115

Challenges by Detractors of the Quran: Criticism and Responses

دعاوى الطاعنين في القرآن الكريم = الطعن في القرآن الكريم والرد على الطاعنين

Daabacaha

دار البشائر الإسلامية

Lambarka Daabacaadda

الأولى

Sanadka Daabacaadda

١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م

Goobta Daabacaadda

بيروت - لبنان

Noocyada

المبحث الأول: الأدلة على صدق الرسول ﷺ (*) النبي ﷺ هو الذي نزل عليه القرآن، وهو الذي كان يقول إنه من عند الله تعالى، وإنه المعجزة الخالدة والآية الباقية، فإن كان النبي ﷺ صادقا فما يقوله حق، لذا أردت في هذا المبحث أن أذكر بعض أدلة صدق النبي ﷺ، التي منها نستفيد صدق القرآن وأنه من عند الله حقا. وكتوطئة لهذا المبحث، فإن إرسال الرسل واجب عقلي؛ لأن الفِطر والعقول دلتنا على وجود الخالق سبحانه وأنه المستحق للعبادة، ولكن العبادة لا يمكن الاهتداء لمعرفة صفتها وتفصيلها إلا عن طريق واسطة عن الله ﷿، يخبرنا بصفتها التي يحبها الله سبحانه، ويخبرنا عن ما يحل وما يحرم وما ينفعنا وما يضرنا (١)، لذلك قال الله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ [الإسراء:١٥]، وقال سبحانه: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ [النساء:١٦٥]، وقال ﷻ: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ [الإسراء:١٣٤]، وقال جل في علاه: ﴿وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [القصص:٤٧]. إذن فإرسال الرسل واجب عقلي، وهو أيضا واقع عملي؛ فإن التاريخ لا يزال يخبرنا عن الكثير من الرسل والأنبياء وحالهم مع قومهم، وكيف كانت لهم الغلبة والنصرة دائما؛ لذلك لما أنكرت قريش على النبي ﷺ رسالته، قال له الله تعالى آمرا له بالاستدلال بالتاريخ والواقع: ﴿قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ ...﴾ [الأحقاف:٩]. فإذا كان العقل والواقع يدلان على أهمية إرسال الرسل (٢)؛ لم يجز إذن إنكار بعثة الرسل، بل الواجب هو طلب الدليل من مدعي الرسالة والنبوة على رسالته، من باب قوله تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة:١١١]. وهذا ما فعله الكثير من الأمم السابقة إذا أرسل إليهم أحد، أو ادعى النبوة قالوا: ﴿... لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ...﴾ [البقرة:١١٨]، ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ..﴾ [الأنعام:٣٧]، ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ..﴾ [الأنعام:١٠٩]، ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ...﴾ [يونس:٢٠]. وفي المطالب الآتية نذكر بعض الآيات والدلائل على صدق رسالة النبي ﷺ: المطلب الأول: بشارة الكتب السابقة به: أعني شهادة التوراة والإنجيل والكتب السابقة بصدق الرسول ﷺ ومعجزته (القرآن)، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ﴾ [الشعراء:١٩٦]. يقول القرطبي: (أي وإن ذكر نزوله لفي كتب الأولين يعني الأنبياء، وقيل: أي إن ذكر محمد ﵇ في كتب الأولين ; كما قال تعالى: ﴿يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل﴾ [الأعراف: ١٥٧] والزبر الكتب، الواحد زبور، كرسول ورسل) (٣). وقال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ [الصف:٦].

(*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا المبحث - بكامله - ليس في المطبوع _________ (١) انظر: فتاوى ابن تيمية (١٩/ ٩٤). (٢) انظر: فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (١٩/ ٩٣). (٣) الجامع لأحكام القرآن (١٣/ ٩٣).

وقال تعالى مبينا أن النبي ﷺ وأصحابه ليسوا فقط مذكورين في التوراة والإنجيل بأسمائهم، بل بصفتهم كذلك: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح:٢٩]. بل بلغ من وصف الله تعالى لنبيه (في الكتب السابقة، أنهم أصبحوا يعرفونه كما يعرف أحدهم ابنه؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة:١٤٦]. وقد ألف العديد من العلماء كتبا جمعوا فيها النصوص من التوراة والإنجيل، وغيرها من الكتب السابقة، التي تشهد على صدق نبوة نبينا (، منهم: إبراهيم خليل أحمد ألف كتاب " محمد في التوراة والإنجيل والقرآن " (١). والداعية أحمد ديدات ألف كتاب " ماذا تقول التوراة والإنجيل عن محمد ﷺ " (٢). ود. أحمد حجازي السقا ألف كتاب " البشارة بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل " (٣). ود. صلاح صالح الراشد ألف كتاب "البشارات العجاب في صحف أهل الكتاب؛ ٩٩ دليلا على وجود النبي المبشر به في التوراة والإنجيل " (٤). وفي كتاب ابن القيم ﵀ (هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى) فصل بعنوان (نصوص الكتب المتقدمة في البشارة بالنبي ﷺ) (٥) وكذا في كتاب شيخه ابن تيمية "الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح" (٦). وفيما يلي بعض نصوص التوراة والإنجيل (٧): - في التوراة في سفر التثنية الأصحاح (١٨) فقرة (١٥ - ٣٠): يقول الرب تعالى لموسى: (سأقيم لبني إسرائيل نبيا من أخوتهم (٨) مثلك (٩) أجعل كلامي في فيه (١٠)، ويقول لهم ما آمره به، والذي لا يقبل قول ذلك النبي الذي يتكلم باسمي أنا أنتقم منه (١١) ومن سبطه). وفي سفر التثنية، الأصحاح (١٨) فقرة (٩ - ١٣): (قال موسى لبني إسرائيل لا تطيعوا العرافين ولا المنجمين، فسيقيم لكم الرب نبيا من أخوتكم مثلي، فأطيعوا ذلك النبي). - وفي الإنجيل: في إنجيل يوحنا الأصحاح (١٤) فقرة (١٥): (إن المسيح قال للحواريين إني ذاهب وسيأتيكم الفارقليط (١٢) روح الحق، لا يتكلم من قبل نفسه، إنما هو كما يقال له، وهو يشهد عليَّ وأنتم تشهدون؛ لأنكم معي من قبل الناس). وقد ذكر الدكتور حجازي أكثر من خمسين نصًا في الإنجيل على البشارة بنبينا ﷺ. وقد أخفى النصارى إنجيل برنابا الذي يصرح فيه باسم النبي ﷺ محمد وأنه النبي المبشر به من قبل المسيح وأنه آخر الرسل (١٣). وصدق الله إذ يقول: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف:١٥٧].

(١) إصدار مكتبة الوعي العربي، القاهرة، ط ٢،١٩٦٥، ومؤلف الكتاب قس مبشر من مواليد الإسكندرية عام ١٩١٩، يحمل شهادات عالية في علم اللاهوت من كلية اللاهوت المصرية، ومن جامعة برنستون الأمريكية، عمل أستاذا بكلية اللاهوت في أسيوط، كما أرسل عام ١٩٥٤ إلى أسوان سكرتيرا عاما للإرسالية الألمانية السويسرية، وكانت مهمته الحقيقية التنصير والعمل ضد الإسلام، لكن تعمقه في دراسة الإسلام قاده إلى الإيمان بهذا الدين وأشهر إسلامه عام ١٩٥٩، ومن مؤلفاته: "محمد في التوراة والإنجيل والقرآن" - "المستشرقون والمبشرون في العالم العربي والإسلامي" - "تاريخ بني إسرائيل". (انظر قالوا عن الإسلام للدكتور عماد الدين خليل (ص:٤٩)، وقد أجرت صحيفة القبس الكويتية معه لقاء مطولا في العدد ١٥٤٠ في تاريخ ٣٠/ ٨/١٩٧٦. (٢) صدر عن دار ابن الجوزي في الدمام، الطبعة الأولي،١٩٩٠، ترجمة وتعليق وليد عثمان. (٣) طبعته دار الجيل في بيروت، الطبعة الأولي، ١٩٨٩. (٤) طبعته دار ابن حزم في بيروت، الطبعة الأولي،١٩٩٨. (٥) طبعته مكتبة السوادي في جدة، ط ٢،١٩٩٠، تحقيق مصطفى شلبي، وهذا الفصل في ص:١٠٧. (٦) في المجلد الخامس من ص:١٩٧ إلى ٣١٩. (٧) ومن أراد حصرها فليراجع الكتب السابقة. (٨) أخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل، والنبي ﷺ من بني إسماعيل. (٩) وذكر الداعية أحمد ديدات ثمانية أوجه تدل على أن محمدا (مثل موسى ﵇، وهي ليست في عيسى ﵇ (انظر: ماذا تقول التوراة والإنجيل عن محمد ﷺ لديدات من ص:٣١ - ٤٢). (١٠) يعني يحفظ كلام الله وكان أهل الكتاب لا يحفظون التوراة والإنجيل. (١١) وهذا قريب من معنى الآية التي في آل عمران (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَاءَاتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (*) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران:٨١ - ٨٢]. (١٢) وبعضهم يقول (البارقليط) انظر تحفة الأريب (ص:٢٦٧)، وانظر هداية الحيارىلابن القيم (ص:١١٥) فإنه يسميه الفارقليط، والخلاف يسير وإنما حدث بسبب الترجمة. (١٣) انظر: كتاب الاختلاف والاتفاق بين إنجيل برنابا والأناجيل الأربعة، لمحمد عبد الرحمن عوض، دار البشير، القاهرة.

وعَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ ﵄ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي التَّوْرَاةِ، قَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي الْقُرْآنِ (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ الْمِلَّةَ الْعَوْجَاءَ بِأَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمًّا وَقُلُوبًا غُلْفًا) (١) وزاد الإمام أحمد: قَالَ عَطَاءٌ لَقِيتُ كَعْبًا (٢) فَسَأَلْتُهُ فَمَا اخْتَلَفَا فِي حَرْفٍ إِلَّا أَنَّ كَعْبًا يَقُولُ بِلُغَتِهِ: أَعْيُنًا عُمُومَى وَآذَانًا صُمُومَى وَقُلُوبًا غُلُوفَى) (٣). وعَنْ أَبِي صَخْرٍ الْعُقَيْلِيِّ، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنَ الْأَعْرَابِ قَالَ: جَلَبْتُ جَلُوبَةً (٤) إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنْ بَيْعَتِي قُلْتُ: لَأَلْقَيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ فَلَأَسْمَعَنَّ مِنْهُ. قَالَ: فَتَلَقَّانِي بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ يَمْشُونَ، فَتَبِعْتُهُمْ فِي أَقْفَائِهِمْ حَتَّى أَتَوْا عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْيَهُودِ نَاشِرًا التَّوْرَاةَ يَقْرَؤُهَا، يُعَزِّي بِهَا نَفْسَهُ عَلَى ابْنٍ لَهُ فِي الْمَوْتِ، كَأَحْسَنِ الْفِتْيَانِ وَأَجْمَلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «َنْشُدُكَ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ هَلْ تَجِدُ فِي كِتَابِكَ ذَا صِفَتِي وَمَخْرَجِي». فَقَالَ بِرَأْسِهِ هَكَذَا أَيْ لَا. قَالَ ابْنُهُ: إِنِّي وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا صِفَتَكَ وَمَخْرَجَكَ، أَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: «أَقِيمُوا الْيَهُودَ عَنْ أَخِيكُمْ، ثُمَّ وَلِيَ كَفَنَهُ وَحَنَّطَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ» (٥). ومن أعجب ما قرأت في هذا الباب قصة الإمام أبي محمد عبد الله الميورقي الترجمان (المتوفى سنة ٨٣٢ هـ)، الذي كان من أكبر قساوسة النصارى في وقته، بل كان مهيئا لأن يصبح البابا الأكبر، ثم أسلم عندما وقع على آية في الإنجيل تبشر بقدوم النبي ﷺ، ثم ألف كتاب " تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب "، وقسمه قسمين؛ القسم الأول: في ذكر قصة إسلامه، والثانية في الردود المفصلة على النصارى (٦)، وذكر قصة انتقاله إلى الإسلام في سبع عشرة صفحة هذا مختصرها:

(١) أخرجه البخاري (كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق، رقم:٢٠١٨). (٢) يعني كعب الأحبار الذي كان يهوديا من علماء اليهود ثم أسلم. (٣) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (رقم:٦٥٨٥). (٤) يعني بضاعة، اسم مصدر من جلب (انظر لسان العرب: ١/ ٢٦٨). (٥) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (رقم:٢٢٩٨١) وإسناده صحيح (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، المجلد السابع، رقم: ٣٢٦٩). (٦) ومن أبواب هذا القسم: باب في شهادة التوراة والإنجيل والزبور وجميع الكتب على نبوة محمد ﷺ.

قال: اعلموا رحمكم الله أن أصلي من مدينة ميورقة (١)، وكان والدي محسوبا من أهل حاضرة ميورقة، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري أسلمني إلى معلم من القسيسين، قرأت عليه الإنجيل حتى حفظت أكثره في مدة سنتين، ثم أخذت في تعلم لغة الإنجيل وعمل المنطق في ست سنوات، ثم ارتحلت من بلدي إلى مدينة لاردة من أرض القسطلان (٢)، وهي مدينة العلم عند النصارى في ذلك القطر، ويجتمع فيها طلبة العلم من النصارى، وينتهون إلى ألف وخمسمائة ولا يحكم فيهم إلا القسيس الذي يقرؤون عليه، فقرأت فيها علم الطبيعيات والنجامة مدة ست سنين، ثم تصدرت فيها أقرأ الإنجيل ولغته ملازما ذلك مدة أربع سنين، ثم ارتحلت إلى مدينة بلونية من أرض الأنبردية، وهي مدينة كبيرة جدا، وهي مدينة علم ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلوم، ولا يلبسون إلا الملف الذي هو صباغ الله، فسكنت في كنيسة لقسيس كبير السن عندهم كبير القدر اسمه: (نقلاو مرتيل)، وكانت منزلته فيهم في العلم والدين والزهد رفيعة جدا، انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة في دينهم تَرد عليه من الآفاق من جهة الملوك وغيرهم، ويصحب الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه، ويرغبون في التبرك به، وفي قبوله لهداياهم، ويتشرفون بذلك. فقرأت على هذا القسيس علم أصول النصرانية وأحكامه، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني من أخص خواصه، وانتهيت في خدمتي له وتقربي إليه إلى أن دفع إلىَّ مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله ومشربه، وصير جميع ذلك على يدي، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه كان يخلو فيه بنفسه، والظاهر أنه بيت خزانة أمواله التي كانت تهدى إليه، والله أعلم. فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثم أصابه مرض يوما من الدهر، فتخلف عن حضور مجلس إقرائه، وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون مسائل من العلوم، إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قول الله ﷿ على لسان نبيه عيسى ﵇ في الإنجيل -: (إنه يأتي من بعده نبي اسمه (البارقليط) (٣)، فبحثوا في تعيين هذا النبي من هو من الأنبياء، وقال كل واحد منهم بحسب علمه، وعظم مقالهم وكثر جدالهم، ثم انصرفوا من غير تحصيل فائدة، فأتيت مسكن القسيس، فقال: ما الذي كان عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته باختلاف القوم في اسم (البارقليط) وسردت له أجوبتهم، فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت: بجواب القاضي فلان في تفسيره الإنجيل. فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكاد فلان أن يقارب، ولكن الحق خلاف هذا كله؛ لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلا العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلا القليل، فبادرت قدميه أقبلهما وقلت له: يا سيدي قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيد، ولي في خدمتك عشر سنين، حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها، فلعل من جميل إحسانكم أن تمنوا علي بمعرفة هذا الاسم. فبكى الشيخ وقال لي: يا ولدي، والله أنت لتعز علي كثيرا من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليَّ، في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكني أخاف عليك أن يظهر ذلك عليك، فتقتلك عامة النصارى في الحين. فقلت له: يا سيدي، والله العظيم، وحق الإنجيل ومن جاء به، لا أتكلم بشيء مما تسره إلي إلا عن أمرك. فقال لي: إذن فاعلم يا ولدي أن البارقليط هو اسم من أسماء نبي المسلمين محمد ﷺ، وعليه نزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال ﵇، وأخبر أنه نزل هذا الكتاب عليه، وأن دينه هو دين الحق، وملته هي الملة البيضاء المذكورة في الإنجيل. فقلت: وما تقول في دين هؤلاء النصارى؟ فقال لي: يا ولدي لو أن النصارى أقاموا على دين عيسى الأول، لكانوا على دين الله؛ لأن عيسى وجميع الأنبياء دينهم دين الله، ولكن بدلوا وكفروا.

