك من خلال رحلة «البيجل». وفي الفترة الأخيرة من حياتي المدرسية، أصبحت مولعا للغاية بالصيد؛ فأنا لا أعتقد أن أحدا قد أبدى حماسا لأهم القضايا وأقدسها، أكثر مما أبديت من حماس نحو صيد الطيور. ولكم أتذكر بدقة تلك المرة الأولى التي اقتنصت فيها أول طائر شنقب، ولقد كان تأثري وحماسي عظيمين حتى إنني وجدت صعوبة كبيرة في تعبئة البندقية مجددا، من أثر ارتعاش يدي. ولقد استمر معي هذا الاهتمام بالصيد على مدى فترة طويلة، وأصبحت بارعا فيه. وحين كنت في كامبريدج، اعتدت أن أتمرن على رفع بندقيتي على كتفي أمام المرآة كي أتأكد من أنني أرفعها باستقامة، وأما الخطة الأخرى وهي الأفضل، فقد كانت أن أطلب من صديق لي أن يلوح بشمعة مضاءة، ثم أصوب نحوها مع تغطية فونية البندقية بكبسولة تفجير، وإذا كانت الإصابة دقيقة، فإن نفحة الهواء الخفيفة ستطفئ الشمعة. كان انفجار الكبسولة يصدر صوت طقطقة حادة، وقد سمعت بأن المشرف المدرسي قد علق على ذلك ذات يوم قائلا: «يا له من أمر غريب! إذ يبدو أن السيد داروين يقضي ساعات طويلة في قرقعة سوط في غرفته، إذ غالبا ما أسمع صوت هذه القرقعة حين أمر من تحت نوافذ غرفته.»
كان لدي العديد من الأصدقاء من صبيان المدرسة، وقد كنت أحبهم حبا جما، وأعتقد أن الود كان يغلب على طباعي في ذلك الوقت.
وأما بالنسبة إلى العلوم، فقد واصلت جمع المعادن بحماس كبير، غير أنني لم أتبع في ذلك أي طريقة علمية؛ كل ما كنت أهتم به هو العثور على معدن حديث «التسمية»، ونادرا ما كنت أحاول تصنيف ما أجمع. ولا بد أنني كنت أراقب الحشرات ببعض الاهتمام؛ فعندما كنت في العاشرة (1819)، قضيت ثلاثة أسابيع في بلاس إدواردز على ساحل البحر في ويلز، وقد كنت مهتما للغاية ومندهشا كذلك عندما رأيت حشرة كبيرة من نصفيات الجناح تجمع بين اللونين الأسود والقرمزي، وكذلك الكثير من حشرات العث (البزيات)، وخنفسة نمرية، وهي حشرات لا توجد في شروبشاير. وكنت قد نويت أن أبدأ في تجميع كل ما أجده من الحشرات الميتة؛ إذ إنني قد استشرت أختي وتوصلت إلى أنه ليس من الصواب أن يقتل المرء حشرة من أجل امتلاك تشكيلة من الحشرات. وعندما قرأت كتاب «سيلبورن» لوايت، استمتعت كثيرا بمراقبة عادات الطيور، وكتبت حتى بعض الملاحظات عن الموضوع. ومن سذاجتي، كنت أتعجب من أن كل الرجال الأفاضل لم يصيروا من المختصين في علم الطيور.
وقرب نهاية فترة المدرسة، بدأ أخي يعمل بجد في مجال الكيمياء، وأسس مختبرا جيدا في مستودع الأدوات بالحديقة وجهزه بالأجهزة المناسبة، وكان يسمح لي بمساعدته في معظم التجارب. لقد حضر الغازات جميعها والعديد من المركبات، أما أنا، فقد قرأت بعناية شديدة عدة كتب عن الكيمياء مثل «مختصر مبادئ الكيمياء» لهنري وباركس. وقد أثار الموضوع اهتمامي بدرجة كبيرة، وكثيرا ما كنا نستمر في العمل حتى وقت متأخر من الليل. كان ذلك هو الجزء الأفضل مما حظيت به من تعليم في فترة المدرسة؛ إذ تعرفت منه عمليا على معنى العلوم التجريبية. وبطريقة ما، ذاع عنا في المدرسة أننا نعمل في الكيمياء؛ ولأنها كانت واقعة غير مسبوقة، فقد لقبوني باللقب «غاز». وكذلك قد عنفني المدير الدكتور باتلر على الملأ ذات يوم؛ إذ كان يرى بأني أهدر وقتي في مثل هذه الموضوعات العديمة الجدوى، كما أنه قد نعتني ظلما ب «المستهتر»؛ ولما لم أفهم ما كان يعنيه، فقد بدا لي أنه زجر مرعب.
ولأنني لم أكن أبلي بلاء حسنا في المدرسة، فقد تصرف أبي بحكمة وأخرجني منها في سن أصغر من المعتادة، وبعثني (في أكتوبر 1825) إلى جامعة إدنبرة مع أخي، وقضيت فيها عامين أو سنتين دراسيتين. كان أخي يكمل دراسته في الطب، بالرغم من أنني أعتقد أنه لم ينتو ممارسته أبدا، وقد بعثني والدي إلى هناك كي أستهل أنا دراستي الطبية. لكنني سرعان ما توصلت إلى اقتناع بعد ذلك بفترة قصيرة، كنت قد استنتجته من بعض الأمور البسيطة، بأن والدي سيترك لي قدرا جيدا من الأملاك، مما يكفيني لأحيا في بعض من الدعة والراحة، غير أنني لم أتخيل قط أن أصبح على هذه الدرجة التي أنا عليها من الثراء. وبالرغم من ذلك، فقد كان اعتقادي هذا كافيا بأن يحجم لدي أي مجهود شاق أبذله لدراسة الطب.
كان التدريس في إدنبرة يعتمد كليا على المحاضرات، وقد كان ذلك مملا بدرجة لا تحتمل، وذلك باستثناء محاضرات الكيمياء التي كان يلقيها هوب، غير أنني كنت أرى أنه لا توجد أي ميزة للمحاضرات، وإنما لها الكثير من العيوب، وذلك على عكس القراءة. محاضرات الدكتور دانكان عن المواد الدوائية في الثامنة من صباح يوم شتوي، كانت من الذكريات التي أخشى تذكرها. أما الدكتور ... فقد كان يجعل محاضراته عن تشريح الجسم البشري مملة بقدر ما كان يتسم به هو شخصيا من شخصية مملة، وقد كان ذلك الموضوع يثير تقززي. وقد اتضح لي بعد ذلك مدى الضرر الذي شهدته في حياتي عندما لم يشجعني أحد على ممارسة التشريح؛ فلكنت إذن قد تغلبت على ما كنت أعانيه من تقزز، ولأفادني ذلك في عملي المستقبلي فائدة عظيمة. لقد كان ذلك من الأضرار التي لا يمكن علاجها، إضافة إلى عدم قدرتي على الرسم. لقد حرصت أيضا على زيارة الأجنحة السريرية في المستشفى بانتظام. وقد كانت بعض الحالات تشعرني بالحزن الشديد، حتى إن بعضها ما زال يتجسد في صور حية وواضحة أمامي، لكنني لم أكن بتلك الحماقة التي تجعلني أدع مثل هذا الأمر يقلل من ذهابي إلى هناك. إنني لا أستطيع أن أفهم السبب في أن هذا الجانب من دراستي للطب لم يثر اهتمامي بدرجة أكبر؛ إذ في خلال فصل الصيف الذي سبق حضوري إلى إدنبرة، كنت قد بدأت في رعاية بعض الفقراء في شروزبيري، الذين كان أغلبهم من النساء والأطفال. كنت أكتب وصفا كاملا للحالة بقدر ما أستطيع، وأدون فيه كل الأعراض، ثم أقرؤه على والدي بصوت عال، فيقترح هو المزيد من الفحوصات وينصحني بالأدوية التي يجب أن أقدمها لهم، والتي كنت أعدها بنفسي. في إحدى الفترات، كنت أعالج ما يزيد على اثني عشر مريضا وشعرت بحماس شديد لهذا العمل. إن أبي، الذي كان أكثر العارفين بالطباع والشخصيات، قد قال إنني سأصير طبيبا ناجحا؛ أي سيكون لي من المرضى الكثيرون. لقد كان يرى أن العنصر الأساسي في النجاح هو اكتساب ثقة الناس؛ أما ما قد رآه في وأقنعه بأنه ستكون لدي تلك الملكة على اكتساب الثقة، فهذا ما لا أعرفه. كنت قد حضرت أيضا عمليتين جراحيتين في قاعة العمليات في المستشفى بإدنبرة، غير أنهما كانتا فظيعتين جدا، وإحداهما كانت تجرى لطفل، وقد اندفعت خارجا قبل أن ينتهوا منهما. ولم يحدث قط أن حضرت أي عملية جراحية بعد ذلك، وما كان لأي دافع أن يقنعني بالقيام بذلك؛ فقد كان ذلك قبل اختراع مخدر الكلوروفورم الرائع بالعديد من السنوات. ولم تبرح هاتان الحالتان خيالي لسنوات طوال.
مكث أخي عاما واحدا فقط في الجامعة؛ لذا ففي العام الثاني، كنت أتمتع بالحرية في التصرف كما يحلو لي، وقد كان ذلك لصالحي إذ أتاح لي الفرصة في التعرف على العديد من الشباب المولعين بالعلوم الطبيعية. وقد كان من بين هؤلاء، إينزوورث، الذي نشر بعد ذلك سردا لرحلاته إلى آشور؛ لقد كان عالم جيولوجيا من أعضاء جمعية فيرنر للتاريخ الطبيعي، وكان لديه بعض المعرفة بالعديد من الموضوعات. وكان منهم أيضا الدكتور كولدستريم، الذي كان يمثل نوعا مختلفا للغاية من الشباب؛ فقد كان أنيقا وتقليديا ومتدينا للغاية وعطوفا جدا، وقد نشر بعد ذلك بعض المقالات الجيدة عن علم الحيوان. وأما ثالث هؤلاء الشباب فهو هاردي، الذي أعتقد أنه كان سيصبح عالم نباتات رائعا، لكنه مات مبكرا في الهند. وآخرهم هو الدكتور جرانت، الذي كان يكبرني بعدة أعوام، لكنني لا أتذكر كيف تعرفت عليه. لقد نشر بعض المقالات الممتازة عن علم الحيوان، لكنه بعد أن عاد إلى لندن وأصبح أستاذا في كلية لندن الجامعية، لم يقم بأي إسهامات علمية، وهو الأمر الذي لم أتمكن من فهمه قط. لقد كنت أعرفه جيدا؛ فقد كان جادا وتقليديا، غير أنه كان يفيض بالحماس من تحت هذا القناع الخارجي؛ ففي إحدى المرات بينما كنا نسير معا، انفعل من فرط إعجابه بلامارك وآرائه عن التطور. أما أنا، فقد كنت أستمع إليه في اندهاش وصمت، محاولا قدر الإمكان أن أكون رأيي بحيادية ودون أي تأثير منه على عقلي. كنت قد قرأت فيما سبق كتاب «زونوميا أو قوانين الحياة العضوية» الذي كتبه جدي، والذي يحتوي على آراء مشابهة، غير أنها لم تترك أي تأثير على عقلي. ومع ذلك، فمن المحتمل أن تكون معرفتي بمثل هذه الآراء التي كانت تحظى بالقبول والثناء، في سن مبكرة نسبيا، قد مهد الأمر لقولي بها بعد ذلك في صورة مختلفة، في كتابي «أصل الأنواع». في ذلك الوقت، كنت أكن إعجابا كبيرا لكتاب «زونوميا»، لكنني بعد أن قرأته مرة ثانية بعد ذلك بفترة زمنية تتراوح بين عشرة أعوام وخمسة عشر عاما، وجدت أنه قد خذلني للغاية؛ إذ كان يحتوي على الكثير من الافتراضات مقابل نسبة صغيرة للغاية من الحقائق.
كان الدكتور جرانت والدكتور كولدستريم يهتمان اهتماما كبيرا بعلم الحيوانات البحرية، وكثيرا ما كنت أرافق الأول لجمع الحيوانات من برك المد والجزر، والتي كنت أقوم بتشريحها قدر ما أستطيع. كما أنني قد صادقت بعض الصيادين في نيوهافين، وكنت أرافق بعضهم أحيانا في صيدهم للمحار؛ ومن ثم أحصل على الكثير من العينات. لكن نظرا لأنني لم أمارس التشريح بصورة منتظمة، ولضعف المجهر الذي كنت أمتلكه، فلم تكن تلك المحاولات بالمثمرة في أغلب الأحوال. ومع ذلك، توصلت إلى اكتشاف مثير صغير، وقرأت ورقة بحثية قصيرة عن الموضوع أمام جمعية بليني للتاريخ الطبيعي، وذلك في بداية عام 1826. وقد كان هذا الاكتشاف يتمثل في أن ما يسمى ببيوض الطحلبيات من نوع فلاسترا
Flustra
Bog aan la aqoon
تمتلك القدرة على التحرك على نحو مستقل باستخدام أهداب، وهي في واقع الأمر يرقات. وفي ورقة بحثية أخرى قصيرة، أثبتت أن الأجسام الكروية الصغيرة التي كان يعتقد أنها من نوع فيوكاس لورياس
Fucus Loreus
وهي ما تزال في مرحلة صغيرة، هي في الواقع أكياس البيض للنوع الشبيه بالدود بونتوبديلا موريكاتا
.
كانت جمعية بليني للتاريخ الطبيعي تحظى بتشجيع البروفيسور جيمسون، وأعتقد أنه هو مؤسسها أيضا، وكانت تتألف من بعض الطلاب، وقد كانوا يلتقون في إحدى غرف الجامعة الموجودة تحت الأرض ليقرءوا أوراقهم البحثية عن العلوم الطبيعية ويتناقشون فيها. ولقد اعتدت على حضور هذه الاجتماعات بانتظام، وقد كانت تترك لدي تأثيرا جيدا؛ إذ كانت تزيد من حماسي، كما أنني كونت من خلالها علاقات جديدة ممن تتوافق اهتماماتي مع اهتماماتهم. وفي إحدى الأمسيات، نهض شاب مسكين وبعد أن ظل يتلعثم ويتأتئ لفترة طويلة من الوقت وقد احمرت وجنتاه من الخجل، تمكن أخيرا من أن يتفوه ببطء بالكلمات التالية: «سيدي الرئيس، لقد نسيت ما كنت سأقوله.» بدا الشاب المسكين مضطربا للغاية، وقد تملكت الدهشة من جميع الأعضاء، فلم يستطع أحد منهم أن يفكر في كلمة يقولها ليواري ما كان به من اضطراب. لم تكن تلك الأوراق التي كنا نقرؤها في تلك الجمعية الصغيرة مطبوعة؛ لذا فإنني لم أحظ برؤية ورقتي مطبوعة، لكنني أعتقد أن الدكتور جرانت قد لاحظ اكتشافي الصغير وكتب عنه في مقاله الممتاز عن الفلاسترا.
لقد كنت عضوا كذلك في الجمعية الطبية الملكية وكنت أحضر اجتماعاتها بانتظام، غير أنه لما كانت الموضوعات التي تعنى بها طبية فحسب، فلم أمنحها الكثير من الاهتمام. وكثيرا ما كانت الموضوعات التي يتحدثون عنها على درجة كبيرة من السوء، غير أنه كان بها أيضا بعض المتحدثين الجيدين، وكان من أفضلهم من أصبح حاليا السير جيه كاي-شاتلوورث. كان الدكتور جرانت يصحبني بين الحين والآخر إلى اجتماعات جمعية فيرنر للتاريخ الطبيعي؛ حيث تقرأ أوراق بحثية عديدة عن التاريخ الطبيعي وتجري مناقشتها، ثم تنشر بعد ذلك في المجلة التي تنشر محاضر هذه الاجتماعات. وقد سمعت فيها أودوبون وهو يلقي بعض الأحاديث الشائقة عن عادات طيور أمريكا الشمالية، وهو يهزأ بعض الشيء بووترتون دون وجه حق. وأذكر أيضا بهذه المناسبة أن أحد الزنوج كان يعيش في إدنبرة وقد سافر مع ووترتون وكان يكسب عيشه بتحنيط الطيور، وقد كان بارعا في ذلك، وكان يعطيني دروسا مقابل أجر أدفعه له، وقد اعتدت على الجلوس معه؛ إذ كان رجلا لطيفا وذكيا للغاية.