(١) جزيرة في البحر الأبيض جنوب أسبانيا وتابعة لها (انظر تحفة الأريب، ص:٦١) (٢) وهي مدينة في الأندلس (انظر تحفة الأريب، ص:٦٣). (٣) انظر: إنجيل يوحنا (١٤:١٥ - ١٧)، والكلمة فيه (باركليتكس) وترجتمها في النسخة العربية (المعزي)، والصحيح أن معناها (كثير الحمد) انظر تحفة الأريب (ص:٢٦٧،٦٦).

فقلت: يا سيدي وكيف الخلاص من هذا الأمر؟ فقال: يا ولدي بالدخول في دين الإسلام. فقلت: وهل ينجو الداخل فيه؟ قال: نعم ينجو في الدنيا والآخرة. فقلت: يا سيدي إن العاقل لا يختار لنفسه إلا أفضل ما يعلم؛ فإذا علمت فضل دين الإسلام فما يمنعك منه؟ فقال: يا ولدي إن الله لم يطلعني على حقيقة ما أخبرتك به إلا بعد كبر سني، ووهن جسمي، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك، لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة، وأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى، من رفعة الجاه والعز، والترف، وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر علي شيء من الميل إلى دين الإسلام، لقتلتني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين، فأقول لهم: إني جئتكم مسلما. فيقولون لي: قد نفعت نفسك بنفسك بالدخول في دين الحق، فلا تمن علينا بدخولك في دين خلصت فيه نفسك من عذاب الله. فأبقى فيهم شيخا كبيرا فقيرا ابن تسعين، لا أفقه لسانهم، ولا يعرفون حقي (١). فقلت: يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين وأدخل دينهم؟ فقال: إن كنت عاقلا، طالبا للنجاة، فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن، فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه قتلتك العامة لحينك، ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقله عني، فإني أجحده وقولي مصدق عليك، وقولك غير مصدق علي، وأنا برئ من ذلك إن فهت بشيء، فعاهدته بما يرضيه. ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته، فدعا لي عند الوداع بخير، فانصرفت إلى بلدي ميورقة، ثم سافرت إلى جزيرة صقلية، وأقمت فيه خمسة أشهر وأنا انتظر مركبا يتوجه لأرض المسلمين، فحضر مركب يسافر إلى مدينة تونس، فسافرت فيه من صقلية وأقلعنا عنها قرب مغيب الشفق، فوردنا مرسى تونس قبل الزوال، فلما نزلت بديوان تونس، وسمع بي الذين بها من أحبار النصارى أتوا بمركب وحملوني معهم إلى ديارهم، وصحبتهم أيضًا بعض التجار الساكنين أيضًا بتونس، فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطان أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان آنذاك مولانا أبا العباس أحمد ﵀ فذكر لي النصارى أن بدار السلطان المذكور رجلًا فاضلًا من أكبر خدامه اسمه يوسف الطبيب وكان طبيبه، ومن خواصه، ففرحت بذلك فرحًا شديدًا، وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب، فدللت عليه واجتمعت به، وذكرت له شرح حالي، وسبب قدومي للدخول في الإسلام، فسر الرجل بذلك سرورًا عظيمًا بأن يكون تمام هذا الخير على يديه، ثم ركب فرسه وحملني معه لدار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي، فاستأذنه لي فأذن لي، فمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمري، فقلت له: خمسة وثلاثون عامًا، ثم سألني عما قرأت من العلوم فأخبرته، فقال لي: قدمت قدوم خير، فأسلم على بركة الله. فقلت للترجمان -وهو الطبيب المذكور-: قل لمولانا السلطان إنه لا يخرج أحد من دين إلا ويكثر أهله القول فيه والطعن فيه، فأرغب من إحسانكم أن تبعثوا إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأحبارهم، وتسألوهم عني وتسمعوا ما يقولون في جنابي، وحينئذ أسلم إن شاء الله تعالى، فقال لي بواسطة الترجمان: أنت طلبت ما طلب "عبد الله بن سلام" من النبي ﷺ.

(١) وهذا سوء ظن بالمسلمين ولكنه كما قال هو: (حب الدنيا رأس كل خطيئة)، وحدثنا أحد المتخصصين في كتب النصارى من أساتذة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة أن هذا الرجل أسلم أيضا وقتلته النصارى.

ثم أرسل إلى أحبار النصارى وبعض تجارهم وأدخلني في بيت قريب من مجلسه، فلما دخل النصارى عليه قال لهم: ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب؟ قالوا له: يا مولانا هذا عالم كبير في ديننا، وقالت شيوخنا: إنهم ما رأوا أعلى من درجته في العلم والدين في ديننا، فقال لهم: وما تقولون فيه إذا أسلم؟ قالوا: نعوذ بالله من ذلك هو ما يفعل ذلك أبدًا. فلما سمع ما عند النصارى بعث إليّ، فحضرت بين يديه (وشهدت) شهادتي الحق بمحضر النصارى، فصلّبوا على وجوههم، وقالوا: ما حمله على هذا إلا حب التزويج، فإن القسيس عندنا لا يتزوج. وخرجوا مكروبين محزونين، فرتب لي السلطان ﵀ ربع دينار كل يوم في دار المختص، وزوجني ابنة الحاج محمد الصفار، فلما عزمت على البناء بها، أعطاني مائة دينار ذهبًا وكسوة جيده كاملة، فبنيت بها، وولد لي منها ولد سميته محمد على وجه التبرك باسم نبينا (١) (. المطلب الثاني: شهادة المنصفين: الكثير من المخالفين لديننا -سواء كانوا أهل كتاب أو ملاحدة- شهدوا لنبينا (بالصدق وأنه نبي من الله حقا، وبعضهم أسلم، وبعضهم لم يسلم ولكنه أنصف، وإذا كان المخالف المتربص المتصيد للأخطاء أقر بصحة مذهب خصمه، فإن هذا من أقوى الأدلة على صدق النبي ﷺ، وقد قيل سابقا: وشمائلُ شَهِدَ العَدُوُ بفضِلها والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأعْدَاءُ وقيل: ما قولُ مولانا الإمامُ البدرُ مَن بعلومِه شهد العدوُ الحاسدُ وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأحقاف:١٠]؛ قال القرطبي: (قال ابن عباس والحسن وعكرمة وقتادة ومجاهد: هو عبد الله بن سلام، شهد على اليهود أن رسول الله ﷺ مذكور في التوراة، وأنه نبي من عند الله، وفي الترمذي عنه: نزلتْ فيَّ آيات من كتاب الله؛ نزلت في: (وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (. ولما جاء ابن سلام مسلما من قبل أن تعلم اليهود بإسلامه قال: يا رسول الله، اجعلني حكما بينك وبين اليهود، فسألهم عنه: «أي رجل هو فيكم». قالوا: سيدنا وعالمنا. فقال: «إنه قد آمن بي»، فأساءوا القول فيه (٢).

(١) كتاب تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب لأبي محمد عبد الله الميورقي الترجمان (ص:٦١ - ٧٦)، طبعته دار البشائر، بيروت، الطبعة الأولي، ١٩٨٨ (بتصرف). (٢) الجامع لأحكام القرآن (١٦/ ١٢٥) بتصرف

روي أَنَس قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهْوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ، (١) فَأَتَى النَّبِيَّ (فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ؛ فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: «أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا» قَالَ: جِبْرِيلُ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ ... («أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدَ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَتْ» قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ يَبْهَتُونِي. فَجَاءَتْ الْيَهُودُ فَقَالَ النَّبِيُّ (: «أَيُّ رَجُلٍ عَبْدُ اللَّهِ فِيكُمْ؟» قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا. قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ». فَقَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا. وَانْتَقَصُوهُ، قَالَ: فَهَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ) (٢).

(١) أي وهو يقيم فيها وقت اجتناء الثمر في الخريف، الوسيط (خ ر ف). (٢) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، باب من كان عدوا لجبريل، رقم:٤٢١٠).

وأخرج الإمام الترمذي عن أَبِي مُوسَى قَالَ: خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إِلَى الشَّامِ، وَخَرَجَ مَعَهُ النَّبِيُّ (فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا أَشْرَفُوا عَلَى الرَّاهِبِ هَبَطُوا فَحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ الرَّاهِبُ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرُّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ، قَالَ: فَهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُهُمُ الرَّاهِبُ حَتَّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: هَذَا سَيِّدُ الْعَالَمِينَ، هَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَبْعَثُهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ. فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا عِلْمُكَ. فَقَالَ: إِنَّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنَ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ شَجَرٌ وَلَا حَجَرٌ إِلَّا خَرَّ سَاجِدًا، وَلَا يَسْجُدَانِ إِلَّا لِنَبِيٍّ، وَإِنِّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحَةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَلَمَّا أَتَاهُمْ بِهِ وَكَانَ هُوَ فِي رِعْيَةِ الْإِبِلِ، قَالَ: أَرْسِلُوا إِلَيْهِ. فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلُّهُ، فَلَمَّا دَنَا مِن الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فَلَمَّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشَّجَرَةِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: انْظُرُوا إِلَى فَيْءِ الشَّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِمْ، وَهُوَ يُنَاشِدُهُمْ أَنْ لَا يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى الرُّومِ؛ فَإِنَّ الرُّومَ إِذَا رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصِّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ. فَالْتَفَتَ فَإِذَا بِسَبْعَةٍ قَدْ أَقْبَلُوا مِنَ الرُّومِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جِئْنَا إِنَّ هَذَا النَّبِيَّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إِلَّا بُعِثَ إِلَيْهِ بِأُنَاسٍ، وَإِنَّا قَدْ أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ، بُعِثْنَا إِلَى طَرِيقِكَ هَذَا. فَقَالَ: هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: إِنَّمَا أُخْبِرْنَا خَبَرَهُ بِطَرِيقِكَ هَذَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ رَدَّهُ؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: فَبَايَعُوهُ. وَأَقَامُوا مَعَهُ، قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ أَيُّكُمْ وَلِيُّهُ. قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بِلَالًا، وَزَوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الْكَعْكِ وَالزَّيْتِ) (١). وهذه شهادة أخرى من خير قساوسة النصارى في وقته للنبي (:

(١) أخرجه الترمذي (كتاب المناقب، باب ما جاء في بدأ نبوة النبي ﷺ، رقم:٣٦٢٠) وإسناده حسن، ولكن ذكر أبي بكر وبلال في الحديث منكر، كما نص على ذلك كثير من العلماء-كالذهبي وابن القيم وابن حجر والجزري والمباركفوري- لأن أبا بكر أصغر من النبي ﷺ بسنتين وبلالا لم يولد في ذلك التاريخ بعد، فقوله: وبعث معه أبو بكر بلالا. غير صحيح والصحيح كما في رواية البزار (وأرسل معه عمه رجالا)، انظر: صحيح سنن الترمذي للألباني (٣/ ١٩١) والمشكاة (رقم:٥٩١٨) تحقيق الألباني، والصحيح المسند من دلائل النبوة للوادعي (ص:٨٠) وتحفة الأحوذي للمباركفوري (١٠/ ٦٦).

أخرج الإمام أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ حَدِيثَهُ مِنْ فِيهِ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ (١)، مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ مِنْهَا يُقَالُ لَهَا جَيٌّ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ، وَكُنْتُ أَحَبَّ خَلْقِ اللَّهِ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حُبُّهُ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ، أَيْ مُلَازِمَ النَّارِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ، وَأَجْهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَطَنَ النَّارِ الَّذِي يُوقِدُهَا، لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً. قَالَ: وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ. قَالَ: فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانٍ هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي، فَاذْهَبْ فَاطَّلِعْهَا. وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ، فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ، فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَائِسِ النَّصَارَى، فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَكُنْتُ لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النَّاسِ، لِحَبْسِ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ، فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ، دَخَلْتُ عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ. قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلَاتُهُمْ، وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ، وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا، فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: بِالشَّامِ. قَالَ: ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي، وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ، قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ أَيْنَ كُنْتَ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ فقُلْتُ: يَا أَبَتِ مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ، فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ فَوَاللَّهِ مَازِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، قَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ، دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ. فقُلْتُ: كَلَّا وَاللَّهِ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِنَا. قَالَ: فَخَافَنِي فَجَعَلَ فِي رِجْلَيَّ قَيْدًا، ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ. قَالَ: وَبَعَثَتْ إِلَيَّ النَّصَارَى، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى، فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ. قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى، فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ، فَآذِنُونِي بِهِمْ. فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ، فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلَيَّ ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ، فَلَمَّا قَدِمْتُهَا، قُلْتُ: مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ؟ قَالُوا: الْأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ. قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ أَخْدُمُكَ فِي كَنِيسَتِكَ، وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ. قَالَ: فَادْخُلْ.

(١) أصبهان مدينة مشهورة في إيران.

فَدَخَلْتُ مَعَهُ، فَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ؛ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُهُمْ فِيهَا، فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا شيئًا اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ، حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ، وَأَبْغَضْتُهُ بُغْضًا شَدِيدًا لِمَا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ، ثُمَّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ، يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ، وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا. قَالُوا: وَمَا عِلْمُكَ بِذَلِكَ؟ قُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ. قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ. قَالَ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا. فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ جَاءُوا بِرَجُلٍ آخَرَ، فَجَعَلُوهُ بِمَكَانِهِ، قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا لَا يُصَلِّي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلَا أَرْغَبُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا أَدْأَبُ لَيْلًا وَنَهَارًا مِنْهُ. قَالَ: فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَهُ، وَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا، ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَكَ، وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ، لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ (١)، وَهُوَ فُلَانٌ فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ.

(١) الموصل مدينة قديمة شمال العراق على طرف دجلة، بينها وبين بغداد أربعة فراسخ، ومقابلها من الجانب الشرقي نينوى، انظر: انظر الفتح الرباني (٢٢/ ٢٦٣) ولسان العرب: (١١/ ٧٣٠).

قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمَوْصِلِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ. فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ، وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ، وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ اللَّهِ ﷿ مَا تَرَى، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلَّا بِنَصِيبِينَ (١)، وَهُوَ فُلَانٌ فَالْحَقْ بِهِ. وَقَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ، لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ، فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبِي، قَالَ: فَأَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ، فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ، فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ إِنَّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلَّا رَجُلًا بِعَمُّورِيَّةَ (٢)، فَإِنَّهُ بِمِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ. قَالَ: فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا. قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغَيَّبَ، لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ، وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي. فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي. فَأَقَمْتُ مَعَ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ. قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ. قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ، فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ، فَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، وَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ، هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ، يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ، بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى؛ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ، فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ. قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغَيَّبَ. فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ أَمْكُثَ، ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ؟ وَغُنَيْمَتِي هَذِهِ. قَالُوا: نَعَمْ.

(١) مدينة كبيرة على شاطئ الفرات (انظر: الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد الشيباني (٢٢/ ٢٦٣). (٢) مدينة في بلاد الروم غزاها المعتصم وفتحها عام ٢٢٣ هـ، انظر المرجع السابق.

فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي، حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي، فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا، فَكُنْتُ عِنْدَهُ، وَرَأَيْتُ النَّخْلَ وَرَجَوْتُ أَنْ تَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، وَلَمْ يَحِقْ لِي فِي نَفْسِي، فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ، فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي، فَأَقَمْتُ بِهَا وَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ، لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرٍ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرِّقِّ، ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي، أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ، إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ، فَقَالَ فُلَانُ: قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةَ (١) وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ. قَالَ: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ (٢) حَتَّى ظَنَنْتُ سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي. قَالَ: وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلَةِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لِابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ: مَاذَا تَقُولُ؟ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً، ثُمَّ قَالَ: مَا لَكَ وَلِهَذَا أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ. قَالَ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتَ عَمَّا قَالَ، وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ بِقُبَاءَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ، وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذَوُو حَاجَةٍ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ. قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: «كُلُوا». وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ، قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ، فَجَمَعْتُ شَيْئًا، وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لَا تَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أَكْرَمْتُكَ بِهَا. قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْهَا، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: هَاتَانِ اثْنَتَانِ، ثُمَّ جِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَالَ: وَقَدْ تَبِعَ جَنَازَةً مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ، هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي، فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اسْتَدَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ. لِي قَالَ: فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْتُهُ، فَانْكَبَبْتُ عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَحَوَّلْ». فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ. قَالَ: فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ ... الحديث) (٣). شهادة النجاشي:

(١) بنو قيلة: ﴿بفتح القاف وسكون التحتانية وهي الجدة الكبرى للأنصار والدة الأوس والخزرج، وهي قيلة بنت كاهل بن عذرة﴾ [فتح الباري (٧/ ٢٨٧]. (٢) الرعدة، انظر الفتح الرباني (٢٢/ ٢٦٤). (٣) أخرجه الإمام أحمد في مسنده (رقم:٢٣٢٢٥) وإسناده حسن؛ قال الهيثمي في مجمع الزوائد (٩/ ٥٥٩): (رجاله رجال الصحيح إلا محمد بن إسحاق فإنه ثقة مدلس، وقد صرح بالسماع فانتفت شبهة التدليس)، ونقل الكلام السابق الساعاتي في الفتح الرباني (٢٢/ ٢٦٦) وأقره.

وهذه شهادة النجاشي الذي كان ملك الحبشة، وسيد النصارى، بل إنه أسلم؛ فقد أخرج الإمام أحمد أيضا عَن ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا، فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَجَعْفَرٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْفُطَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَأَبُو مُوسَى، فَأَتَوْا النَّجَاشِيَّ، وَبَعَثَتْ قُرَيْشٌ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَعُمَارَةَ بْنَ الْوَلِيدِ، بِهَدِيَّةٍ فَلَمَّا دَخَلَا عَلَى النَّجَاشِيِّ سَجَدَا لَهُ، ثُمَّ ابْتَدَرَاهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَا لَهُ: إِنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي عَمِّنَا نَزَلُوا أَرْضَكَ وَرَغِبُوا عَنَّا وَعَنْ مِلَّتِنَا. قَالَ: فَأَيْنَ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ فِي أَرْضِكَ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ جَعْفَرٌ: أَنَا خَطِيبُكُمُ الْيَوْمَ. فَاتَّبَعُوهُ فَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْجُدْ، فَقَالُوا لَهُ: مَا لَكَ لَا تَسْجُدُ لِلْمَلِكِ؟ قَالَ: إِنَّا لَا نَسْجُدُ إِلَّا لِلَّهِ ﷿. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ ﷿ بَعَثَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ (، وَأَمَرَنَا أَنْ لَا نَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ ﷿، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. قَالَ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: فَإِنَّهُمْ يُخَالِفُونَكَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأُمِّهِ؟ قَالُوا: نَقُولُ كَمَا قَالَ اللَّهُ ﷿؛ هُوَ كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ، أَلْقَاهَا إِلَى الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ، الَّتِي لَمْ يَمَسَّهَا بَشَرٌ، وَلَمْ يَفْرِضْهَا وَلَدٌ. قَال: َ فَرَفَعَ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ وَالْقِسِّيسِينَ وَالرُّهْبَانِ، وَاللَّهِ مَا يَزِيدُونَ عَلَى الَّذِي نَقُولُ فِيهِ مَا يَسْوَى هَذَا -يعني العود- مَرْحَبًا بِكُمْ وَبِمَنْ جِئْتُمْ مِنْ عِنْدِهِ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنَّهُ الَّذِي نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ، وَإِنَّهُ الرَّسُولُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، انْزِلُوا حَيْثُ شِئْتُمْ، وَاللَّهِ لَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ، لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أَحْمِلُ نَعْلَيْهِ وَأُوَضِّئُهُ. وَأَمَرَ بِهَدِيَّةِ الْآخَرِينَ فَرُدَّتْ إِلَيْهِمَا. ثُمَّ تَعَجَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَتَّى أَدْرَكَ بَدْرًا، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ (اسْتَغْفَرَ لَهُ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُهُ) (١). وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فخَرَجَ إِلَى الْمُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا (٢). فصلاة النبي ﷺ عليه تدل على إسلامه. ومن هذه الشهادات أيضًا:

(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند (رقم:٤٣٨٦)، وإسناده ثقات إلا حديج بن معاوية، قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب (ص:٢٢٦):صدوق يخطئ. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (٦/ ٢٤):رواه أحمد والطبراني وفيه حديج ابن معاوية، وثقه أبو حاتم وقال: في بعض حديثه ضعف وضعفه ابن معين وغيره، وبقية رجاله ثقات. اهـ. وله شواهد كثيرة من حديث أم سلمة، ومحمد بن حاطب، وجعفر بن أبي طالب، وأبي موسى ﵃ أجمعين أخرجها الهيثمي في مجمع الزوائد (٦/ ٢٤ - ٣٧). (٢) متفق عليه (البخاري: كتاب الجنائز، باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، رقم:١١٨٨، ومسلم: كتاب الجنائز، باب في التكبير على الجنائز، رقم:٩٥١) وورد في الصحيحين عن جابر أيضا.

ما رواه ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَاءَ حِبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا، فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلَا تَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي». فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟» قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. فَنَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِعُودٍ مَعَهُ، فَقَالَ: «سَلْ». فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ». قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ». قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ». قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ: «يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ، الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا». قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا». قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ. قَالَ: «يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟» قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ الْوَلَدِ؟. قَالَ: «مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ». قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ. ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِيَ اللَّهُ بِهِ» (١). يقول الجلندي ملك غسان -لما بلغه رسول رسول الله ﷺ يدعوه إلى الإسلام-: (والله لقد دلني على هذا النبي الأمي؛ أنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يغلب فلا يبطر، ويغلب فلا يضجر، ويفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي) (٢). وفي قصة الميورقي أيضا شهادة واضحة -كما تقدم - من أكبر علماء النصارى في عصره على صدق النبي ﷺ. وقد شهد له هرقل عظيم الروم - وكان من علماء النصارى- بأنه نبي صادق كما سيأتي. وإليك بعض هذه النصوص من المعاصرين: - (كان محمد ﷺ خاتم النبيين، وأعظم الرسل الذين بعثهم الله ليدعوا الناس إلى عبادة الله ..) [واشنجتون ايرقنج (٣)] (٤). -إن أشد ما نتطلع إليه بالنظر إلى الديانة الإسلامية، ما اختص منها بشخص النبي محمد ﷺ، وبذلك قصدت أن يكون بحثي أولا في تحقيق شخصيته، وتقرير حقيقته الأدبية علَّني أجد في هذا البحث دليلا جديدا على صدقه وأمانته، المتفق تقريبا عليها بين جميع مؤرخي الديانات، وأكبر المتشيعين للدين المسيحي .. [هنري دي فاستري (٥)] (٦).

(١) أخرجه مسلم (كتاب الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة، رقم:٣١٥). (٢) الروض الأنف شرح سيرة ابن هشام (٤/ ٢٥٠). (٣) مستشرق أمريكي، أولى اهتماما كبيرا بتاريخ المسلمين في الأندلس، من آثاره: (سيرة النبي العربي) مذيلة بخاتمة لقواعد الإسلام ومصادرها الدينية، و(فتح غرناطة) ألفه في تاريخ (١٨٥٩)، انظر: قالوا عن الإسلام، ص:٥٠ الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الرياض، الطبعة الأولي،١٩٩٢. (٤) انظر: حياة محمد، لإميل درمنغم، (ص:٧٢) ترجمة عادل زعيتر، الطبعة الثانية، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة،١٩١١. (٥) مقدم في الجيش الفرنسي، ولد سنة،١٨٥٠ وتوفي ١٩٢٧، قضى في الشمال الأفريقي ردحا من الزمن، من آثاره: مصادر غير منشورة عن تاريخ المغرب، والأشراف السعديون، ورحلة هولندي إلى المغرب، وغيرها. انظر (قالوا عن الإسلام):ص:٦١. (٦) قالوا عن الإسلام، د. عماد الدين خليل، (ص:١٠٨).

- هل رأيتم قط رجلا كاذبا يستطيع أن يوجد دينا عجيبا؟ إنه لا يقدر أن يبني بيتا من الطوب، فهو لم يكن عليما بخصائص الجير والجص والتراب، وما شاكل ذلك فما ذلك الذي يبنيه بيت، إنما هو تل من الأنقاض، وكثيب من أخلاط المواد؛ وليس جديرا أن يبقى على دعائمه اثنى عشر قرنا يسكنه مائتا مليون من الأنفس (١)، ولكنه جدير أن تنهار أركانه فينهدم، فكأنه لم يكن، وأني لأعلم أن على المرء أن يسير في جميع أموره طبق قوانين الطبيعة، وإلا أبت أن تجيبه طلبته، كذب ما يذيعه أولئك الكفار وإن زخرفوه حتى تخيلوه حق، ومحنة أن ينخدع الناس -شعوبا وأمما- بهذه الأضاليل .. [توماس كارلايل (٢)] (٣). -ويقول كارلايل أيضًا: (لقد أصبح من أكبر العار على كل فرد متمدن في هذا العصر، أن يصغي إلى القول بأن دين الإسلام كذب، وأن محمدا خداع مزور، فإن الرسالة التي أداها ذلك الرجل، ومازالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لمئات الملايين من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا. أكان أحدهم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقة الحصر والعد أكذوبة وخدعة؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدا، فلو أن الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرواج، ويصادفان منهم ذلك التصديق والقبول، فما الناس إذًا إلا بله ومجانين، وما الحياة إلا سخف وعبث؛ كان الأولى ألا تُخلق) (٤). - ومن أعظم الشهادات هذا الموج المترادف من قوافل الداخلين في الإسلام، الذي يقدر بمئات الألوف سنويا على مستوى العالم، بل نستطيع أن نقول وبكل ثقة، أنه لا تمر خمس دقائق إلا ويسلم فيها إنسان على مستوي العالم. - وقد ألف د. جفري لانغ الأمريكي كتابا بعنوان (الصراع من أجل الإيمان)، يتكلم فيه عن سبب إسلامه، وأنه كان بعد تأمل طويل في الدين، ثم عقد فصلا بعنوان (رسول الله) تكلم فيه كلاما طويلا في كيفية إعجابه بشخصية الرسول ﷺ، وكيف استدل على صدقه (٥). إلى غير ذلك من الشهادات الصادقة التي ما تركتها إلا إيثارا للاختصار، وقد جمعت في كتب كثيرة منها كتاب (قالوا عن الإسلام) الذي أصدرته الندوة العالمية للشباب، وهو كتاب حافل ملئ بالنقول والشهادات والاعترافات من جميع الملل. وقد ألف د. خالد السيوطي كتابا حافلا بعنوان "المهتدون إلى الإسلام من قساوسة النصارى وأخبار اليهود حتى القرن التاسع الهجري" (٦). المطلب الثالث: الآيات التي يجريها الله على يديه يخرق فيها العادة: وقد ألف العديد من العلماء في دلائل ومعجزات النبي ﷺ منهم: البيهقي وأبو نعيم وأبو بكر الفرياني وأبو حفص بن شاهين، وأعلام النبوة لأبي داود السجستاني، "ودلائل الرسالة" لأبي المطرف بن أصبغ القرطبي (٧)، ومن المعاصرين: "الصحيح من معجزات النبي " (لخير الدين وانلي (٨)، "والصحيح المسند من دلائل النبوة "لمقبل ابن هادي الوادعي (٩) وغيرهم، ومجموع هذه الأدلة تربو على الألف دليل (١٠).

(١) تعداد المسلمين جاوز المليار، ولكن هذا العالم يتحدث عن علمه ووقته حيث إنه ولد سنة ١٧٩٥ م. (٢) كاتب إنجليزي معروف، ولد سنة ١٧٩٥، وتوفي ١٨٨١، من آثاره (الأبطال)، وقد عقد فيه فصلا رائعا عن النبي ﷺ، انظر:"قالوا عن الإسلام" ص:١٢٣. (٣) "قالوا عن الإسلام" (ص:١٢٣). (٤) انظر: القرآن والمستشرقون، د. التهامي نقرة (ص:٢٥). (٥) الصراع من أجل الإيمان، انطباعات أمريكي اعتنق الإيمان، د. جفري لانغ (ص:١٢١)،ترجمة د. منذر العبسي، دار الفكر، دمشق، الطبعة الأولي،١٩٩٨. وقد ألف كتاب أخر بعنوان: "حتى الملائكة تسأل، رحلة إلي الإسلام في أمريكا". ترجمة د. منذر العبسي، دار الفكر المعاصر، بيروت الطبعة الأولي، ٢٠٠١. (٦) طبعته مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى ٢٠٠٢. (٧) انظر: الرسالة المستطرفة للكتاني (ص:٨٩)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي،١٩٩٥. (٨) إصدار دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولي،٢٠٠٠. (٩) الناشر مكتبة ابن تيمية، القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٨٧. (١٠) انظر: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم، ص ٨٧.

وهذه الآيات والمعجزات لاشك أنها حجة قاطعة على صدق رسالته ونبوته؛ لأن خرق العادة ومخالفة قانون الطبيعة، وتغير ناموس الحياة لا يمكن أن يفعله مخلوق، بل لا يكون إلا من الخالق للعادة سبحانه، والله تعالى لا يخرق العادة لكاذب، بل إنما يؤيد بها مرسليه للتدليل على صدقهم في دعوتهم، كما حصل من قلب النار بردا وسلاما على إبراهيم، وقلب عصى موسى إلى أفعى، وإحياء الموتى لعيسى، وغير ذلك من الآيات؛ لذلك كان القوم إذا أرسل إليهم أحد، أو ادعى النبوة قالوا: ﴿... لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ ...﴾ [البقرة:١١٨]، ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ..﴾ [الأنعام:٣٧] ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ..﴾ [الأنعام:١٠٩] ﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ ...﴾ [يونس:٢٠]. ولهذا كان من أنكر الآية بعد أن رآها في غاية من الكفر ومستحقا للعذاب؛ كما قال تعالى عن صالح: ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ﴾ [هود:٦٤]. وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ [الأنعام:١٢٤]. وقال ﷻ: ﴿سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [البقرة:٢١١]، يعني أن رؤية هذه الآيات لا تُبقي لأحد حجة. من هذه الآيات والمعجزات - غير معجزة القرآن التي سنتكلم عنها مفصلة -: ١ - خطاب الأشجار والأحجار وانقيادها للنبي (: عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قَالَ: سَأَلْتُ مَسْرُوقًا مَنْ آذَنَ النَّبِيَّ (بِالْجِنِّ لَيْلَةَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ؟ فَقَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ - يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ - أَنَّهُ آذَنَتْ بِهِمْ شَجَرَةٌ (١). وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ.» (٢). وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ ﵇ ذَاتَ يَوْمٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ، قَدْ خُضِّبَ بِالدِّمَاءِ، قَدْ ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، فَقَالَ جبريل: محمد مَا لَكَ؟ قَالَ: «فَعَلَ بِي هَؤُلاءِ وَفَعَلُوا». قَالَ: أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: «نَعَمْ أَرِنِي». فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي قَالَ: ادْعُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ. فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: قُلْ لَهَا فَلْتَرْجِعْ. فَقَالَ لَهَا فَرَجَعَتْ حَتَّى عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «حَسْبِي حسبي» (٣). وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ نَبِيٌّ؟ قَالَ: «إِنْ دَعَوْتُ هَذَا الْعِذْقَ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَجَعَلَ يَنْزِلُ مِنْ النَّخْلَةِ حَتَّى سَقَطَ إِلَى النَّبِيِّ (، ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعْ». فَعَادَ فَأَسْلَمَ الْأَعْرَابِيُّ (٤).