وقد اصطحبني السيد ليونارد هورنر أيضا ذات مرة إلى أحد اجتماعات الجمعية الملكية بإدنبرة، وهناك رأيت السير والتر سكوت في كرسي الرئيس، وقد اعتذر للحضور في الاجتماع إذ إنه لم يكن يشعر بأن المنصب مناسب له. كنت أنظر إليه وإلى المشهد كله بإعجاب وتبجيل، وأعتقد أنه بسبب هذه الزيارة في غضون شبابي، وكذلك بسبب حضوري اجتماعات الجمعية الطبية الملكية، شعرت بالتكريم حين انتخبت قبل بضع سنوات عضوا شرفيا في كلتا الجمعيتين، أكثر مما شعرت بالتكريم في أي موقف مشابه. ولئن كان أحدهم قد أخبرني في ذلك الوقت بأنني سوف أحظى بمثل هذا الشرف، لقلت بأن ذلك مما يثير السخرية وهو أمر غير محتمل على الإطلاق، كما لو أن أحدهم قد أخبرني بأنني سأنتخب ملكا لإنجلترا.
وفي عامي الثاني في إدنبرة، حضرت محاضرات الدكتور ... في الجيولوجيا وعلم الحيوان، غير أنها كانت مملة للغاية، وقد كان أثرها الوحيد علي هو أنني قد عزمت على ألا أقرأ ما حييت كتابا واحدا عن الجيولوجيا وكذلك ألا أدرس بأي نحو هذا العلم. وبالرغم من ذلك، فأنا متيقن من أنني كنت مستعدا لدراسة الموضوع من ناحية فلسفية؛ إذ كان السيد العجوز كوتون من شروبشاير، الذي كانت لديه معرفة كبيرة بالصخور، قد أراني قبل ذلك بسنتين أو ثلاث في مدينة شروزبيري أحد الجلاميد الصخرية الكبيرة المنجرفة بفعل الأنهار الجليدية، الذي كان يدعى باسم «حجر الجرس»، وقد أخبرني بأنه لا توجد صخرة أخرى من هذا النوع في مكان أقرب من كمبرلاند أو اسكتلندا، وقد راح يؤكد لي مليا أن العالم سينتهي قبل أن يتمكن أي إنسان من أن يفسر السبب في وجود هذا الجلمود في المكان الذي يقبع فيه الآن. وقد ترك ذلك انطباعا عميقا لدي، ورحت أتأمل وأتفكر في هذه الصخرة الرائعة؛ لذا فقد شعرت بسرور بالغ حين قرأت لأول مرة عن دور الكتل الجليدية في نقل الجلاميد الصخرية؛ إذ كنت فخورا بالتقدم الحادث في علم الجيولوجيا. ومن الأمور العجيبة كذلك أنني، رغم كوني ما زلت في السادسة والسبعين، فقد سمعت البروفيسور وهو يلقي محاضرة ميدانية عند جروف سولزبيري كريجز، وكان يتحدث عن جيب نافذ به حواف لوزانية، وقد تصلبت الطبقات على جانبيه، وانتشرت الصخور البركانية في كل مكان من حوله، وقال إنه صدع قد امتلأ بالرواسب من الأعلى، وقد أضاف متهكما أن هناك بعض الرجال يرون أنه قد حقن من الأسفل بمواد منصهرة. وحين أتذكر هذه المحاضرة، فإنني لا أتعجب من قراري بعدم دراسة الجيولوجيا.
ومن حضوري لمحاضرات ... تعرفت إلى المسئول عن المتحف، السيد ماكجليفراي، والذي قد نشر فيما بعد كتابا كبيرا وممتازا عن طيور اسكتلندا. وكنت أتحدث معه أحاديث شائقة للغاية عن التاريخ الطبيعي، وقد كان لطيفا معي للغاية، وأعطاني بعض الأصداف النادرة؛ إذ إنني كنت في ذلك الوقت أجمع الرخويات البحرية، لكنني لم أكن لذلك حماسا كبيرا.
أما عن عطلاتي الصيفية في هاتين السنتين، فقد كانت مخصصة بأكملها للاستمتاع والترفيه، لكنني دائما ما كنت أقرأ فيها بعض الكتب باهتمام كبير. وفي صيف عام 1826، ذهبت في جولة سير طويلة مع اثنين من الأصدقاء، وقد حملنا حقائبنا على ظهورنا عبر أرجاء شمال ويلز. كنا نسير ثلاثين ميلا في معظم الأيام، بما في ذلك يوم صعودنا جبل سنودن. وذهبت أيضا مع أختي في جولة بالخيول في شمال ويلز، ومعنا خادم يحمل ثيابنا في حقائب على سرج حصانه. أما عطلات الخريف، فقد كانت مخصصة للصيد، لاسيما في ضيعة السيد أوين في وودهاوس وضيعة عمي جوز [جوزيا ويدجوود، ابن مؤسس مصنع إتروريا ووركس] في مير. وقد كان حماسي للصيد عظيما، حتى إنني كنت أضع حذائي المخصص للصيد مفتوحا بجوار سريري حين كنت أذهب للنوم كي لا أضيع نصف دقيقة في ارتدائه صباحا. وفي إحدى المرات، وصلت إلى بقعة بعيدة من ضيعة مير، وكان ذلك في العشرين من أغسطس لصيد الطيهوج الأسود، وقبل أن أدرك أنني قد ابتعدت، ظللت أتحرك ببطء وصعوبة في النباتات الخضراء الكثيفة والصنوبر الاسكتلندي مع القائم على منطقة الصيد على مدى اليوم.
Bog aan la aqoon
لقد كنت أحتفظ بسجل دقيق أدون فيه جميع الطيور التي صدتها على مدى الموسم. وفي أحد الأيام، بينما كنت أصطاد في وودهاوس مع الابن الأكبر العقيد أوين، وابن عمه الرائد هيل، الذي أصبح فيما بعد لورد بيريك، واللذين كنت أكن لهما حبا جما، اعتقدت أنهما يستغلانني مع الأسف؛ فكلما أطلقت النار وظننت بأنني قتلت طائرا، تظاهر أحدهما بأنه يعيد حشو بندقيته، وصاح: «يجب عليك ألا تعد هذا الطائر؛ إذ إنني أطلقت النار عليه في الوقت نفسه.» وإذ أدرك القائم على منطقة الصيد المزحة، فإنه كان يجاريهما. وبعد بضع ساعات، أخبراني بالمزحة، لكنها لم تكن مزحة بالنسبة لي على الإطلاق؛ إذ إنني كنت قد أصبت عددا كبيرا من الطيور، لكنني لم أعرف عددها على وجه التحديد، ولم أستطع إضافتها إلى قائمتي، وهو ما اعتدت فعله من خلال عمل عقدة في قطعة من الخيط أربطها بعروة أحد أزرار ملابسي. وهذا ما اكتشفه صديقاي الخبيثان .
كم كنت أستمتع بالصيد، لكنني أعتقد أنني كنت أخجل من هذا الحماس، ولم أكن واعيا بذلك تماما؛ لأنني طالما حاولت أن أقنع نفسي بأن الصيد تمرين فكري؛ إذ يتطلب الكثير من المهارة لتحديد المكان الذي تجد فيه الكثير من الحيوانات والطيور التي يمكن اصطيادها، وكذلك للاستخدام الجيد للكلاب في الصيد.
ومن الزيارات الخريفية التي لا يمكنني نسيانها، زيارتي إلى مير عام 1827؛ إذ التقيت فيها السير جيه ماكينتوش، وهو أفضل متحدث قد استمعت إليه على الإطلاق. وقد سمعت بعد ذلك أنه قال: «إنني أجد في هذا الشاب شيئا مثيرا للاهتمام.» مما جعلني أشعر بالفخر. ولا بد أن قد قال ذلك بصفة أساسية، لما قد لمسه مني من اهتمام بجميع ما يقوله؛ إذ إنني لم أكن أفقه شيئا على الإطلاق فيما كان يتحدث فيه من موضوعات عن التاريخ والسياسة وفلسفة الأخلاق. وأعتقد أنه لأمر جيد أن يسمع شاب مثل هذا الثناء من رجل عظيم مثله؛ إذ إنه سيساعده على أن يظل على المسار الصحيح، بالرغم من أنه من الممكن أو حتى من المؤكد أن يثير فيه الغرور.
كانت زياراتي إلى مير على مدى هاتين السنتين أو الثلاث التالية، ممتعة للغاية، بغض النظر عن رحلات الصيد الخريفية. لقد كنا نتمتع في الحياة هناك بكامل الحرية؛ فقد كان الريف هناك جميلا للسير أو الركوب، وفي المساء، كانت تدور بيننا محادثات ممتعة للغاية، ولم تكن محادثات شخصية بدرجة كبيرة، وذلك كما هي العادة في تجمعات الأسر الكبيرة، وكذلك كنا نستمتع ببعض الموسيقى. وفي الصيف، اعتادت الأسرة بكاملها على الجلوس على درجات الرواق المعمد القديم؛ حيث تقع حديقة الزهور من أمامه، ويظهر انعكاس الضفة الخشبية المنحدرة والموجودة في الجهة المقابلة من المنزل، على البحيرة والتي نجد فيها بين الحين والآخر، سمكة تطل من الماء أو طائرا مائيا يجدف في مائها. كانت هذه الأمسيات التي قضيتها في مير، هي أكثر ما قد ترك في ذهني صورة بهذه الحيوية. كما أنني كنت شديد التعلق بعمي جوز وكنت أبجله للغاية؛ فقد كان قليل الكلام ومتحفظا، وهو ما قد يجعل منه رجلا مريعا إلى حد ما، غير أنه كان يتحدث معي في بعض الأحيان. لقد كان مثالا للرجل المستقيم، الذي يمتاز بحسن التقدير. ولا أعتقد أن قوة على الأرض كانت تجعله يحيد ولو بوصة واحدة عما كان يعتقد أنه المسار الصحيح. وقد اعتدت على أن أربطه في ذهني بتلك القصيدة الغنائية الشهيرة لهوراس، التي نسيتها الآن، لكنني أتذكر منها بعض الكلمات، مثل: «التهديد الناتج عن غضب طاغية.» (1) كامبريدج في الفترة من 1828 إلى 1831
بعد أن قضيت سنتين دراسيتين في إدنبرة، أدرك والدي، أو لعله قد سمع من أختي، أنني لا أرغب في أن أكون طبيبا؛ لذا فقد اقترح علي أن أصبح من رجال الدين. لقد كان معارضا تماما لفكرة أن أصبح رجلا لاهيا عاطلا، وهو ما بدا آنذاك على أنه وجهتي المرجحة. طلبت منه بعض الوقت لأفكر في الأمر؛ إذ من القدر القليل الذي سمعته أو فكرت فيه بشأن الموضوع، كنت مترددا بشأن تصريحي بالإيمان بجميع العقائد الثابتة التي تتبناها كنيسة إنجلترا، رغم أنني قد أعجبتني فكرة أن أكون قسا بالريف. وبناء على ذلك، فقد قرأت كتاب بيرسون عن العقيدة بعناية وحرص، وكذلك بضعة كتب عن الألوهية؛ وإذ لم تساورني أي شكوك على الإطلاق حينها في الحقيقة المؤكدة والحرفية لكل كلمة من الإنجيل، فسرعان ما أقنعت نفسي بأنه لا بد أن عقيدتنا مقبولة تماما.
وبالنظر إلى شدة ما تعرضت له من هجوم من جانب المتدينين المتشددين؛ فإنه ليبدو أمرا مثيرا للسخرية أنني كنت أنتوي ذات يوم أن أصبح من رجال الدين. أنا لم أتخل قط عن نيتي تلك وكذلك لم يتخل أبي عن أمنيته هذه، غير أنهما قد ماتتا على نحو طبيعي حين غادرت كامبريدج وانضممت إلى رحلة «البيجل» بصفتي مختصا في التاريخ الطبيعي. ولئن كان من الممكن أن نثق بعلماء الفراسة، فإنني كنت سأصلح من أحد الجوانب لأن أكون رجل دين؛ فقبل بضع سنوات، أرسل إلي أمناء أحد الجمعيات الألمانية المعنية بعلم النفس، خطابا يحثونني فيه على أن أرسل إليهم صورة فوتوغرافية لي، وبعد ذلك بفترة قصيرة، تلقيت منهم خطابا بمجريات أحد الاجتماعات، وقد بدا منه أن شكل رأسي كان محل نقاش عام، وقد أعلن أحد المتحدثين أن رأسي به ذلك الانتفاخ الذي يدل على التبجيل، وهو كبير بما يكفي لعشرة من القساوسة.
ونظرا لاتخاذ القرار بأن أكون من رجال الدين، فقد كان لزاما علي أن ألتحق بإحدى الجامعات الإنجليزية وأن أنال شهادة منها، لكن نظرا لأنني لم أفتح كتابا كلاسيكيا واحدا منذ أن غادرت المدرسة، فقد هالني أنني اكتشفت نسياني لكل ما تعلمته، بالرغم من أن ذلك قد يبدو غير معقول، وذلك في السنتين الفاصلتين فحسب، حتى إنني لم أعد أتذكر سوى القليل من الحروف اليونانية؛ ولهذا، فإنني لم أتابع إجراءات الالتحاق بكامبريدج في الوقت المعتاد في أكتوبر، بل درست مع معلم خاص في شروزبيري وذهبت إلى كامبريدج بعد عطلة أعياد الميلاد، في بداية عام 1828. وسرعان ما استعدت معرفتي الملائمة لمستوى المدرسة وكنت أستطيع ترجمة السهل من الكتب اليونانية، مثل ملحمتي هوميروس والإنجيل باليونانية، بمهارة متوسطة.
وبالنسبة إلى السنوات الثلاث التي قضيتها في كامبريدج، فقد كان ذلك وقتا مهدرا، ولم تكن الدراسة الأكاديمية فيها تختلف شيئا عن الدراسة في إدنبرة أو المدرسة. اخترت دراسة الرياضيات، وذهبت حتى في صيف عام 1828 مع معلم خاص (وهو رجل ممل للغاية) إلى بارماوث، لكنني كنت أتقدم فيها ببطء شديد؛ فقد كانت دراستها منفرة بالنسبة لي، وقد كان السبب الأساسي في ذلك هو أنني لم أستطع أن أجد أي معنى في المراحل الأولى لدراسة علم الجبر. ولم يكن هذا التعجل سوى حماقة مني، وقد أسفت بعد ذلك أسفا شديدا على أنني لم أواصل الدراسة حتى أتمكن على الأقل من فهم المبادئ الأساسية في الرياضيات بدرجة كافية؛ إذ يبدو أن الرجال الذين تمكنوا من ذلك يتمتعون بحاسة إضافية، غير أنني أعتقد أنني لم أكن لأحرز سوى درجة ضعيفة للغاية فيها. وأما بالنسبة إلى الكلاسيكيات، فلم أفعل شيئا سوى أنني قد حضرت عددا قليلا من المحاضرات الإجبارية، وقد كان حضورا شكليا فحسب. وفي عامي الثاني، كان علي أن أذاكر على مدى شهر أو شهرين لكي أنجح في الاختبار التمهيدي لنيل درجة الليسانس، وهو ما تمكنت من فعله بسهولة. ومرة أخرى في عامي الأخير، رحت أدرس ببعض الحماس كي أنال شهادتي النهائية، فراجعت الأعمال الكلاسيكية مع القليل من الجبر وحساب إقليدس، وهذا الأخير كنت أستمتع به بدرجة كبيرة، كما كانت هي الحال في المدرسة. ولكي أجتاز اختبار الليسانس، كان علي أيضا أن أدرس كتابي «براهين المسيحية» و«الفلسفة الأخلاقية» لبيلي. وقد درستهما بتدقيق، وأنا مقتنع بأنني كنت سأتمكن من أن أعيد كتابة الكتاب الأول بأكمله دون خطأ واحد، لكنني لم أكن لأتمكن بالطبع من كتابته بتلك اللغة الواضحة التي كتبه بها بيلي. وقد استمتعت بمنطق هذا الكتاب وكذلك بمنطق كتابه «اللاهوت الطبيعي»، قدر ما كنت أستمتع بحساب إقليدس. وقد كانت دراسة هذه الأعمال دراسة متأنية دون محاولة حفظها عن ظهر قلب، هي الجزء الوحيد من الدراسة الأكاديمية الذي كنت أرى آنذاك وما زلت أرى كذلك، أنه الجزء الأقل فائدة في تثقيف عقلي. لم أكن أفكر آنذاك في فرضيات بيلي، وإذ كنت أصدقها دون شك، فقد كنت مفتونا بالمسار الجدلي الطويل الذي اتخذه، وكنت مقتنعا به. ولما أن أجبت جيدا عن الأسئلة المتعلقة بكتب بيلي في الاختبار، وكذلك فيما يتعلق بإقليدس، ولم أفشل فشلا ذريعا فيما يتعلق بالأعمال الكلاسيكية؛ فقد حصلت على مرتبة جيدة بين الطلاب الذين لم يحصلوا على أعلى الدرجات. ومن الغريب أنني لا أستطيع أن أتذكر ترتيبي بالتحديد، وتتأرجح ذاكرتي بين المرتبة الخامسة والعاشرة والثانية عشرة في القائمة. [لقد ورد اسمه في المرتبة العاشرة بقائمة يناير 1831.]