(١) متفق عليه (البخاري: كتاب المناقب، باب ذكر الجن، رقم:٣٦٤٦، ومسلم: كتاب الصلاة، باب الجهر بالقراءة في الصبح والقراءة على الجن، رقم:٤٥٠) (٢) أخرجه مسلم (كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ وتسليم الحجر، رقم: ٢٢٧٧). (٣) أخرجه أحمد (رقم: ١١٧٠٢)،وابن ماجه (كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء، رقم: ٤٠٢٨)، وإسناده صحيح بشواهده (انظر: دلائل النبوة، للوادعي /٩٦). (٤) أخرجه الدارمي (في المقدمهّ في باب ما أكرم الله نبيه من إيمان الشجر به، رقم: ٢٤) والترمذي (كتاب المناقب، باب في إثبات نبوة النبي ﷺ، رقم: ٣٦٢٨) واللفظ له وقال: حسن صحيح، (وانظر دلائل النبوة للوادعي/٩٨).

وعن جابر بن عبد الله ﵁ قال: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى نَزَلْنَا وَادِيًا أَفْيَحَ، فَذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْضِي حَاجَتَهُ، فَاتَّبَعْتُهُ بِإِدَاوَةٍ مِنْ مَاءٍ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا يَسْتَتِرُ بِهِ، فَإِذَا شَجَرَتَانِ بِشَاطِئِ الْوَادِي، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى إِحْدَاهُمَا، فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ» . فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَالْبَعِيرِ الْمَخْشُوشِ -أي الذي وضع فيه قيد- الَّذِي يُصَانِعُ قَائِدَهُ، حَتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الْأُخْرَى فَأَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَقَالَ: «انْقَادِي عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ» . فَانْقَادَتْ مَعَهُ كَذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْمَنْصَفِ مِمَّا بَيْنَهُمَا لَأَمَ بَيْنَهُمَا - يَعْنِي جَمَعَهُمَا - فَقَالَ: «الْتَئِمَا عَلَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ» . فَالْتَأَمَتَا، قَالَ جَابِرٌ: فَخَرَجْتُ أُحْضِرُ مَخَافَةَ أَنْ يُحِسَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِقُرْبِي فَيَبْتَعِدَ، فَجَلَسْتُ أُحَدِّثُ نَفْسِي، فَحَانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ، فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُقْبِلًا، وَإِذَا الشَّجَرَتَانِ قَدْ افْتَرَقَتَا، فَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى سَاقٍ (١) . ٢-أدب الحيوان معه: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَلْفَهُ، فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا فيه جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ (حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، وجاء إليه، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ (فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: «مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟» فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؛ فَإِنَّهُ شَكَاك إِلَيَّ وزعم أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ " (٢) .

(١) أخرجه مسلم (كتاب الزهد والرقاق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي بسر، رقم:٣٠١٤) . (٢) أخرجه أبو داود (كتاب الجهاد، باب ما يؤمر به من القيام على الدواب والبهائم، رقم: ٢٥٤٩) وأحمد (رقم: ١٧٤٧) وهو صحيح على شرط مسلم، وأصله في مسلم من غير قصة الجمل.

عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نُسْنِي عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا» . فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ، فَمَشَى النَّبِيُّ (نَحْوَهُ، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الكَلِبِ (١)، وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ. فَقَالَ: «لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ» . فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ، وَنَحْنُ نَعْقِلُ فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. فَقَالَ: «لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» (٢) . عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ لِآلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَحْشٌ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اشْتَدَّ وَلَعِبَ فِي الْبَيْتِ، فَإِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَكَنَ فَلَمْ يَتَحَرَّكْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَهُ) (٣) . وأخرج الحاكم عن سفينة مولى رسول الله (قال: (ركبت البحر فانكسرت سفينتي التي كنت فيها، فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة (٤) فيها الأسد، فأقبل يريدني، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله (فطأطأ رأسه، وأقبل إليَّ يدفعني بمنكبه حتى أخرجني من الأجمة ووضعني على الطريق، وهمهم فظننت أنه يودعني، فكان آخر عهدي به) (٥) . ٣-تكثير الطعام:

(١) أي المسعور انظر:. (٢) أخرجه أحمد (رقم: ١٢٢٠٣) وإسناده جيد (انظر: الدلائل للوادعي/١٠٢، وصححه الألباني فى صحيح الترغيب رقم ١٩٣٦) . (٣) أخرجه أحمد (رقم: ٢٤٢٩٧) وسنده حسن (انظر: الدلائل للوادعي/١٠٢) . (٤) أجمة: غابة، انظر: لسان العرب (١/٦٥٦) . (٥) أخرجه الحاكم (٢/٦٧٥) دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق مصطفى عبد القادر عطا،١٩٩١، والبخاري في التاريخ الكبير (٣/١٩٥) طباعة دار الفكر، مراجعة السيد هاشم الندوي، وهو حسن (انظر الدلائل للوادعي /٢٩٩) .

عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ ﵄ قَالَ: لَمَّا حُفِرَ الْخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ (خَمَصًا شَدِيدًا، فَانْكَفَأْتُ (١) إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَمَصًا شَدِيدًا؟ فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ (٢) فَذَبَحْتُهَا وَطَحَنَتْ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغِي وَقَطَّعْتُهَا فِي بُرْمَتِهَا، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: لَا تَفْضَحْنِي بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبِمَنْ مَعَهُ. فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ. فَصَاحَ النَّبِيُّ (فَقَالَ: «يَا أَهْلَ الْخَنْدَقِ إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلَا تَخْبِزُنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أَجِيءَ» . فَجِئْتُ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي فقلت لها: ويحك جاء النبي بالمهاجرين والأنصار. فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ. فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ. فَأَخْرَجَتْ لَهُ عَجِينًا فَبَصَقَ فِيهِ وَبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: «ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلَا تُنْزِلُوهَا» . وَهُمْ أَلْفٌ فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ) (٣) . وعن قيس بن النعمان قال: لما انطلق النبي ﷺ وأبو بكر مستخفين مرا بعبد يرعى غنما، فاستسقياه من اللبن، فقال: ما عندي شاة تحلب، غير أن ههنا عَنَاقًا (٤) حملت أول الشتاء، وقد أخدجت وما بقي لها لبن. فقال: «ادع بها، فدعا بها فاعتقلها النبي ﷺ، ومسح ضرعها ودعا حتى أنزلت» . قال: وجاء أبو بكر ﵁ بمحجن فحلب، فسقى أبا بكر، ثم حلب فسقى الراعي، ثم حلب فشرب، فقال الراعي: بالله من أنت، فوالله ما رأيت مثلك قط؟ قال: «أو تراك تكتم علىَّ حتى أخبرك؟» . قال: نعم. قال: «فإني محمد رسول الله» . فقال: أنت الذي تزعم قريش أنه صابئ؟ قال: «إنه ليقولون ذلك» . قال: فأشهد أنك نبي، وأشهد أن ما جئت به حق، وأنه لا يفعل ما فعلت إلا نبي، وأنا متبعك. قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومك، فإذا بلغك أني قد ظهرت فأتنا» (٥) . عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِيَّ (بِتَمَرَاتٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، فَضَمَّهُنَّ ثُمَّ دَعَا لِي فِيهِنَّ بِالْبَرَكَةِ، فَقَالَ: «خُذْهُنَّ وَاجْعَلْهُنَّ فِي مِزْوَدِكَ هَذَا، أَوْ فِي هَذَا الْمِزْوَدِ (٦) كُلَّمَا أَرَدْتَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَدْخِلْ فِيهِ يَدَكَ فَخُذْهُ وَلَا تَنْثُرْهُ نَثْرًا» . فَقَدْ حَمَلْتُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْرِ كَذَا وَكَذَا مِنْ وَسْقٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكُنَّا نَأْكُلُ مِنْهُ وَنُطْعِمُ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُ حِقْوِي (٧)، حَتَّى كَانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثْمَانَ، فَإِنَّهُ انْقَطَعَ) (٨) .

(١) انكفأ: رجع، انظر: النهاية في غريب الحديث (٤/١٨٣) . (٢) داجن: هي الدابة التي تعلفها الناس في بيوتهم، انظر: لسان العرب (١٣/١٤٨) . (٣) متفق عليه (البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، رقم: ٣٨٧٦، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم:٧٧١) . (٤) العَنَاق: الأنثى من أولاد الماعز والغنم من حين الولادة إلي تمام حول. المعجم الوسيط (ع ن ق)، (٢/٦٥٥) (٥) أخرجه الحاكم (٣/٩)،والطبراني في المعجم الكبير (١٨/٣٤٣) مكتبة العلوم والحكم، الموصل، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، ١٩٨٣، وسنده صحيح (انظر: الدلائل للوادعي/١١١) . (٦) المزود: ما يوضع فيه الزاد، والزاد الطعام، انظر لسان العرب (٣/١٩٨) . (٧) الحَقْو: الخَصر وهو موضع شد الإزار، انظر: النهاية في غريب الحديث (٥/٢٧٥)، والمعجم الوسيط (١/١٩٥) (ح ق و) . (٨) أخرجه أحمد (٨٤١٤)،والترمذي (كتاب المناقب، باب مناقب أبي هريرة (،رقم ٣٨٣٩) واللفظ له، وهو صحيح (انظر: الدلائل للوادعي/١١٢) .

عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ ﵁ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ (بِإِنَاءٍ وَهُوَ بِالزَّوْرَاءِ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ قَالَ قَتَادَةُ: قُلْتُ لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَلَاثَ مِائَةٍ أَوْ زُهَاءَ ثَلَاثِ مِائَةٍ) (١) . وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ: «اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ» . فَجَاءُوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ: «حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ مِنْ اللَّهِ» . فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ) (٢) . ٤-شفاء الأمراض على يديه: في يوم خيبر دعا النبي ﷺ علي بن أبي طالب، وكان أرمد فبصق في عينيه فبرأ (٣) . وعن يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ ابن الأكوع، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ؟ فَقَالَ هَذِهِ ضَرْبَةٌ أَصَابَتْنِي يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ (فنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ) (٤) . وعبد الله بن عتيك لما قتل أبا رافع انكسرت قدمه، فمسحها النبي ﷺ، فكأنها لم تشتك قط (٥) . ٥-انشقاق القمر: سأل أهل مكة النبي ﷺ آية، فدعا النبي ربه أن يشق القمر، فانشق القمر فلقتين، فلقة عن يمين الجبل والأخرى عن شماله، فقال النبي: «اشهدوا اشهدوا» . فقالوا: سحر أعيننا محمد. فقال بعضهم: إن محمدًا لا يستطيع أن يسحر الناس أجمعين، فاسألوا الركبان إذا جاءوا من الأسفار. فكلما جاء أحد سألوه: هل رأيت القمر انشق؟ فيقولون: نعم رأينا) (٦) . ٦-حنين الجذع: كان مسجد النبي ﷺ مبني على جذوع من نخل، فكان النبي ﷺ إذا أراد أن يخطب يستند إلى أحد هذه الجذوع دائما، ومكث على هذه مدة، فلما كثر الناس وأصبح المسجد يمتلئ بالمصلين، وكان الذين في الصفوف الأخيرة لا يرون النبي ﷺ لا سيما من النساء، فجاءت إحدى نساء الأنصار إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، إن لي غلاما نجارا، فإن شئت أمرته ليصنع لك منبرا. فوافق النبي ﷺ على هذا الأمر، فصنعتْ للنبي منبرا من ثلاث درجات، ووضعته في المسجد بجانب ذلك الجذع الذي كان النبي ﷺ يخطب إليه دائما، فلما خرج النبي ﷺ للخطبة، مر بجانب ذلك الجذع ولم يخطب عنده، وتعداه ورقى المنبر ليخطب عليه، فلما أحس الجذع أن النبي ﷺ تركه، حزن وجزع وأخذ يبكي ويصيح حتى كاد أن يتصدع حزنا على رسول الله (، فقال النبي ﷺ: «ألا تعجبون لحنين هذه الخشبة؟» فأقبل الناس وارتج المسجد من حنينها حتى كثر البكاء في المسجد، فنزل النبي ﷺ فوضع يده عليها يهدهدها (٧) ثم ضمها إليه، فجعلت تئن أنين الصبي الذي يُسكّت حتى سكتت، فقال النبي: «أما والذي نفس محمد بيده، لو لم أحتضنه لحن هكذا إلى يوم القيامة حزنا على رسول الله» . ثم أمر النبي ﷺ به فدفن تحت منبره. يقول جابر: بكت على ما كانت تسمع من الذكر) (٨) . ٧-عقوبة من خادع النبي ﷺ:

(١) متفق عليه (البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم:٣٣٧٩، ومسلم: كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي ﷺ،رقم:٢٢٧٩) . (٢) أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم:٣٣٨٦. (٣) متفق عليه (البخاري: كتاب المناقب، باب: مناقب علي بن أبي طالب (، رقم:٣٤٩٨، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب، رقم: ٢٤٠٦) (٤) أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، رقم: ٣٩٦٩. (٥) أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب قتل أبي رافع، رقم: ٣٨١٣. (٦) متفق عليه من طريق ابن مسعود وأنس وابن عباس ﵃: رواه البخاري عن ابن مسعود (كتاب المناقب، باب سؤال المشركين أن يريهم آية، رقم:٣٤٣٧) وعن أنس في الموضع السابق رقم:٣٤٣٨، وعن ابن عباس رقم:٣٤٣٩. وأخرجه مسلم عن ابن مسعود في كتاب صفة القيامة، باب انشقاق القمر، ٢٨٠٠،وعن أنس رقم:٢٨٠٢،وابن عباس رقم:٢٨٠٣. وأخرجه الترمذي عن ابن عمر (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة القمر، رقم:٣٢٨٨)،وعن جبير بن مطعم في الموضع السابق رقم:٣٢٨٩، وأخرجه غيرهم. (٧) هَدْهَدَ الشىءَ: حرَّكه: ويقال هدهدت الأمُّ صبيها: حرّكته حركةً رفيقة منظمة لينام انظر: المعجم الوسيط (١٠١٧/٢) (هدهد) . (٨) أخرجه البخاري عن ابن عمر (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم:٣٣٩٠) وعن جابر (في الموضع السابق رقم:٣٣٩٢)، وأخرجه الترمذي عن ابن عمر (كتاب الجمعة، باب ما جاء في الخطبة على المنبر، رقم:٥٠٥) ثم قال: وَفِي الْبَاب عَنْ أَنَسٍ وَجَابِرٍ وَسَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأُمِّ سَلَمَةَ.

عَنْ أَنَسٍ ﵁ قَالَ: كَانَ رَجُلًا نَصْرَانِيًًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ (، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا ولحق بأهل الكتاب، فعظموه ورفعوه وقالوا: هذا رجل يكتب لمحمد فأعجبوا به، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ. فما لبث أن قصم الله عنقه ومات، فَدَفَنُوهُ فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ. فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الْأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الْأَرْضُ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ النَّاسِ فَأَلْقَوْهُ) (١) . وغير ذلك من الأدلة والآيات والبراهين والمعجزات على صدقه (وتأييد الله تعالى له. وبعض الطاعنين أنكر معجزات النبي ﷺ وقال: إنه لا يقبلها عقل. ومما يؤسف له أن كثيرا من المعاصرين على ذلك: يقول محمد رشيد رضا: (وأما تلك العجائب الكونية، فهي مثار شبهات وتأويلات كثيرة في روايتها وفي صحتها وفي دلالتها، وأمثال هذه الأمور تقع من أناس كثيرين في كل زمان، والمنقول منها عن صوفية الهنود المسلمين أكثر من المنقول عن العهدين العتيق والجديد، وعن مناقب القديسين، وهي من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر) (٢) . وقال: (لولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد بها موسى وعيسى ﵉ لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأسرع) (٣) . وهذا الكلام في غاية الخطورة، فكأنه يشير إلى أن الله تعالى صد الناس عن الإيمان بسبب ذكره هذه الآيات، ونقول له: (قل أأنتم أعلم أم الله (؟ وإن المرء ليعجب أشد العجب؛ إذ كيف لرجل مثل رشيد رضا أن يتهم القرآن لأجل أحرار الإفرنج. وقال الشيخ مصطفى المراغي في تقديمه لكتاب "حياة محمد" لمحمد حسين هيكل: (ولم تكن معجزة محمد القاهرة إلا في القرآن، وهي معجزة عقلية، وما أبدع قول البوصيري: لَمْ يَمْتَحِنَّا بِمَا تَعْيَا الْعُقُولُ بِهِ حِرْصًا عَلَيْنَا، فَلَمْ نَرْتَبْ وَلَمْ نَهِمِ (٤) . وبمعنى هذا الكلام قال محمد حسين هيكل، وعبد العزيز جاويش، ومحمد فريد وجدي، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد عبده (٥) . وغالب المدرسة العقلية على هذا الرأي؛ وهو إنكار جميع المعجزات إلا القرآن، وبعضهم لا ينكرها ولكن يقول: هي ليست بذات أهمية، فضلا أن تكون دليلا على صحة نبوة النبي ﷺ . وقد استخدم بعضهم تأويلات باردة في إنكار المعجزات؛ فبعضهم يتكئ على قضية ورودها في أحاديث آحاد، وأحاديث الآحاد لا تُقبل في العقائد (٦)، فإن كانت متواترة أنكر تواترها، ولكنهم شرقوا في بعض الآيات التي نص عليها القرآن مثل انشقاق القمر (٧)؛ وهي معجزة قد تواترت عن النبي ﷺ أيضا، فإليك ملخص ما قاله محمد رشيد رضا في إنكار هذه الآية (٨): أولا: الطعن في السند: ١-إنكار التواتر: قال: زعم بعض العلماء المتقدمين أن الروايات في انشقاق القمر بلغت درجة التواتر، وهو زعم باطل. وقال: فلو وقعت لتوفرت الدواعي على نقله بالتواتر؛ لشدة غرابته عند جميع الناس في جميع البلاد ومن جميع الأمم. ٢-التشكيك في صحة السند: قال: فأما الشيخان فالذي صح عندهما مسند على شرطهما إنما هو عن واحد من الصحابة، يخبر عن رؤية وهو عبد الله بن مسعود.