كانت المحاضرات العامة عن فروع متعددة من المعارف والعلوم تلقى في الجامعة، وكان حضورها طوعيا إلى حد ما، لكنني كنت قد ضقت ذرعا بالمحاضرات في إدنبرة حتى إنني لم أحضر محاضرات سيجويك التي كانت تتميز بالبلاغة والإمتاع، ولربما لو فعلت ذلك، لأصبحت عالم جيولوجيا في وقت سابق على ما فعلت. وبالرغم من ذلك، فقد كنت أحضر محاضرات هنزلو عن علم النبات، وأحببتها للغاية لوضوحها الشديد وما كان يحضره هنزلو من رسومات توضيحية رائعة، لكنني لم أدرس علم النبات. وقد اعتاد هنزلو أن يأخذ طلابه، ومنهم عدد من الأعضاء الأقدم في الجامعة، في رحلات ميدانية، سيرا على الأقدام أو في العربات أو في قارب عبر النهر، لأماكن بعيدة، ويلقي محاضراته عن النباتات والحيوانات النادرة التي يشاهدونها هناك. وقد كانت هذه الرحلات ممتعة.
بالرغم من أن هناك بعض الجوانب الأخرى المضيئة فيما قضيته من وقت في كامبريدج، وذلك كما سنرى الآن، فقد كان وقتا مهدرا للأسف، بل أسوأ من ذلك. فنظرا لحبي الشديد للقنص والصيد، ولركوب الخيل في الريف حين لم يكن ذلك متوفرا، انضممت إلى مجموعة رياضية والتي كان من أعضائها بعض الفتيان المتهتكين محدودي التفكير. وقد اعتدنا على أن نلتقي مساء للعشاء معا في معظم الأحيان، وكثيرا ما كان يحضر هذه الأمسيات بعض من الرجال الأعلى منزلة، وأحيانا كنا نفرط في الشراب وننطلق في غناء مرح ثم نلعب بعض ألعاب الورق بعد ذلك. إنني أدرك أنه يجدر بي أن أخجل من الأيام والأمسيات التي قضيتها على هذه الحال، لكني لما كنت أستمتع بصحبة بعض أصدقائي، وقد كنا نقضي وقتا مبهجا للغاية، فلا يسعني إلا أن أشعر بالسرور الشديد حين أستعيد ذكرياتي في هذه الأوقات.
Bog aan la aqoon
ويسعدني بالرغم من ذلك أن أقول إنني قد حظيت بالعديد من الأصدقاء الآخرين الذين اختلفت طباعهم بدرجة كبيرة. فلقد جمعتني صداقة حميمة بويتلي، [وهو المبجل سي ويتلي، كاهن درم الفخري، وأستاذ الفلسفة الطبيعية المساعد السابق في جامعة درم] والذي حصل فيما بعد على أعلى الدرجات في الرياضيات في كامبريدج، وقد اعتدنا أن نذهب معا باستمرار للسير في جولات طويلة. وقد نقل إلي الاهتمام بالصور والصور المنقوشة الجيدة، التي ابتعت بعضا منها. ولقد كنت أزور متحف فيتسويليام باستمرار، وأعتقد أن حسي الفني كان جيدا إلى حد ما؛ فلطالما أعجبتني أفضل الصور، وكنت أناقشها مع المسئول عن المتحف. كما أنني قد قرأت كتاب السير جوشوا رينولد باهتمام كبير. وبالرغم من أن هذا الاهتمام لم يكن مغروسا لدي بالفطرة، فإنه قد استمر معي لسنوات عدة، وقد استمتعت كثيرا بالعديد من الصور المعروضة في المتحف الوطني بلندن، حتى إن صورة سباستيان ديل بيمبو كانت تثير في شعورا بالجلال والسمو.
وقد انضممت أيضا إلى مجموعة موسيقية، وأعتقد أن ذلك كان من خلال صديقي الودود هربرت، [وهو الراحل جون موريس هربرت، قاضي كارديف ودائرة مونماوث] الذي حصل على درجة عالية في الرياضيات. ومن خلال معرفتي بهؤلاء الرجال واستماعي إليهم وهم يعزفون الموسيقى، نما اهتمامي الكبير بالموسيقى، وغالبا ما كنت أختار موعد ذهابي للتجول بما يسمح لي بسماع الترانيم في كنيسة كلية كينجز كوليدج. وقد كان ذلك يمنحني سرورا عظيما، حتى إن القشعريرة كانت تنتابني أحيانا في جسمي. وأنا أثق أن اهتمامي هذا بالموسيقى وحسي الفني الذي تشكل فيها، لهو أمر بعيد كل البعد عن التصنع أو حتى التقليد؛ فقد اعتدت بوجه عام أن أذهب وحدي إلى كينجز كوليدج، وأحيانا كنت أستعين بالصبيان من جوقة المنشدين لكي يغنوا في حجرتي. وبالرغم من ذلك، فأنا لا أمتلك أذنا موسيقية تستطيع تمييز النشاز في اللحن ولا أن أحافظ على الإيقاع وأشدو بلحن على النحو الصحيح، وإنه لأمر ملغز حقا أنني كنت أتمكن من الاستمتاع بالموسيقى.
وسرعان ما أدرك أصدقائي الموسيقيون ذلك الأمر، وأخذوا أحيانا يتندرون علي بأن يعقدوا لي اختبارا يتمثل في حساب عدد الأنغام التي يمكنني تمييزها عند عزفها بوتيرة أسرع أو أبطأ. وقد كان لحن «ليحفظ الله الملك» عسيرا ومحيرا في تمييز أنغامه حين كان يعزف بمثل هذه الطريقة. وقد كان هناك رجل آخر أيضا، أذنه ليست موسيقية كأذني، ومن الغريب أنه كان يعزف قليلا على الناي، غير أنني قد تغلبت عليه ذات مرة في واحد من هذه الاختبارات الموسيقية.
غير أنني لم أمارس في كامبريدج أيا من الأنشطة بمثل هذا الحماس وذلك الشعور بالمتعة الذي كنت أمارس به نشاط جمع الخنافس. وقد كان كل هذا الشغف والحماس، لجمعها فحسب؛ إذ إنني لم أكن أشرحها، ونادرا ما كنت أقارن سماتها الخارجية بأوصافها المنشورة، لكنني كنت أحدد أسماءها على أي حال. وسوف أوضح دليلا على حماسي هذا؛ بينما كنت أنزع لحاء شجرة قديم في أحد الأيام، رأيت خنفستين نادرتين، وأمسكت كل واحدة منهما في يد، ثم رأيت ثالثة من نوع مختلف ولم أتحمل أن أضيعها؛ لذا فقد وضعت الخنفساء التي كنت أحملها في يدي اليمنى بفمي. يا إلهي! لقد أفرزت في فمي سائلا لاذعا جدا، وقد ألهب لساني، فاضطررت إلى أن أبصق الخنفساء من فمي، فضاعت مني، هي والخنفساء الثالثة.
لقد كنت بارعا للغاية في الجمع وابتكرت له طريقتين؛ فقد كنت أستعين بعامل لكي يكشط الطحالب عن الأشجار القديمة في فصل الشتاء، ويضعها في كيس كبير، وكذلك كان يجمع القمامة من قاع القوارب التي كانت تنقل البوص من المستنقعات؛ ومن ثم، فقد كنت أحصل على أنواع نادرة للغاية. إن مقدار سروري حين رأيت في كتاب «صور للحشرات البريطانية» لستيفنز تلك الكلمات السحرية «التقطها المحترم تشارلز داروين» كان يفوق سرور أي شاعر برؤية أول قصيدة تنشر له. لقد تعرفت على علم الحشرات من خلال ابن ابن عمة أبي ويليام داروين فوكس، وقد كان رجلا ماهرا ولطيفا، وكان لا يزال آنذاك في كلية كرايست، وقد توطدت أواصر الصداقة فيما بيننا. وبعد ذلك، أصبحت على قدر جيد من المعرفة بالأمر، وكنت أذهب لجمع الحشرات مع ألبرت واي من كلية ترينيتي، وهو الذي أصبح فيما بعد عالم آثار مشهورا، وكذلك مع إتش تومسون من الكلية نفسها، والذي أصبح فيما بعد رائدا في مجال الزراعة، ورئيس شركة سكة حديدية كبيرة وكذلك أحد أعضاء البرلمان. وهكذا، يبدو أن الاهتمام بجمع الخنافس يعطي دلالة على النجاح في الحياة مستقبلا!
إنني أتعجب من ذلك الانطباع الذي لا يمحى، والذي خلفته في عقلي العديد من الخنافس التي أمسكت بها في كامبريدج. يمكنني أن أتذكر بكل دقة، شكل بعض الأعمدة بعينها، وكذلك بعض الأشجار القديمة والضفاف التي وجدت عليها بعض الخنافس الجيدة. كانت خنفساء الصليب الأرضية الجميلة كنزا في تلك الأيام، وقد رأيت هنا في داون خنفساء تجري عبر أحد الممرات، لكنني حين التقطتها لاحظت على الفور أنها تختلف اختلافا طفيفا عن خنفساء الصليب الأرضية، واتضح بعد ذلك أنها الخنفساء الأرضية بي كوادريبيمكتاتوس
، وهي صنف مختلف عنها أو نوع شديد الصلة بها، لا يختلف عنها إلا قليلا في الشكل. لم أر في هذه الأيام الخوالي أيا من الخنافس الأرضية ليسينياس
Licinus
وهي حية، وهي التي لا تميزها العين غير المدربة عن العديد من الخنافس الأرضية السوداء، لكن أبنائي قد وجدوا هنا واحدة منها، وقد أدركت على الفور أنها جديدة علي، لكنني لم أبصر أي خنفساء بريطانية على مدى العشرين عاما الماضية.
إنني لم أذكر حتى الآن الحادثة التي أثرت في حياتي العملية كلها أكثر من أي شيء آخر، ألا وهي: صداقتي مع البروفيسور هنزلو؛ فقبل أن ألتحق بكامبريدج، سمعت عنه من أخي باعتباره رجلا يلم بجميع فروع العلوم، وبناء على هذا، فقد كنت مستعدا لتبجيله. لقد كان يستضيف في منزله لقاء مفتوحا كل أسبوع في المساء، يحضره جميع الطلبة وبعض أعضاء الجامعة الأكبر سنا من المهتمين بالعلوم. وسرعان ما تلقيت دعوة للحضور، عبر فوكس، وانتظمت في الذهاب إلى هناك. وفي وقت قصير، توطدت علاقتي بهنزلو، وعلى مدى النصف الثاني من وجودي في كامبريدج، كنت أذهب معه في جولات سير طويلة في معظم الأيام؛ ولهذا، فقد أطلق علي بعض الأساتذة لقب «الرجل الذي يسير مع هنزلو»، وكثيرا ما كان يدعوني في المساء لتناول العشاء مع أسرته. كان يتمتع بقدر كبير من المعرفة في علم النبات والحشرات والكيمياء وعلم المعادن والجيولوجيا. وكان يجد متعته الكبرى في استخلاص النتائج من الملاحظات المتواصلة الدقيقة، وكان يتمتع بسداد الرأي، وكذلك كان تفكيره سليما ومتوازنا بوجه عام، غير أنني لا أعتقد أن أحدا سيقول إنه كان يمتلك الكثير من النبوغ الأصيل. كان متدينا للغاية وشديد التمسك بعقيدته حتى إنه قد أخبرني ذات يوم أنه كان سيشعر بشديد الأسى إن تغيرت كلمة واحدة في القواعد التسع والثلاثين للإيمان وفقا لكنيسة إنجلترا. أما صفاته الأخلاقية، فقد كانت جديرة بالإعجاب من جميع النواحي؛ لم يكن في تكوينه مثقال ذرة من كبر، أو غير ذلك من المشاعر الحقيرة؛ فلم أر أحدا بهذا القدر من التواضع وهو الذي كان لا يفكر في نفسه أو مصلحته إلا قليلا. كما كان هادئ المزاج والطباع، ويتمتع بكياسة وذوق لا حدود لهما. بالرغم من ذلك، فقد رأيت أنه يمكن أن يثور غضبا من أي تصرف سيئ، إلى أقصى درجات السخط والتصرف الحازم.
Bog aan la aqoon
لقد رأيت ذات يوم بينما كنت أسير معه في شوارع كامبريدج منظرا مريعا وكأننا نشاهد حدثا من الثورة الفرنسية؛ فقد شهدنا اعتقال اثنين من نباشي القبور، وبينما هما يؤخذان إلى السجن، حررهما من رجل الشرطة حشد من بعض الرجال الأشداء الذين راحوا يسحبونهما من سيقانهما عبر الطريق الموحل والحجري. كان الوحل يغطيهما تماما، وقد نزفا من وجهيهما، سواء من تلقي الركلات أو من الحجارة. كانا يبدوان كالجثث، لكن الحشد كان كثيفا للغاية؛ فلم أبصر هذين الكائنين البائسين سوى للحظات خاطفة. ولم أر في حياتي غضبا أشد من ذلك الذي رأيته مرتسما على وجه هنزلو حين رأينا ذلك المشهد البشع. لقد حاول أن يخترق الحشد مرارا، لكن ذلك كان محالا؛ فاندفع مسرعا إلى العمدة، وأخبرني بألا أتبعه، وطلب مني أن أذهب لإحضار المزيد من رجال الشرطة. وقد نسيت القضية فيما عدا أن الرجلين قد دخلا السجن دون أن يقتلا.
لقد كان إحسان هنزلو واسعا ولا حدود له، كما قد أثبتت ذلك خططه الممتازة لمساعدة الفقراء من سكان أبرشيته، وذلك حين أصبح كاهنا لأبرشية هيتشام بعد ذلك بسنوات. لا بد أن لصداقتي مع رجل مثله فائدة كبيرة للغاية. ولا أستطيع هنا أن أقاوم ذكر هذه الحادثة البسيطة، التي تبرز تفهمه وعطفه؛ فبينما كنت أفحص بعض حبوب اللقاح على سطح رطب، لاحظت أن الأنابيب بارزة؛ فاندفعت ذاهبا إليه أخبره باكتشافي المدهش. والآن لا يسعني إلا أن أتخيل أن أي عالم نبات آخر لم يكن ليفعل أي شيء آخر سوى السخرية مني ومن مجيئي في مثل هذه العجلة لأخبره بذلك، غير أنه اتفق معي في أنها ظاهرة غريبة، وشرح لي معناها، ثم أوضح لي أيضا أنها ظاهرة معروفة للغاية؛ ومن ثم، فلم أكن خجلا من نفسي على الإطلاق، وإنما كنت مسرورا لأنني اكتشفت هذه الحقيقة بنفسي، غير أنني قد عزمت على ألا أسرع في التصريح باكتشافاتي بعد ذلك.