(١) متفق عليه (البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم: ٣٤٢١، ومسلم: كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، رقم: ٢٧٨١) . (٢) تفسير المنار (١١/١٥٥) . (٣) الموضع السابق. (٤) حياة محمد لمحمد هيكل (ص:١٣) . (٥) انظر: كتاب منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، د. فهد بن عبد الرحمن الرومي (ص:٥٤٥-٥٩٥)، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الخامسة،١٤٢٢. (٦) انظر: في الرد على شبهة أحاديث الآحاد لا تقبل في العقائد: أشراط الساعة، ليوسف الوابل، (ص:٤١-٥٢)،دار ابن الجوزي، الرياض، ط٨،١٩٩٧، ورسالة "وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه المخالفين " للألباني ﵀ دار العلم، بنها، وكتاب (السنة النبوية في كتابات أعداء الإسلام مناقشتها والرد عليها) لعماد الشربيني، (ص:١٢-٦٢) دار اليقين، المنصورة، الطبعة الأولي ٢٠٠٢. (٧) وإنما تكلمت عن هذه الآية فقط مع أنهم ينكرون جميع الآيات والمعجزات سوى القرآن؛ لأن هذه المعجزة من أوضح المعجزات وأكثرها دلالة، فمن أنكرها فهو لغيرها أشد إنكارا، ولأن رشيد رضا أطال في إنكارها حتى اقتنع بكلامه الكثير ممن قرأه. (٨) انظر: مجلة المنار: المجلد ٣٠ الجزء الرابع، ص:٢٦٦-٢٦٨،والمجلد ٣٠ الجزء الخامس، ص٣٦٢-٣٧٦، وانظر كلام الشيخ محمد مصطفى المراغي في تفسير المراغي (٢٧/٧٧) بنحوه.

وأما رواية أنس وابن عباس في الصحيحين، فهي مرسلة؛ لأن هذه الحادثة حصلت بمكة قبل أن يولد ابن عباس، وأنس كان في المدينة ولم يشهدها، وأما ما انفرد به مسلم عن ابن عمر، فإن ابن عمر لم يصرح أنه رأى هذه الآية، وأما ما رواه الترمذي عن جبير بن مطعم فهو ضعيف. ثانيا: الطعن في المتن: إذن لم يسلم مما سبق إلا حديث ابن مسعود؛ فهو حديث متفق عليه، وقد شاهد هذه الآية بنفسه، فكان أن طعن فيه في متنه؛ فقال: ١-في بعض الروايات: انشق القمر ونحن في مكة، وفي بعضها: ونحن في منى. ٢-الروايات فيها اختلاف؛ ففيها: (رأيت القمر منشقا شقتين، شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء)، ورواية (انشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه) ورواية (رأيت القمر على الجبل وقد انشق، فأبصرت الجبل بين فرجتي القمر) ورواية (فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما) ورواية (فانشق القمر نصفين، نصفا على الصفا، ونصفا المروة) . ثم يقول: (والقاعدة المشهورة عند العلماء في الأدلة المتعارضة، التي يتعذر الجمع بينها تساقطها، ومن الدائر على ألسنتهم تعادلا فتساقطا) . ثالثا: إشكال فلكي: قال: لا يشك عاقل أن خلق السماوات وأجرامها في غاية الإبداع، والنظام لا تفاوت فيه ولا خلل، وأن سنته تعالى لا تتبدل ولا تتحول، فلا يصدق خبر وقوع تغير فيها إلا بخبر قطعي ثابت. رابعا: الإشكال الأصولي الأعظم: هكذا يصف السيد رشيد ما يورده هنا من شبهة على انشقاق القمر حيث يقول: (وثبت بالآيات المحكمة الكثيرة القطعية، الدلالة أن الكفار طالبوا النبي ﷺ بآية من الآيات الكونية، التي أوتي مثلها الرسل على الإبهام، وأنهم اقترحوا عليه آيات معينة أيضا، فلم يجابوا إلى طلبهم، قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء:٥٩] وقال سبحانه: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا () أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا () أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا () أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ([الإسراء:٩٠-٩٣] فكيف يمكننا أخذ رواية أنس في الصحيحين بالقبول، فنصدق أن المشركين طلبوا من النبي ﷺ آية، فأراهم انشقاق القمر، وجملة القول: إنه لو صح أن قريشا سألوا النبي ﷺ آية فأجابهم إلى طلبهم، ثم كفروا لعذبهم، ولكنه لم ينقل أن الله تعالى عذب أحدا منهم عقب ذلك التكذيب) (١) . هذا ما قاله رشيد رضا في نفي هذه المعجزة، ولكن بقي إشكال وهو: ما الذي يقال إذن في معنى الآية (وانشق القمر)؟ قال رشيد رضا: (فإذا أنت راجعت لغة القرآن في معاجمها، لتفهم الآية منها دون هذه الروايات، وجدت في "لسان العرب" ما نصه: "والشق الصبح، وشق الصبح يشق شقا إذا طلع وفي الحديث (فلما شق الفجر أمرنا بإقامة الصلاة)، يقال: شق الفجر وانشق إذا طلع ا. هـ، فعلى هذا يقال: انشق القمر بمعنى طلع وانتشر نوره، ويكون في الآية بمعنى ظهر الحق ووضح كالقمر يشق الظلام بطلوعه ليلة البدر) .

(١) مجلة المنار: المجلد ٣٠ الجزء الخامس ص:٣٦٣-٣٦٥، بتصرف.

ثم يختم حديثه في هذه المسألة بقوله: (ومن اطمأنت نفسه من المسلمين بقبول سائر تلك الروايات على علاتها، وكان ممن يرى مخالفة النقل القطعي والعقل أهون من مخالفة زيد وعمرو، وصدق عقله أن تقع هذه الآية، ولا يحدث أحد من الخلفاء الراشدين ولا غيرهم من قدماء الصحابة برؤيتها والاحتجاج بها، فضلا عن تواترها، فليس له أن يجعلها من عقائد المسلمين. وينفر مستقلي الفكر ومتبعي الدليل من المسلمين وغير المسلمين منه) . إلى هنا انتهى رشيد رضا من تقرير هذه المسألة. والذي يبدو للوهلة الأولى أن له حظا من النظر، ولكن حقيقة الأمر على الضد من ذلك، فإليك الجواب عن كل ما قال: أولا: طعنه في السند: ١-إنكاره تواتر الحديث: لقد نص على تواتر الحديث جهابذة هذا الفن وأمراء الحديث في القديم والحديث؛ نذكر من ذلك: قال الإمام ابن كثير- ﵀: (قد كان هذا في زمان رسول الله (، كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة) (١) . وقال الكتاني: (قال التاج ابن السبكي في شرحه لمختصر ابن الحاجب الأصلي: الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر، منصوص عليه في القرآن، مروي في الصحيحين وغيرهما من طرق من حديث شعبة عن سليمان بن مهران، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن ابن مسعود، ثم قال: وله طرق أخرى شتى بحيث لا يُمترى في تواتره. وقال القاضي عياض في الشفا -بعد ما ذكر أن كثيرا من الآيات المأثورة عنه (معلومة بالقطع - ما نصه: أما انشقاق القمر، فالقرآن نص بوقوعه، وأخبر بوجوده، ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة، فلا يوهن عزمنا خلاف أخرق منحل عرى الدين، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك في قلوب ضعفاء المؤمنين، بل نرغم بهذا أنفه، وننبذ بالعراء سخفه. وفي أمالي الحافظ ابن حجر: أجمع المفسرون وأهل السير على وقوعه، قال: ورواه من الصحابة: عليُّ، وابن مسعود، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وابن عباس، وأنس، وغيرهم. وقال القرطبي في المفهم: رواه العدد الكثير من الصحابة، ونقله عنهم الجم الغفير من التابعين، فمن بعدهم ا. هـ. وفي المواهب اللدنية: جاءت أحاديث الانشقاق في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة، منهم: أنس، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر، وغيرهم. وقال ابن عبد البر: روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة، وروى ذلك عنهم أمثالهم من التابعين، ثم نقله عنهم الجم الغفير إلى أن انتهى إلينا، وتأيد بالآية الكريمة. وقال المناوي في شرحه لألفية السير للعراقي: تواترت بانشقاق القمر الأحاديث الحسان، كما حققه التاج السبكي وغيره.) (٢) وبنحوه قال ابن حجر (٣) . ٢-طعنه في صحة السند: ولو سلمنا بعدم تواتره، فهو لا شك بصحته، وأما محاولة رشيد رضا تضعيف السند، فهي محاولات بائسة، ويكفي في صحته اتفاق البخاري ومسلم على تخريجه في كتابيهما عن طريق ثلاثة من الصحابة، وتصحيح الأئمة له. وقد نقل الحافظ ابن الصلاح اتفاق الأمة على تلقي ما اتفق عليه الشيخان بالقبول والصحة، ووافقه العراقي على ذلك، ونقله عن جمع غفير من الأئمة (٤) . وأما دعواه أن حديث أنس وابن عباس من قبيل مرسل الصحابي. فنقول ماذا في هذا؟! فمرسل الصحابي مقبول عند علماء الحديث: قال ابن الصلاح: (ثم إنا لم نعد في أنواع المرسل ما يسمى في أصول الفقه مرسل الصحابي، مثل ما يرويه ابن عباس وغيره من أحداث الصحابة عن رسول الله (ولم يسمعوه منه؛ لأن ذلك في حكم الموصول المسند) (٥) . وقال الحافظ العراقي: (المحدثون وإن ذكروا مراسيل الصحابة، فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها) (٦) . ثم لو سلمنا بعدم قبول رواية مرسل الصحابي، فقد رواه ابن مسعود مشاهدة، وهو ليس بمرسل في حقه، وكذلك رواه ورآه علي بن أبي طالب، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر (٧) . ثانيا: طعنه في متن الحديث:

(١) تفسير القرآن العظيم (٤/٢٦١) . (٢) نظم المتناثر في الحديث المتواتر (ص: ٢٢٢) . (٣) في كتابه فتح الباري (٧/٢٢٢) . (٤) انظر: مقدمة ابن الصلاح مع شرحها للعراقي (ص:٤٣) . (٥) علوم الحديث للحافظ أبي عمرو بن الصلاح، (ص:٧٥) مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٩٩٥ وفي حاشيتها كتاب "التقييد والإيضاح لما أغلق وأطلق من مقدمة ابن الصلاح " للحافظ العراقي. (٦) المرجع السابق (ص:٧٩) . (٧) انظر فتح الباري (٦/٧٣٠) .

وأما تضعيفه حديث ابن مسعود المتفق عليه بسبب اضطراب ألفاظه، فهو في غاية من العجب. فرواية (انشق القمر ونحن في مكة) ورواية (ونحن في منى) لا تعارض بينهما إذ منى من مكة، أو أن المراد بمكة يعني قبل الهجرة. قال ابن حجر: (وَالْجَمْعُ بَيْن قَوْل اِبْن مَسْعُود " تَارَة بِمِنى وَتَارَة بِمَكَّة " إِمَّا بِاعْتِبَارِ التَّعَدُّد إِنْ ثَبَتَ، وَإِمَّا بِالْحَمْلِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ بِمِنًى، وَمَنْ قَالَ: كَانَ بِمَكَّة لَا يُنَافِيه؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ بِمِنًى كَانَ بِمَكَّة مِنْ غَيْر عَكْس، وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا بِمِنًى قَالَ فِيهَا: " وَنَحْنُ بِمِنًى " وَالرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا بِمَكَّة لَمْ يَقُلْ فِيهَا " وَنَحْنُ " وَإِنَّمَا قَالَ: " اِنْشَقَّ الْقَمَر بِمَكَّة " يَعْنِي أَنَّ الِانْشِقَاق كَانَ وَهُمْ بِمَكَّة قَبْل أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَة، وَبِهَذَا يَنْدَفِع دَعْوَى الدَّاوُودِيّ أَنَّ بَيْن الْخَبَرَيْنِ تَضَادًّا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ) (١) . وقال: (وَقَدْ وَقَعَ عِنْد اِبْن مَرْدَوَيْهِ بَيَان الْمُرَاد فَأَخْرَجَهُ مِنْ وَجْه آخَر عَنْ اِبْن مَسْعُود قَالَ: " اِنْشَقَّ الْقَمَر عَلَى عَهْد رَسُول اللَّه (وَنَحْنُ بِمَكَّة قَبْل أَنْ نَصِيرَ إِلَى الْمَدِينَة " فَوَضح أَنَّ مُرَاده بِذِكْرِ مَكَّة الْإِشَارَة إِلَى أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ قَبْل الْهِجْرَة، وَيَجُوز أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ وَهُمْ لَيْلَتئِذٍ بِمِنًى) (٢) . ورواية (رأيت القمر على الجبل وقد انشق، فأبصرت الجبل بين فرجتي القمر) ورواية (فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما)، لا تعارض بينهما ألبتة، وكذا رواية (انشق القمر فرقتين، فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه) فإنها قريبة من معناهما. فلم يبق إلا ما ظاهره التعارض بين هاتين الروايتين (رأيت القمر منشقا شقتين؛ شقة على أبي قبيس، وشقة على السويداء)، ورواية (فانشق القمر نصفين؛ نصفا على الصفا، ونصفا المروة) . وهذا ليس فيه إشكال؛ فإن نظر الإنسان يختلف بحسب الزاوية التي ينظر منها، فمرة يرى القمر فوق أبي قبيس، ثم إذا تحرك رآه على الصفا وهكذا، أو هو بحسب اختلاف جهة الناظرين، فبعضهم يراه من زاوية والآخرين من زواية أخرى. وقال ابن حجر: (لَفْظِ " رَأَيْت الْقَمَر مُنْشَقًّا شُقَّتَيْنِ: شُقَّة عَلَى أَبِي قُبَيْس، وَشُقَّة عَلَى السُّوَيْدَاء " وَالسُّوَيْدَاء بِالْمُهْمَلَةِ وَالتَّصْغِير نَاحِيَة خَارِجَة مَكَّة عِنْدهَا جَبَل، وَقَوْل اِبْن مَسْعُود": عَلَى أَبِي قُبَيْس ". يَحْتَمِل أَنْ يَكُون رَآهُ كَذَلِكَ وَهُوَ بِمِنًى، كَأَنْ يَكُون عَلَى مَكَان مُرْتَفِع بِحَيْثُ رَأَى طَرَف جَبَل أَبِي قُبَيْس، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الْقَمَر اِسْتَمَرَّ مُنْشَقًّا حَتَّى رَجَعَ اِبْن مَسْعُود مِنْ مِنًى إِلَى مَكَّة، فَرَآهُ كَذَلِكَ وَفِيهِ بَعْد، وَاَلَّذِي يَقْتَضِيه غَالِب الرِّوَايَات أَنَّ الِانْشِقَاق كَانَ قُرْب غُرُوبه، وَيُؤَيِّد ذَلِكَ إِسْنَادهمْ الرُّؤْيَة إِلَى جِهَة الْجَبَل، وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون الِانْشِقَاق وَقَعَ أَوَّل طُلُوعه؛ فَإِنَّ فِي بَعْض الرِّوَايَات أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَة الْبَدْر، أَوْ التَّعْبِير بِأَبِي قُبَيْس مِنْ تَغْيِير بَعْض الرُّوَاة؛ لِأَنَّ الْغَرَض ثُبُوت رُؤْيَته مُنْشَقًّا، إِحْدَى الشِّقَتَيْنِ عَلَى جَبَل، وَالْأُخْرَى عَلَى جَبَل آخَر، وَلَا يُغَايِر ذَلِكَ قَوْل الرَّاوِي الْآخَر: رَأَيْت الْجَبَل بَيْنهمَا. أَيْ بَيْن الْفِرْقَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَتْ فِرْقَة عَنْ يَمِين الْجَبَل، وَفِرْقَة عَنْ يَسَاره مِثْلًا صَدَقَ أَنَّهُ بَيْنهمَا، وَأَيّ جَبَل آخَر كَانَ مِنْ جِهَة يَمِينه أَوْ يَسَاره صَدَقَ أَنَّهَا عَلَيْهِ أَيْضًا) (٣) .

(١) فتح الباري (٧/٢٢٣) . (٢) المرجع السابق. (٣) فتح الباري (٧/٢٢٣) .

وفي رواية لمسلم من حديث أَنَسٍ: (أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ) (١) . وهذه الرواية تقضي على جميع الإشكالات، فهي تدل أن الانشقاق حصل مرتين، فمرة رأوه فوق جبل أبي قبس ومرة عند الصفا، وإن كان بعض العلماء يشكك في هذه اللفظة (مرتين) ويرى أنها (فرقتين) (٢) . ولو سلمنا التعارض التام بين هاتين اللفظتين من كل جهة، فهذا لا يضر في أصل الحديث، وأقصى ما فيه أن ابن مسعود، أو أحد الرواة عنه كان يهم في اسم الجبلين، فتارة يقول (شقة على أبي قبيس وشقة على السويداء)، وتارة (فانشق القمر نصفين، نصفًا على الصفا، ونصفًا المروة)، وأما أصل الحديث وهو الشاهد منه، أن القمر انشق، فليس فيها أي اضطراب أو نسيان أو وهم. ولو سلمنا أن هذا الاضطراب يسقط الاحتجاج بالحديث، فما القول إذن بحديث علي، وحذيفة، وجبير بن مطعم، وابن عمر ﵃ أجمعين. ثالثا: الإشكال الفلكي: دعواه وجوب وجود النقل القطعي على هذه الحادثة، فنقول: قد وجد. فالحديث منقول في أصح الكتب، بل نص العلماء على تواتره، بل ذكره الله في كتابه، بل أجمع العلماء على وقوعه، بل حتى الكفار قد ذكروه في كتبهم ممن عاصروا الحادثة. فقد ذكر ابن كثير في البداية والنهاية: (إنه قد ذكر غير واحد من المسافرين أنهم شاهدوا هيكلا بالهند مكتوبا عليه أنه بُني في الليلة التي انشق القمر فيها) (٣) . ويؤيد هذا ما نقله السيد رشيد رضا نفسه حيث قال: (على أن الحافظ المزي نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية، أن بعض المسافرين ذكر أنه رأى في بلاد الهند بناء قديما مكتوبا عليه أنه بُني ليلة انشق القمر) . ثم قال رشيد رضا: (وأذكر أنني رأيت في بعض الكتب أو الصحف، أن هذا رؤي في بلاد الصين) (٤) . و(في مقابلة تليفزيونية للأستاذ الدكتور زغلول النجار، سأله مقدم البرنامج عن هذه الآية؛ (اقتربت الساعة وانشق القمر (: هل فيها إعجاز قرآني علمي؟ فأجاب الدكتور زغلول قائلا: هذه الآية لها معي قصة. فمنذ فترة كنت أحاضر في جامعة كارديف (Cardif) غرب بريطانيا، وكان الحضور خليطا من المسلمين وغير المسلمين، وكان هناك حوار حي للغاية عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وفي أثناء هذا الحوار، وقف شاب من المسلمين وقال: يا سيدي هل ترى في قول الحق ﵎: (اقتربت الساعة وانشق القمر (لمحة من لمحات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؟ فأجبته: لا؛ فالأعجاز العلمي يفسره العلم، أما المعجزات فلا يستطيع العلم أن يفسرها، فالمعجزة أمر خارق للعادة فلا تستطيع السنن أن تفسرها، وانشقاق القمر معجزة حدثت لرسول الله (تشهد له بالنبوة والرسالة، والمعجزات الحسية شهادة صدق على من رآها، ولولا ورودها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله (ما كان علينا نحن مسلمي هذا العصر أن نؤمن بها ولكننا نؤمن بها لورودها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله (؛ ولأن الله تعالى قادر على كل شيء، قال: ثم ذكرت لهم الروايات الثابتة في انشقاق القمر.

(١) أخرجه مسلم (كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب انشقاق القمر، رقم:٢٨٠٢) . (٢) انظر فتح الباري (٧/٢٢٢) . (٣) البداية والنهاية لابن كثير (٦/٧٧) . (٤) مجلة المنار، المجلد ٣٠ الجزء الخامس ص ٣٦٢.

يقول الدكتور زغلول: وبعد أن أتممت حديثي وقف شاب مسلم بريطاني عرف بنفسه وقال: أنا داود موسى بيتكوك رئيس الحزب الإسلامي البريطاني، ثم قال: يا سيدي هل تسمح لي بإضافة؟ قلت له: تفضل. قال: وأنا ابحث عن الأديان -قبل أن يسلم- أهداني أحد الطلاب المسلمين ترجمة لمعاني القرآن الكريم، فشكرته عليها وأخذتها إلى البيت، وحين فتحت هذه الترجمة كانت أول سورة اطلعت عليها سورة القمر، وقرأت: (اقتربت الساعة وانشق القمر (فقلت: هل يعقل هذا الكلام؟! هل يمكن للقمر أن ينشق ثم يلتحم؟! وأي قوة تستطيع عمل ذلك؟! يقول الرجل: فصدتني هذه الآية عن مواصلة القراءة، وانشغلت بأمور الحياة، لكن الله تعالى يعلم مدى إخلاصي في البحث عن الحقيقة، فأجلسني ربي أمام التلفاز البريطاني، وكان هناك حوار يدور بين معلق بريطاني وثلاثة من علماء الفضاء الأمريكيين، وكان هذا المذيع يعاتب هؤلاء العلماء على الإنفاق الشديد على رحلات الفضاء، في الوقت الذي تمتلئ فيه الأرض بمشكلات الجوع والفقر والمرض والتخلف، وكان يقول: لو أن هذا المال أنفق على عمران الأرض لكان أجدى وأنفع، وجلس هؤلاء العلماء الثلاثة يدافعون عن وجهة نظرهم، ويقولون: إن هذه التقنية تطبق في نواحي كثيرة في الحياة، حيث إنها تطبق في الطب والصناعة والزراعة، فهذا المال ليس مالا مهدرا، لكنه أعاننا على تطوير تقنيات متقدمة للغاية.. في خلال هذا الحوار جاء ذكر رحلة إنزال رجل على سطح القمر باعتبار أنها أكثر رحلات الفضاء كلفة؛ فقد تكلفت أكثر من مائة ألف مليون دولار، فصرخ فيهم المذيع البريطاني وقال: أي سفه هذا؟! مائة ألف مليون دولار لكي تضعوا العلم الأمريكي على سطح القمر؟ فقالوا: لا، لم يكن الهدف وضع العلم الأمريكي فوق سطح القمر، كنا ندرس التركيب الداخلي للقمر فوجدنا حقيقة لو أنفقنا أضعاف هذا المال لإقناع الناس بها ما صدقنا احد، فقال لهم: ما هذه الحقيقة؟ قالوا: هذا القمر انشق في يوم من الأيام ثم التحم. قال لهم: كيف عرفتم ذلك؟ قالوا: وجدنا حزاما من الصخور المتحولة يقطع القمر من سطحه إلى جوفه إلى سطحه، فاستشرنا علماء الأرض وعلماء الجيولوجيا، فقالوا: لا يمكن أن يكون هذا قد حدث إلا إذا كان هذا القمر قد انشق ثم التحم!! يقول الرجل المسلم «رئيس الحزب الإسلامي البريطاني»: فقفزت من الكرسي الذي أجلس عليه وقلت: معجزة تحدث لمحمد ﷺ قبل ألف وأربعمائة سنة يسخر الله تعالى الأمريكان لإنفاق أكثر من مائة ألف مليون دولار لإثباتها للمسلمين؟! لابد أن يكون هذا الدين حقا. يقول: فعدت إلى المصحف، وتلوت سورة القمر، وكانت مدخلا لقبول الإسلام دينا) (١) . ولو سلمنا أنه لم يوجد النقل عند غير المسلمين؛ فإنه قد يكون بسبب اختلاف مطالع القمر، ولأنه لم يستمر لمدة طويلة، بل للحظات ثم رجع، فلم يره إلا من استعد له ورصده، وغير ذلك من العلل التي ذكرها ابن حجر في الفتح (٢) . يقول المباركفوري شارح الترمذي - رحمه:

(١) جريدة الوطن الكويتية العدد (٩٧٤٧)، السبت ٢٩/٣/٢٠٠٣، مقال للشيخ حامد العلي بعنوان روعة انتصار الإسلام. (٢) فتح الباري (٧/٢٢٤-٢٢٥) .

(اِعْلَمْ أَنَّ أَحَادِيثَ الْبَابِ صَحِيحَةٌ صَرِيحَةٌ فِي ثُبُوتِ مُعْجِزَةِ اِنْشِقَاقِ الْقَمَرِ. قَالَ اِبْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ ثُمَّ نَقَلَهُ عَنْهُمْ الْجَمُّ الْغَفِيرُ إِلَى أَنْ اِنْتَهَى إِلَيْنَا، وَيُؤَيَّدُ ذَلِكَ بِالْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَمْ يَبْقَ لِاسْتِبْعَادِ مَنْ اِسْتَبْعَدَ وُقُوعَهُ عُذْرٌ، وَقَدْ يَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ قَبْلَ طُلُوعِهِ عَلَى آخَرِينَ، وَأَيْضًا فَإِنَّ زَمَنَ الِانْشِقَاقِ لَمْ يَطُلْ وَلَمْ تَتَوَفَّرْ الدَّوَاعِي عَلَى الِاعْتِنَاءِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ إِلَى آفَاقِ مَكَّةَ يَسْأَلُونَ عَنْ ذَلِكَ، فَجَاءَتْ السُّفَّارُ وَأَخْبَرُوا بِأَنَّهُمْ عَايَنُوا ذَلِكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسَافِرِينَ فِي اللَّيْلِ غَالِبًا يَكُونُونَ سَائِرِينَ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ: أَنْكَرَ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ الْمُوَافِقِينَ لِمُخَالِفِي الْمِلَّةِ اِنْشِقَاقَ الْقَمَرِ، وَلَا إِنْكَارَ لِلْعَقْلِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَمَرَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ يَفْعَلُ فِيهِ مَا يَشَاءُ، كَمَا يُكَوِّرُهُ يَوْمَ الْبَعْثِ وَيُفْنِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: لَوْ وَقَعَ لَجَاءَ مُتَوَاتِرًا وَاشْتَرَكَ أَهْلُ الْأَرْضِ فِي مَعْرِفَتِهِ، وَلَمَا اِخْتَصَّ بِهَا أَهْلُ مَكَّةَ، فَجَوَابُهُ: أَنَّ ذَلِكَ وَقَعَ لَيْلًا وَأَكْثَرُ النَّاسِ نِيَامٌ، وَالْأَبْوَابُ مُغْلَقَةٌ، وَقَلَّ مَنْ يُرَاصِدُ السَّمَاءَ إِلَّا النَّادِرَ، وَقَدْ يَقَعُ بِالْمُشَاهَدَةِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْكَشِفَ الْقَمَرُ وَتَبْدُوَ الْكَوَاكِبُ الْعِظَامُ وَغَيْرُ ذَلِكَ فِي اللَّيْلِ وَلَا يُشَاهِدُهَا إِلَّا الْآحَادُ، فَكَذَلِكَ الِانْشِقَاقُ كَانَ آيَةً وَقَعَتْ فِي اللَّيْلِ لِقَوْمٍ سَأَلُوا وَاقْتَرَحُوا فَلَمْ يَتَأَهَّبْ
غَيْرُهُمْ لَهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْقَمَرُ لَيْلَتَئِذٍ، كَانَ فِي بَعْضِ الْمَنَازِلِ الَّتِي تَظْهَرُ لِبَعْضِ أَهْلِ الْآفَاقِ دُونَ بَعْضٍ، كَمَا يَظْهَرُ الْكُسُوفُ لِقَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: اِنْشِقَاقُ الْقَمَرِ آيَةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَكَادُ يَعْدِلُهَا شَيْءٌ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَهَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاءِ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ طِبَاعِ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمُرَكَّبِ مِنْ الطَّبَائِعِ، فَلَيْسَ مِمَّا يُطْمَعُ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ بِحِيلَةٍ، فَلِذَلِكَ صَارَ الْبُرْهَانُ بِهِ أَظْهَرَ، وَقَدْ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: لَوْ وَقَعَ ذَلِكَ لَمْ يَجزْ أَنْ يَخْفَى أَمْرُهُ عَلَى عَوَامِّ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ أَمْرٌ صَدَرَ عَنْ حِسٍّ وَمُشَاهَدَةٍ، فَالنَّاسُ فِيهِ شُرَكَاءُ وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى رُؤْيَةِ كُلِّ غَرِيبٍ، وَنَقْلِ مَا لَمْ يُعْهَدْ فَلَوْ كَانَ لِذَلِكَ أَصْلٌ لَخُلِّدَ فِي كُتُبِ أَهْلِ التَّسْيِيرِ وَالتَّنْجِيمِ؛ إِذْ لَا يَجُوزُ إِطْبَاقُهُمْ عَلَى تَرْكِهِ وَإِغْفَالِهِ مَعَ جَلَالَةِ شَأْنِهِ وَوُضُوحِ أَمْرِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ خَرَجَتْ عَنْ بَقِيَّةِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، لِأَنَّهُ شَيْءٌ طَلَبهُ خَاصٌّ مِنْ النَّاسِ فَوَقَعَ لَيْلًا؛ لِأَنَّ الْقَمَرَ لَا سُلْطَانَ لَهُ بِالنَّهَارِ، وَمِنْ شَأْنِ اللَّيْلِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِيهِ نِيَامًا وَمُسْتَكِنِّينَ بِالْأَبْنِيَةِ، وَالْبَارِزُ بِالصَّحْرَاءِ مِنْهُمْ إِذَا كَانَ يَقْظَانَ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَشْغُولًا فَمَا يُلْهِيهِ مِنْ سَمَرٍ وَغَيْرِهِ، وَمِنْ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يَقْصِدُوا إِلَى مَرَاصِدِ مَرْكَزِ الْقَمَرِ نَاظرِينَ إِلَيْهِ لَا يَغْفُلُونَ عَنْهُ، فَقَدْ يَجُوزُ أَنَّهُ وَقَعَ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا رَآهُ مَنْ تَصَدَّى لِرُؤْيَتِهِ مِمَّنْ اِقْتَرَحَ وُقُوعَهُ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ إِنَّمَا كَانَ فِي قَدْرِ اللَّحْظَةِ الَّتِي هِيَ مُدْرَكُ الْبَصَرِ. وَقَالَ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ الْكَبِيرِ -بَعْدَ مَا أَثْبَتَ هَذِهِ الْمُعْجِزَةَ- مَا لَفْظُهُ: وَأَمَّا الْمُؤَرِّخُونَ تَرَكُوهُ، لِأَنَّ التَّوَارِيخَ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ يَسْتَعْمِلُهَا الْمُنَجِّمُ وَهُوَ لَمَّا وَقَعَ الْأَمْرُ قَالُوا بِأَنَّهُ مِثْلُ خُسُوفِ الْقَمَرِ، وَظُهُورِ شَيْءٍ فِي الْجَوِّ عَلَى شَكْلِ نِصْفِ الْقَمَرِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَتَرَكُوا حِكَايَتَهُ فِي تَوَارِيخِهِمْ. وَالْقُرْآنُ أَدَلُّ دَلِيلٍ، وَأَقْوَى مُثْبِتٍ لَهُ، وَإِمْكَانُهُ لَا يُشَكُّ فِيهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ الصَّادِقُ فَيَجِبُ اِعْتِقَادُ وُقُوعِهُ. وَحَدِيثُ اِمْتِنَاعِ الْخَرْقِ وَالِالْتِئَامِ حَدِيثُ اللِّئَامِ. وَقَدْ ثَبَتَ جَوَازُ الْخَرْقِ وَالتَّخْرِيبِ عَلَى السَّمَوَاتِ، وَذَكَرْنَاهُ مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهُ) (١) . -رابعا: الإشكال الأصولي: فالرد على هذا الإشكال بالمنع والتسليم:

(١) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري (٦/٣٤٢-٣٤٣) .