كان الدكتور هيوويل أحد الرجال الكبار السن المميزين الذين كانوا يأتون لزيارة هنزلو، وفي كثير من الأحيان، كنت أصحبه سيرا على الأقدام إلى منزله ليلا. وقد كان يلي السير جيه ماكينتوش في كونه أفضل من استمعت إليهم يتحدثون في الموضوعات المعقدة. وأما ليونارد جينينز [الذي كان سوم جينينز الشهير أحد أبناء عمومة والده] الذي نشر فيما بعد بعض المقالات الجيدة في التاريخ الطبيعي؛
1
فقد كان أخا زوجة هنزلو وكثيرا ما كان يمكث معه. لقد زرته في بيته الكنسي، الذي يقع على حدود منطقة فينز [سوافهام بولبيك]، وصحبته في العديد من الجولات التي استمتعت فيها بالحديث معه عن التاريخ الطبيعي. وتعرفت أيضا على العديد من الرجال الآخرين الذين كانوا أكبر مني سنا، ولم يكونوا من المهتمين بالعلوم، لكنهم كانوا أصدقاء لهنزلو. كان أحدهم اسكتلنديا، وهو أخو السير ألكسندر رامزي، وكان معلما في كلية يسوع: لقد كان رجلا لطيفا، لكنه لم يعش طويلا. ومن هؤلاء الرجال أيضا السيد دوز، الذي أصبح فيما بعد رئيس كاتدرائية هيرفيرد، واشتهر بنجاحه في تعليم الفقراء. وقد اعتاد هذان الرجلان وغيرهما ممن هم في المكانة نفسها أن يذهبوا مع هنزلو في رحلات بعيدة إلى الريف كان يسمح لي بالذهاب فيها معهم، وقد كانوا يعاملونني بغاية اللطف.
حين أعيد النظر في الماضي، أستدل منه على أنني كنت أتفوق على بقية الشباب في شيء ما، وإلا لما سمح لي أولئك الرجال بالاختلاط بهم، وهم أكبر مني في السن والمكانة الأكاديمية. ولم أكن مدركا لمثل هذا التفوق بالطبع، وأذكر أن صديقي تيرنر، وهو أحد الأصدقاء الذين كنت أمارس معهم الرياضة، قد رآني منشغلا بالعمل مع خنافسي؛ فقال بأنني سأصبح عضوا في الجمعية الملكية ذات يوم، وقد بدت لي تلك الفكرة حينها مستحيلة.
خلال عامي الأخير في كامبريدج، قرأت كتاب «سرد شخصي» لصاحبه هومبولت، بعناية واهتمام شديدين، وقد أثار في هذا العمل، وكذلك كتاب السير جيه هيرشيل «مقدمة إلى دراسة الفلسفة الطبيعية»، حماسا متوقدا لأن أضيف إلى ذلك الصرح العظيم للعلوم الطبيعية، حتى إن كان ما سأضيفه جزءا يسيرا للغاية. لم يؤثر في كتاب آخر، ولا حتى عشرات من الكتب، مثلما أثر في هذان الكتابان. لقد نسخت من كتاب هومبولت فقرات طويلة عن تينيريف، وقرأتها بصوت عال في إحدى تلك الرحلات السابق ذكرها، على (حسب اعتقادي) هنزلو ورامزي ودوز؛ ذلك أنني كنت قد تحدثت في مرة سابقة عن عظمة جزيرة تينيريف، وقد أعلن بعضهم عن رغبتهم في الذهاب إليها، لكنني أعتقد أنها لم تكن رغبة صادقة تماما. أما أنا، فقد كانت رغبتي صادقة تماما، وتحدثت مع تاجر في لندن كي أسأله عن السفن، لكن تلك الخطة قد ألغيت بالطبع، بسبب رحلة «البيجل».
كنت أقضي عطلة الصيف في جمع الخنافس وقراءة بعض الكتب والذهاب في جولات قصيرة. أما في الخريف، فقد كان وقتي كله مخصصا للصيد، لا سيما في وودهاوس ومير، وأحيانا مع إيتون الصغير في إيتون. وبصفة عامة، فإن السنوات الثلاث التي قضيتها في كامبريدج، كانت هي الأكثر مرحا في حياتي السعيدة؛ إذ كنت آنذاك بصحة ممتازة ومنشرح الصدر في معظم الأوقات.
حيث إنني قد قدمت إلى كامبريدج في البداية في أعياد الميلاد؛ فقد كان علي أن أدرس لفصلين دراسيين بعد النجاح في الاختبار النهائي، في بداية عام 1831، وقد أقنعني هنزلو آنذاك بأن أبدأ في دراسة الجيولوجيا؛ ولذا حين عدت إلى شروبشاير، رحت أفحص القطاعات، وقمت بتلوين خريطة خاصة بالأجزاء المحيطة بشروزبيري. وكان البروفيسور سيجويك ينوي زيارة شمال ويلز في بداية أغسطس ليستكمل أبحاثه الجيولوجية الشهيرة على الصخور القديمة، وقد طلب منه هنزلو أن يصحبني معه؛ وبناء على ذلك، فقد أتى وبات الليلة في منزل أبي.
دخلت معه في محادثة قصيرة في ذلك المساء، والتي قد تركت انطباعا قويا في ذهني. كان أحد العمال قد أخبرني أنه بينما كان يفحص حفرة قديمة من الحصى بالقرب من شروزبيري، قد وجد صدفة حلزونية استوائية كبيرة وبالية، كالتي نراها في القطع التي تزين مدافئ البيوت الريفية، ولأنه رفض بيع الصدفة، فقد كنت مقتنعا بأنه وجدها في الحفرة بالفعل. أخبرت سيجويك بالواقعة، وفورا قال (وكان محقا بلا شك) إنه لا بد أن أحدا قد ألقاها في الحفرة، لكنه أضاف بعد ذلك أنها إن كانت جزءا من الحفرة بالفعل، فسوف تكون كارثة عظيمة للجيولوجيا؛ إذ إن ذلك سيطيح بكل ما نعرفه عن الرواسب السطحية في مقاطعات منطقة ميدلاند. والواقع أن هذه الطبقات الأرضية من الحصى تعود إلى العصر الجليدي، وقد وجدت فيها بعد ذلك بسنوات بعض الأصداف القطبية المكسورة. لكنني كنت في غاية الدهشة حينذاك من أن سيجويك لم يكن مسرورا بهذا الاكتشاف الرائع لوجود صدفة استوائية بالقرب من السطح في وسط إنجلترا. وبالرغم من قراءتي للكثير من الكتب العلمية المتنوعة، فإن تلك الحادثة هي أول ما جعلني أدرك تماما أن العلم يقوم على تجميع الحقائق؛ بحيث يمكن استخلاص النتائج والقوانين العامة منها.
Bog aan la aqoon
وفي الصباح التالي، ذهبنا إلى لانجولين وكوني وبانجور وكابل كيريج. وقد كان لتلك الجولة فائدة كبيرة لي؛ إذ جعلتني أتعرف قليلا على كيفية فهم الطبيعة الجيولوجية لبلد ما. فكثيرا ما كان سيجويك يرسلني في اتجاه مواز للاتجاه الذي يسلكه، ويطلب مني أن أحضر معي عينات من الصخور وأن أحدد ترسب الطبقات على الخريطة. وأنا أشك بأنه قد فعل ذلك لأي شيء سوى مصلحتي؛ فما كان لعلمي القليل أن يساعده بأي شيء. وفي هذه الجولة، شهدت مثالا صارخا على مدى سهولة أن يغفل المرء ظواهر معينة رغم وضوحها الشديد، حتى يلاحظها أحدهم. فقد مكثنا ساعات عدة في كوم إدوال، نفحص الصخور بعناية شديدة؛ إذ كان سيجويك مترقبا لأن يجد بعض الحفريات بها، لكن أحدا منا لم يلاحظ قط أي أثر لتلك الظواهر الجليدية الرائعة التي تحيط بنا؛ فلم نلاحظ الصخور المحززة ولا الجلاميد الجاثمة ولا الركام الجليدي الجانبي والطرفي. لكن كانت تلك الظواهر بارزة للغاية، لدرجة أنني ذكرت في ورقة بحثية قد نشرت بعد ذلك بسنوات في مجلة «فيلوسوفيكال ماجازين»
2
أن منزلا قد أكلته النيران لم يكن ليبوح بقصته بوضوح أكبر من هذا الوادي. ولو ظل هذا الوادي ممتلئا بكتلة جليدية، لكانت هذه الظواهر أقل وضوحا مما هي عليه الآن.