أ -أما المنع؛ فنمنع أن هذه الآية جاءت بعد سؤال المشركين؛ قال ابن حجر ﵀: (ولم أر في شيء من طرقه أن ذلك كان عقب سؤال المشركين إلا في حديث أنس) (١)، وأنس لم يعاصر القصة بشهادة رشيد رضا. ولو سلمنا أنه كان بعد سؤال المشركين، فنمنع أنه لم يأتهم العذاب، فقد أخذهم الله بالسنين حتى أكلوا الميتات، فقد ذكر ابن مسعود: أن قريشا أَخَذَتْهُمْ سَنَةٌ حَصَّتْ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَكَلُوا الْجُلُودَ وَالْمَيْتَةَ وَالْجِيَفَ، وَيَنْظُرَ أَحَدُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى الدُّخَانَ مِنْ الْجُوعِ، فَأَتَاهُ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ تَأْمُرُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَبِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَإِنَّ قَوْمَكَ قَدْ هَلَكُوا فَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ. فقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (إِلَى قَوْلِهِ (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (فَالْبَطْشَةُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتْ الدُّخَانُ وَالْبَطْشَةُ وَاللِّزَامُ وَآيَةُ الرُّومِ) (٢) . وعذبهم أيضا في غزوة بدر بقتل سبعين وأسر سبعين، وهي البطشة كما في حديث ابن مسعود (. وفي غزوة الأحزاب بالريح الباردة التي أكفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وردتهم مغلوبين، مدحورين مهزومين، كما في سورة الأحزاب. وفي فتح مكة حين هزموا وجردوا من ملكهم لمكة، وكانت خاتمة لطغيانهم، ونهاية لعزهم وشرفهم، فكل هذا من العذاب. ب -أما التسليم؛ فيتضح من النقاط التالية: ١-لو سلمنا أنهم لم يعذبوا، فإنما كان ذلك لعلة، وهي وجود النبي ﷺ بين أظهرهم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال:٣٣] . ٢-وأجاب الخطابي على هذا بجواب آخر؛ فقال ما ملخصه: إن الذين سألوا هذه الآية ليسوا كل أهل مكة، بل هم أعداد قليلة (٣)، فهذه الآية لم يجمع لها الناس في صعيد واحد، كما حصل مع موسى ﵇، بل هي حادثة عابرة. ٣-ومن أسباب تخلف العذاب أن النبي ﷺ هو آخر الأنبياء، وأمته هي آخر الأمم، كما قال (: «نحن الآخرون الأولون يوم القيامة» (٤) . فلو أهلكها الله تعالى لما بقي أحد يعبد الله تعالى، وتذهب كثير من السنن الكونية مثل سنة الاختلاف، وسنة المدافعة، وغيرها. ٤-ومن الأسباب أيضا أن النبي ﷺ دعا ربه أن لا يهلك أمته بسنة عامة؛ كما جاء عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قال رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِي الْأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لِأُمَّتِي أَنْ لَا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً، فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لِأُمَّتِكَ أَنْ لَا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لَا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا» (٥) .

(١) فتح الباري (٧/٢٢١) . (٢) متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة، باب دعاء النبي ﷺ، رقم:٩٦٢، ومسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب الدخان، رقم:٢٧٩٨) . (٣) انظر: فتح الباري (٧/٢٢٥) بتصرف وترتيب. (٤) متفق عليه عن أبي هريرة (البخاري: كتاب الجمعة باب فرض الجمعة، رقم:٨٣٦، ومسلم: كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، رقم:٨٥٥) واللفظ لمسلم. (٥) أخرجه مسلم (كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض، رقم:٢٨٨٩) .

٥-هذه الآية تختلف عن آيات الأمم السابقة، فهي ليست آية النبي ﷺ الكبرى-كما هو الحال في نبي الله صالح ﵇ مثلا- بل كانت آية عارضة سأله بعض أهل مكة، فمن حرص النبي ﷺ على هداية قومه سأل الله أن يحقق له هذه الآية، فاستجاب الله تعالى لنبيه وحبيبه، ليس لأجلهم ولكن لأجل نبيه. وذلك لأن منهج القرآن عند سؤال الكفار آية أن يرجعهم لأمرين؛ إما الآيات الشرعية (القرآن) أو الآيات الكونية (مخلوقات الله) (١)؛ فمن الرد إلى الآيات الشرعية قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ () أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ([العنكبوت:٥٠، ٥١] . ومن الرد إلى الآيات الكونية قوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ () وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ([الأنعام:٣٧، ٣٨] . وقال تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ آية فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ [يوسف:١٠٥]، وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف:١٨٥] . وأغلب آيات سورة الأنعام من هذا الباب، كقوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( [الأنعام:٩٥-٩٨] . وتستمر الآيات في هذا النحو إلى أن قال سبحانه: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام:١٠٩] . ثم قال بعد ذلك: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام:١١١] . وذلك أن من لم يؤمن بسبب هذين الأمرين-الآيات الشرعية والآيات الكونية- فلن يؤمن أبدا، فهذا معنى قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ﴾ [الأنعام:١١١] .

(١)

وقال سبحانه مؤكدا على هذه الحقيقة: (ومنهم من يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ (١) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آية لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ([الأنعام:٢٥]، فهو يستمع للقرآن-وهو الآيات الشرعية- ويرى كل آية - وهي الآيات الكونية- ومع هذا يقول أساطير الأولين. ويقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ () وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آية حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ([يونس:٩٦-٩٧] . ويقول تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آية لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف:١٤٦] . يعني سبب ذلك أنهم كانوا يكذبون بآيات الله الكونية والشرعية، فالله سبحانه يعلم أن هذه الآية-انشقاق القمر- لن تؤثر فيهم، ولكن استجابة لنبيه حتى يرى بعينه هذه الحقيقة، فينتقل من علم اليقين إلى حق اليقين، لذلك لم يسأل النبي ﷺ ربه آية أخرى (٢) . ٦-هذه الآية لم تكن مشروطة بالعذاب، كما حصل من عيسى عندما سأل ربه أن ينزل على قومه مائدة من السماء، فقال الله تعالى: ﴿إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة:١١٥] . وعلى هذا تكون أمة محمد مستثناة من هذا الحكم. خامسا: نزيد على ذلك أنه قد تم إجماع العلماء على وقوعه: قال ابن كثير في تفسيره: (وهذا أمر متفق عليه بين العلماء؛ أي انشقاق القمر، قد وقع في زمان النبي ﷺ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات) (٣) . وقال في البداية والنهاية: (وقد اتفق العلماء مع بقية الأئمة على أن انشقاق القمر كان في عهد الرسول ﷺ، وقد وردت الأحاديث بذلك من طرق تفيد القطع عند الأمة) (٤) ثم ساق الأحاديث الواردة في ذلك، وقرر بعدها (فهذه طرق عن هؤلاء الجماعة من الصحابة، وشهرة هذا الأمر تغني عن إسناده مع وروده في الكتاب العزيز) (٥) . وفي نظم السيرة لأبي الفضل العراقي: فصار فرقتين فرقة علت وفرقة للطود منه نزلت وذاك مرتين (٦) بالإجماع والنص والتواتر السماعي (٧) (وقال الحافظ ابن حجر: أجمع المفسرون وأهل السير على وقوعه) (٨) . -وأما قول رشيد رضا - فيما نقلناه عنه تحت عنوان الإشكال الأصولي الأعظم (٩) -: (فليس له أن يجعلها من عقائد المسلمين) . فهذا كلام غريب؛ إذ فكيف لا يكون من عقائد المسلمين، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه، وتواترت سنة النبي ﷺ في ذكره وتتابع علماء المسلمين على جعلها من عقائد المسلمين، وذكرها في دلائل النبوة، كما فعل البيهقي وأبو نعيم، وكل من تكلم عن دلائل النبوة ذكر فيه هذه الآية (١٠)؟ ثم لو سلم لرشيد رضا كل ما تقدم، وأن هذه المعجزة غير ثابتة، فماذا يقول في قوله تعالى: ﴿سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا ...﴾ [الإسراء:١] فهل يُنكر أيضا حادثة الإسراء والمعراج؟ وهل ينكر حادثة الفيل؟ وكلها ثابت في القرآن. ونحن نسأل من أنكر معجزات النبي ﷺ، هل هو ينكر مبدأ المعجزات، وأنه لا يوجد شيء اسمه خرق عادة، أم أنه ينكر آحاد هذه المعجزات التي حصلت للنبي (؟

(١) يعني وأنت تتلو القرآن. انظر تفسير الجلالين (ص:١٦٥)، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الرابعة ١٩٩١. (٢) انظر: الإعجاز العلمي في القرآن لسيد الجميلي (ص:١٠)، دار مكتبة الهلال، بيروت، الطبعة الثانية ١٩٩٢، وآيات الله في الكون، د. عبد الله شحاته (ص:٧-١٤) . (٣) تفسير القرآن العظيم (٤/٢٦١) . (٤) البداية والنهاية (٦/٧٤) . (٥) المرجع السابق (٦/٧٧) . (٦) قال تلميذه الحافظ ابن حجر في فتح الباري (٧/٢٢٥) ما ملخصه: وأظن قوله بالإجماع يتعلق بانشق لا بمرتين، فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه ﷺ، وفي المواهب لعل قائل مرتين أراد به فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعًا بين الروايات) . (٧) نظم المتناثر للكتاني (ص:٢٢٣) . (٨) المرجع السابق. (٩) وراجع: ص ١١٣ السابقة (١٠) وقد تقدم الإحالة على هذه الكتب في أول المبحث.

-إن كان ينكر آحاد هذه المعجزات مع إيمانه بمبدأ المعجزات -كما هو الحال عند معظم المستشرقين والمعاصرين- قلنا له: بما أنك تؤمن بإمكان وقوع المعجزات، فليس لك حق أن تتخير منها ما تشاء فتقبله وترد منها ما تشاء، بل الذي يخرق العادة هو الله تعالى، والله يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، فإذا ثبت النقل فهذا كافٍ في إثبات صحتها، وكون العقل لا يقبلها هذا أمر لا بد منه؛ إذ أن صفة المعجزة أنها تحير العقول وتخرق العادات. -وأما إن كان يرفض مبدأ المعجزة بالكلية؛ قلنا له: إنك بهذا الرفض قد أنكرت نبوة جميع الرسل والنبيين؛ إذ إن الرسل والأنبياء إنما يدللون على صحة قولهم بخرق العادة لهم، التي لا يخرقها الله تعالى إلا لصادق، وبهذا تسلم لهم الجموع وتنقاد، فإنكار المعجزات كلها كفر بالأنبياء، وتكذيب لله تعالى، وإلحاد في جميع الأديان. وبهذا لا يبقى للمنكر أي حجة في إنكار وقوع هذه الحادثة. أرأيت كيف فتح بعض المعاصرين الباب للطاعنين، عفا الله عنهم وغفر لهم. المطلب الرابع: إقرار الله تعالى له ولدعوته واستجابة دعائه (١): من أدلة صدق النبي ﷺ إقرار الله لدعوته؛ فإن الله تعالى أخبر أن محمدا لو تقوّل على ربه شيئا من الأقاويل لأهلكه (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ () لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ () ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ () فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ([الحاقة:٤١-٤٧]، وقال سبحانه ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ [طه:٦١]، وقال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾ [يونس:٦٩]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ [الزمر: ٣]، ولكن النبي ﷺ ما خاب بل هُدي وأفلح في كل المجالات، ودينه أعظم الأديان في الأرض وأكثرها انتشارا.

(١) هذان دليلان (الإقرار - الاستجابة) ولكن جمعتهما للاختصار.

وقد قرر ابن القيم - رحمه الله تعالى - هذا الدليل أوضح تقرير، فقال ﵀: (وقد جرت لي مناظرة بمصر مع أكبر من يشير إليه اليهود بالعلم والرياسة، فقلت له في أثناء الكلام: أنتم بتكذيبكم محمدا (قد شتمتم الله أعظم شتيمة. فعجب من ذلك وقال: مثلك يقول هذا الكلام؟ فقلت له: اسمع الآن تقريره؛ إذا قلتم: إن محمدا ملك ظالم، قهر الناس بسيفه، وليس برسول من عند الله، وقد أقام ثلاثا وعشرين سنة يدعي أنه رسول الله أرسله إلى الخلق كافة، ويقول أمرني الله بكذا ونهاني عن كذا، وأُوحي إلي كذا؛ ولم يكن من ذلك شيء، ويقول إنه أباح لي سبي ذراري من كذبني وخالفني ونساءهم، وغنيمة أموالهم، وقتل رجالهم، ولم يكن من ذلك شيء، وهو يدأب في تغيير دين الأنبياء، ومعاداة أممهم، ونسخ شرائعهم؛ فلا يخلو إما أن تقولوا: إن الله سبحانه كان يطلع على ذلك ويشاهده ويعلمه. أو تقولوا: إنه خفي عنه ولم يعلم به. فإن قلتم: لم يعلم به. نسبتموه إلى أقبح الجهل، وكان من عَلَم ذلك أعلم منه، وإن قلتم: بل كان ذلك كله بعلمه ومشاهدته واطلاعه عليه. فلا يخلو إما أن يكون قادرا على تغييره والأخذ على يديه ومنعه من ذلك أو لا، فإن لم يكن قادرا فقد نسبتموه إلى أقبح العجز المنافي للربوبية، وإن كان قادرا وهو مع ذلك يعزه وينصره، ويؤيده ويعليه ويعلى كلمته، ويجيب دعاءه، ويمكنه من أعدائه، ويظهر على يديه من أنواع المعجزات والكرامات ما يزيد على الألف، ولا يقصده أحد بسوء إلا أظفره به، ولا يدعوه بدعوة إلا استجابها له، فهذا من أعظم الظلم والسفه الذي لا يليق نسبته إلى آحاد العقلاء، فضلا عن رب الأرض والسماء، فكيف وهو يشهد له بإقراره على دعوته وبتأييده وبكلامه، وهذه عندكم شهادة زور وكذب، فلما سمع ذلك قال: معاذ الله أن يفعل الله هذا بكاذب مفتر بل هو نبي صادق، من اتبعه أفلح وسعد. قلت: فما لك لا تدخل في دينه؟ قال: إنما بعث إلى الأميين الذين لا كتاب لهم، وأما نحن فعندنا كتاب نتبعه. قلت له: غُلبت كل الغلب؛ فإنه قد علم الخاص والعام أنه أخبر إنه رسول الله إلى جميع الخلق، وأن من لم يتبعه فهو كافر من أهل الجحيم، وقاتل اليهود والنصارى وهم أهل كتاب، وإذا صحت رسالته وجب تصديقه في كل ما أخبر به، فأمسك ولم يحر جوابا.) (١) . ومثال هذا (لو أن حاجب الأمير قال للناس: إن الأمير قد أمركم بفعل كذا وكذا. فإن الناس يعلمون أنه لا يتعمد الكذب في مثل هذا وإن لم يكن بحضرته، فكيف إذا كان بحضرته) (٢) وبعلمه.