وفي كابل كيريج، تركت سيجويك بمفرده وسرت في اتجاه مستقيم مستعينا بالبوصلة والخريطة عبر الجبال وصولا إلى بارماوث، ولم أسلك أي طريق ما لم يكن متوافقا مع مساري؛ فأتيت على بعض الأماكن البرية الغريبة، وقد استمتعت كثيرا بهذه الطريقة في السفر. زرت بارماوث لأرى بعض الأصدقاء من كامبريدج كانوا يقومون بالدراسة هناك، ثم عدت إلى شروزبيري ومير من أجل الصيد؛ ففي هذا الوقت، كنت أحسبني قد جننت إن تخليت عن صيد الحجل في سبيل الجيولوجيا أو غيرها من العلوم. (2) رحلة «البيجل» من 27 ديسمبر 1831 إلى 2 أكتوبر 1836
حين عدت إلى المنزل بعد جولتي الجيولوجية القصيرة في شمال ويلز، وجدت خطابا من هنزلو يخبرني فيه بأن القبطان فيتزروي مستعد لأن يخصص جزءا من مقصورته لأي شاب يتطوع بالذهاب معه دون أجر باعتباره اختصاصيا في التاريخ الطبيعي في رحلة «البيجل». وأعتقد أنني قد أوردت في دفتر يومياتي شرحا لجميع الظروف التي حدثت حينذاك؛ لذا لن أذكر هنا سوى أنني تحمست على الفور لقبول العرض، غير أن أبي عارض بشدة، لكنه لحسن الحظ قد قال لي: «إذا وجدت رجلا واحدا حكيما ينصحك بالذهاب، فسوف أعطيك موافقتي.» لذا، فقد كتبت خطابا في ذلك المساء ورفضت العرض. وفي الصباح التالي، ذهبت إلى مير لكي أستعد لليوم الأول من سبتمبر، وبينما كنت أصيد في الخارج ، بعث عمي [جوزايا ويدجوود] في طلبي، وعرض علي أن يقلني بالعربة إلى شروزبيري ويتحدث مع والدي؛ إذ كان يرى أنه من الحكمة أن أقبل العرض. ولطالما كان أبي يرى أنه من أرجح الرجال عقلا، ووافق على الفور بمنتهى اللطف. لقد كنت مسرفا بعض الشيء في كامبريدج؛ لذا، فقد قلت لوالدي كي أواسيه: «يجب أن أكون بارعا جدا لأنفق أكثر من مخصصاتي المالية وأنا على متن «البيجل».» فأجابني بابتسامة: «لكنهم أخبروني بأنك بارع للغاية.»
في اليوم التالي، ذهبت إلى كامبريدج لكي أرى هنزلو، ومن هناك، ذهبت إلى لندن لكي أرى فيتزروي، وسرعان ما رتبنا الأمر. وحين توطدت علاقتي بفيتزروي فيما بعد، سمعت أنه كاد يرفضني بسبب شكل أنفي! لقد كان من أشد المعجبين بلافاتار والمؤيدين له، وكان مقتنعا بأنه يستطيع أن يحكم على شخصية المرء من خلال شكل ملامحه، وقد كان يشك في أن شخصا بمثل أنفي يمكن أن يكون لديه القدر الكافي من الطاقة والعزم للقيام بالرحلة، لكنني أعتقد أنه اقتنع بعد ذلك بأن أنفي لم تعبر جيدا عني.
كان فيتزروي يتمتع بشخصية فريدة تمتاز بالعديد من الصفات النبيلة؛ فقد كان مخلصا لواجبه، وكريما إلى أقصى درجة، وجريئا، وحاسما، وكذلك كان يتمتع بنشاط لا حدود له. وكان صديقا مخلصا لجميع من هم تحت قيادته؛ فقد كان يخوض كل عسير لمساعدة من يستحقون المساعدة. وكان رجلا وسيما شديد الشبه بالنبلاء، ولطيفا دمث الخلق، وقد كان يشبه في ذلك خاله الشهير اللورد كاسلراي، وذلك كما أخبرني الكاهن في ريو. وعلى أي حال، لا بد أنه قد ورث الكثير من ملامحه من الملك تشارلز الثاني؛ فقد أعطاني الدكتور ووليك مجموعة من الصور الفوتوغرافية التي كان قد جمعها، وقد أدهشني ما رأيته من شبه شديد بين فيتزروي وبين إحدى الشخصيات فيها، وحين نظرت إلى اسمه، وجدت أنه إتش إي سوبيسكي ستيوارت، وهو كونت ألباني وسليل الملك نفسه.
كان فيتزروي يتمتع بمزاج سيئ للغاية. وكانت أسوأ حالاته عادة في الصباح الباكر، وبعينيه الحادتين كعيني العقاب ، كان يمكنه أن يكتشف أي خطأ في السفينة؛ فيلوم من فعله لوما قاسيا. لقد كان لطيفا للغاية معي، لكنه كان رجلا يصعب العيش معه على مستوى شخصي، وقد كان ذلك حتميا إذ كنا نقضي الوقت معا في مقصورته التي كنا نتشاركها. دبت بيننا خلافات عدة؛ ففي بداية الرحلة في باهيا في البرازيل على سبيل المثال، أيد العبودية واستحسنها، بينما كنت أبغضها، وأخبرني أنه زار للتو أحد ملاك العبيد الكبار، وقد نادى هذا الرجل على عدد من عبيده وسألهم عما إذا كانوا سعداء أم لا، وما إذا كانوا يريدون الحرية، فأجابوا بأنهم لا يريدونها. وقد سألته بعد ذلك، ببعض السخرية ربما، عما إذا كان يعتقد أن إجابة العبيد في حضور سيدهم تعني أي شيء على الإطلاق، فاستشاط غضبا وقال إنني أشكك في كلامه وإننا لا يمكننا العيش معا بعد الآن. وقد ظننت أنني سأرغم على مغادرة السفينة، لكن بمجرد أن انتشر الخبر، وهو ما حدث بسرعة؛ إذ طلب القبطان من الملازم الأول أن يذهب لتهدئة غضبه، وذلك من خلال الإساءة إلي، شعرت براحة كبيرة؛ إذ تلقيت دعوة من جميع صغار الضباط بمشاركة غرفتهم. غير أنه بعد ساعات قليلة، قد أبدى فيتزروي مروءته المعتادة وأرسل إلي أحد الضباط باعتذار منه وطلبه بأن أستمر في العيش معه.
لقد كان شخصا من أنبل من عرفتهم على الإطلاق، وذلك في العديد من الجوانب.
لقد كانت رحلة «البيجل» هي أهم حدث في حياتي على الإطلاق، وقد حددت شكل مساري المهني بأكمله، لكنها توقفت على أمر صغير للغاية، وهو أن عمي قد عرض علي أن يقلني في عربته لمسافة ثلاثين ميلا حتى شروزبيري، وهو أمر ما كان ليفعله الكثيرون من الأعمام، وكذلك على أمر تافه للغاية مثل شكل أنفي. لقد كنت أشعر دوما بأنني أدين لهذه الرحلة أنها وفرت لي الفرصة في أن أحظى بأول تدريب وتثقيف حقيقي لذهني؛ فدفعتني إلى الاهتمام الشديد بالعديد من فروع التاريخ الطبيعي؛ ومن ثم، فقد تحسنت مهاراتي في الملاحظة، بالرغم من أنها كانت جيدة على الدوام.
Bog aan la aqoon