(١) هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن قيم الجوزية (ص:٨٧)، نشر الجامعة الإسلامية في المدينة النبوية. (٢) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، لشيخ الإسلام ابن تيمية (٦/٤٨٣) تحقيق د. علي بن ناصر وآخرين، الرياض، دار العاصمة،،الطبعة الأولي،١٤١٤.

وكان النبي ﷺ لا يكاد يدعو بدعاء إلا استجاب الله تعالى له في الحال، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ الْقَضَاءِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَائِمًا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعْتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا. فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» . قَالَ أَنَسٌ: وَلَا وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ وَلَا قَزَعَةً، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ (١) مِنْ بَيْتٍ وَلَا دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ، فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلَا وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا-وفي رواية: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ (- ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فِي الْجُمُعَةِ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الْأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا. قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الْآكَامِ وَالظِّرَابِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» . قَالَ: فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنِ السَّحَابِ إِلَّا انْفَرَجَتْ، فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ، وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ (٢)، وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلَّا حَدَّثَ بِالْجَوْدِ) (٣) . إلى غير ذلك من الأدعية الكثيرة جدا، التي استجاب الله له فيها بالحال، وهذا لا يمكن أن يتيسر لكاذب، بل لا يكون إلا لصادق مؤيد من الله، فيطوع له الطبيعة، ويسخر له السحاب والأمطار. المطلب الخامس: من الأدلة على صدقه ﷺ كمال أخلاقه: من الأدلة الواضحة على صدق النبي ﷺ وصحة نبوته، أخلاقه الفاضلة، وآدابه الكاملة، وسجاياه الرشيدة، وفطرته الحميدة: قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:٤]، وقال سبحانه: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة:١٢٨]، وقال أيضا: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران:١٥٩] .

(١) اسم جبل في المدينة. (٢) الجوبة: الحفرة المستديرة الواسعة، وهي أيضا فجوة ما بين البيوت. المعجم الوسيط (١/١٥٠) (ج وب) (٣) متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة غير مستقبل، رقم:١٠١٤، ومسلم: كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، رقم:٨٩٧) .

ومن ذلك أيضا قوله: ﴿وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة:٦١] . وجاء عن سَعْيدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، أنه أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ بِوِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ (؟ قَالَ: مَنْ؟ قَالَ: عَائِشَةُ فَأْتِهَا فَاسْأَلْهَا، ثُمَّ ائْتِنِي فَأَخْبِرْنِي بِرَدِّهَا عَلَيْكَ. فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهَا فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ (كَانَ الْقُرْآنَ. قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَقُومَ وَلَا أَسْأَلَ أَحَدًا عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أَمُوتَ، ثُمَّ بَدَا لِي فَقُلْتُ: أَنْبِئِينِي عَنْ قِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ... الحديث) (١) . وقد أُلفتْ في أخلاق النبي ﷺ، وشمائله العطرة، وصفاته الزكية، وعاداته الحميدة مؤلفات كثيرة، من أشهرها كتاب شمائل النبي ﷺ للترمذي، ولأبي بكر المقري، ولأبي العباس المستغفري، وكتاب الأنوار في شمائل المختار للبغوي (٢)، وغيرها كثير. وهذه الأخلاق العظيمة شهد له فيها أعداؤه من كفار قريش وغيرهم، وكان متحليا بها قبل الإسلام وبعده؛ (فإذا أنت صعدت بنظرك إلى سيرته العامة، لقيت من جوانبها مجموعة رائعة من الأخلاق العظيمة، حسبك الآن منها أمثلة يسيرة، إذا ما تأملتها صورت لك إنسانًا من الطهر ملء ثيابه، والجد حشو إهابه، يأبى لسانه أن يخوض فيما لا يعلمه، وتأبى عيناه أن تخفيا خلاف ما يعلنه، ويأبى سمعه أن يصغي إلى غلو المادحين له: تواضعٌ هو حلية العظماء، وصراحة نادرة في الزعماء، وتثبت قلما تجده عند العلماء. فأنى من مثله الختل (٣) أو التزوير، أو الغرور أو التغرير؟ حاشا لله! أما هذه الأمثلة اليسيرة التي تتصل بالجانب الخلقي منه (، ورأينا الاكتفاء بها في الدلالة على ذدق نبوته، فنجملها فيما يلي: ١- يتبرأ من علم الغيب: جلست جويريات يضربن بالدف في صبيحة عرس الربيع بنت معوذ الأنصارية، وجعلن يذكرن آباءَهُنَّ من شهداء بدر حتى قالت جارية منهن: وفينا نبي يعلم ما في غدٍ. فقال: «لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين» . رواه البخاري (٤) . ومصداقه في كتاب الله تعالى: ﴿قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب﴾ [سورة الأنعام الآية:٦٠]، ﴿ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير﴾ [سورة الأعراف الآية:١٨٨] . ٢- لا يُظهر خلاف ما يبطن: كان عبد الله بن أبي السرح أحد النفر الذين استثناهم النبي من الأمان يوم الفتح؛ لفرط إيذائهم للمسلمين وصدهم عن الإسلام، فلما جاء إلى النبي ﷺ لم يبايعه إلا بعد أن شفع له عثمان ﵁ ثلاثًا. ثم أقبل على أصحابه فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حين كففت يدي عن بيعته فيقتله؟» فقالوا: ما ندري ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك! فقال (: «إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين» . رواه أبو داود والنسائي (٥) . ٣- خوفه من التقول على الله:

(١) أخرجه مسلم مطولا (كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب جامع صلاة الليل ومن نام عنه أومرض، رقم:٧٤٦) . (٢) انظر الرسالة المستطرفة لبيان مشهور كتب السنة المشرفة للكتاني (ص:٨٨) . (٣) الختل: الخداع عن غفلة. الوسيط (١/٢٢٥) (خ ت ل) . (٤) البخاري (كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا، رقم:٣٧٧٩) . (٥) أخرجه أبو داود (كتاب الجهاد، باب قتل الأسير ولا يعرض عليه الإسلام، رقم:٢٦٨٣)، والنسائي (كتاب تحريم الدم، باب الحكم في المرتد، رقم:٤٠٦٧) وإسناده حسن.

عن عائشة ﵂ قالت: دُعِي رسولُ الله (إلى جِنَازةِ صبيًّ مِنَ الأنصارِ. فقلتُ: يا رسولُ الله طوبَى لهذا، عصفورُ مِن عصافيرِ الجَنَّةِ، لم يعملِ السُّوءَ ولم يُدْرِكْه. فقال: «أو غيْرَ ذلك يا عائشةُ، إنَّ الله خَلَق للَجنةِ أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلابِ آبائهم، وخلق للنارِ أهلًا، خلقهم لها وهم في أصلابِ آبائهم» . رواه مسلم (١) . وقال البخاري: بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ (يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي أَوْ لَمْ يُجِبْ، حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلَا بِقِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ (عَنِ الرُّوحِ فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ الْآيَةُ (٢) . (قَوْله: (بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ (يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْي، فَيَقُولُ لَا أَدْرِي، أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْي) أَيْ كَانَ لَهُ إِذَا سُئِلَ عَنِ الشَّيْء الَّذِي لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ فِيهِ حَالَانِ: إِمَّا أَنْ يَقُولَ لَا أَدْرِي، وَإِمَّا أَنْ يَسْكُت حَتَّى يَأْتِيه بَيَان ذَلِكَ بِالْوَحْيِ، وَالْمُرَاد بِالْوَحْيِ أَعَمّ مِنَ الْمُتَعَبَّدِ بِتِلَاوَتِهِ وَمِنْ غَيْره، وَقَدْ وَرَدَتْ فِيهِ عِدَّة أَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث اِبْن عُمَر " جَاءَ رَجُل إِلَى النَّبِيِّ (فَقَالَ: أَيُّ الْبِقَاع خَيْرٌ؟ قَالَ: «لَا أَدْرِي» . فَأَتَاهُ جِبْرِيل فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «لَا أَدْرِي» . فَقَالَ: «سَلْ رَبّك» فَانْتَفَضَ جِبْرِيلُ انْتِفَاضَة. الْحَدِيث أَخْرَجَهُ اِبْنُ حِبَّانَ، وَلِلْحَاكِمِ نَحْوَه مِنْ حَدِيثِ جُبَيْر ابْنِ مُطْعمِ، وَفِي الْبَاب عَنْ أَنَس عِنْد اِبْن مَرْدَوَيْهِ، وحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة أَنَّ رَسُول اللَّه (قَالَ: «مَا أَدْرِي الْحُدُودَ كَفَّارَةُُ لِأَهْلِهَا أَمْ لَا» . هُوَ عِنْد الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْحَاكِم) (٣) . ٤- لا يدري ماذا سيكون حظه عند الله: ولما توفي عثمان بن مظعون ﵁ قالت أم العلاء - امرأة من الأنصار -: رحمة الله عليك أبا السائب، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال (: «وما يدريك أن الله أكرمه؟» فقالت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ قال: أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول ما يفعل بي» . قالت: فوالله لا أزكي أحدًا بعده أبدًا) رواه البخاري (٤)، ومصداقه في كتاب الله تعالى: ﴿قل ما كنت بِدعًا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم﴾ [سورة الأحقاف الآية: ٩] . أتراه لو كان حين يتحامى الكذب يتحاماه دهاءً وسياسةً، خشية أن يكشف الغيب قريبًا أو بعيدًا عن خلاف ما يقول، ما الذي كان يمنعه أن يتقول ما يشاء في شأن ما بعد الموت، وهو لا يخشى من يراجعه فيه، ولا يهاب حكم التاريخ عليه؟ بل منعه الخُلق العظيم، وتقدير المسئولية الكبرى أمام حاكم آخر أعلى من التاريخ وأهله ﴿فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين، فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين﴾ [الأعراف الآيتان: ٦، ٧]) (٥) . ولنأخذ خلقا واحدا من أخلاقه على سبيل المثال وهو خلق الصدق:

(١) أخرجه مسلم (كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على فطرة، رقم:٢٦٦٢) . (٢) صحيح البخاري (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما كان النبي ﷺ يسأل مما لم ينزل عليه الوحي ...، والحديث الذي في الباب رقمه:٧٣٠٩) . (٣) فتح الباري لابن حجر (١٣/٣٠٣) . (٤) في كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت إذا أدرج في الأكفان، رقم:١١٨٦. (٥) النبأ العظيم، ص: ٣٤-٣٦، وقد زدت بعض الزيادات.

فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ﵄ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (وَرَهْطَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: «يَا صَبَاحَاهْ» . فَقَالُوا: مَنْ هَذَا فقالوا: محمد. فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي فُلَانٍ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ» فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» . قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ مَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟! ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) (١) . فانظر إلى قولهم: (ما جربنا عليك كذبا) ٠يعنى ولا حتى مرة واحدة، قيلت هذه الكلمة أمام هذه الجموع، ولم ينكرها أحد، مع أنه عاشرهم أربعين سنة قبل أن يبعث، ومع هذا ما جربوا عليه كذبا قط. بل حتى من لم يعرفه كان إذا رآه علم أنه صادق: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ، وَقِيلَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ» (٢) . يقول ابن رواحة ﵁: لو لم تكن فيه آياتٌ مبينةٌ كانت بداهته تنبيك بالخبر (٣) ومن سمع كلامه علم صدقه؛ فقد روي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ. فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ. قَالَ: فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ» . قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ. فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ. قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ: فَبَايَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَعَلَى قَوْمِكَ؟» قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي. قَالَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَرِيَّةً فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً. فَقَالَ: رُدُّوهَا؛ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ) (٤) .

(١) متفق عليه (البخاري: تفسير القرآن، باب تباب خسران وتتبيب تدمير، رقم:٤٦٨٧، ومسلم: الإيمان، باب قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين (، رقم:٢٠٨) . (٢) أخرجه الإمام أحمد (٢٣٢٧٢)، والترمذي (كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب منه، رقم:٢٤٨٥)، وابن ماجه (كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام الليل، رقم:١٣٣٤)، والدارمي (كتاب الصلاة، باب فضل صلاة الليل، رقم:١٤٦٠)، وإسناده صحيح، صححه الترمذي والألباني (صحيح الترمذي ٢/٣٠٣) وعبد القادر الأرنؤوط (جامع الأصول ٩/٥٥١) وغيرهم. (٣) انظر: ديوان عبد الله بن رواحة، (ص:٩٥) جمع ودراسة وتحقيق د. حسن محمد باجودة، القاهرة، مكتبة التراث، ١٩٧٢. (٤) أخرجه مسلم (كتاب الجمعة، تخفيف الصلاة والخطبة، رقم:٨٦٨) .

واسمع لهرقل عظيم الروم -وكان من علماء النصارى- كيف استدل بهذا الخلق على صدق رسالة النبي ﷺ؛ عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا. فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ، فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ، ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لَا نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا. قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّدْقِ، وَالْعَفَافِ، وَالصِّلَةِ. فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا الْقَوْلَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ.
وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، قُلْتُ: فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيه، ِ وَسَأَلْتُكَ هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الْإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا تَغْدِرُ، وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ؛ فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، ولَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ، ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ
تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَ(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ، وَارْتَفَعَتْ الْأَصْوَاتُ، وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الْإِسْلَامَ. وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ، وَهِرَقْلَ سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ: أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدْ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ -قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ- فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الْخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا الْيَهُودُ، فَلَا يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَائِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْيَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ، يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لَا؟ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنْ الْعَرَبِ فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي الْعِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ (وَأَنَّهُ نَبِيٌّ فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ هَلْ لَكُمْ فِي الْفَلَاحِ وَالرَّشْدِ وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ إِلَى الْأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنْ الْإِيمَانِ قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا، أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ. فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ) (١)؛ فهرقل استدل بسيرته على صدقه، وشهد له بالصدق أبو سفيان الذي كان في وقتها من ألد أعدائه، فهو رأس قريش وقائدهم. إذن: من عاشره شهد بصدقه، ومن رآه من أول وهلة شهد بصدقه، ومن سمع كلامه شهد بصدقه، ومن سمع عنه ولم يره شهد بصدقه، وعدوه شهد بصدقه، فهل بعد هذا مطعن فيه؟.

(١) متفق عليه (البخاري: كتاب بدأ الوحي، رقم:٧، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي ﷺ إلى هرقل، رقم: ١٧٧٣) .

ومن المعلوم ضرورة أنه لا يمكن لرجل كاذب، مداوم على الكذب، ويدعي كل يوم أنه أتاه وحي جديد من الله تعالى، ومع هذا لم يستطع أحد أن يلاحظ ذلك عليه ويعرف حقيقته، فإنه من كان في قلبه خلاف ما يبطن فلا بد أن يزل، وأن تعرف حقيقته بفلتات لسانه ولحن قوله، كما قال تعالى عن المنافقين: ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد:٣٠] . وقد روي عن عثمان بن عفان (أنه قال: (ما أسر أحد سريرة إلا أبداها على صفحات وجهه وفلتات لسانه) (١) . (واعلم أنك مهما أزحت عن نفسك راحة اليقين. وأرخيت لها عنان الشك، وتركتها تفترض أسوأ الفروض في الواقعة الواحدة، والحادثة الفذة من هذه السيرة المكرمة، فإنك متى وقفت منها على مجموعة صالحة، لا تملك أن تدفع هذا اليقين عن نفسك، إلا بعد أن تتهم وجدانك وتشك في سلامة عقلك، فنحن قد نرى الناس يدرسون حياة الشعراء في أشعارهم، فيأخذون عن الشاعر من كلامه صورة كاملة؛ تتمثل فيها عقائده، وعوائده، وأخلاقه، ومجرى تفكيره، وأسلوب معيشته، ولا يمنعهم زخرف الشعر وطلاؤه عن استنباط خيلته (٢)، وكشف رغوته عن صريحه (٣)؛ ذلك أن للحقيقة قوة غلابة تنفذ من حجب الكتمان، فتُقرأ بين السطور وتُعرف في لحن القول، والإنسان مهما أمعن في تصنعه ومداهنته لا يخلو من فلتات في قوله وفعله، تنم على طبعه إذا أُحفِظ أو أُحرج، أو احتاج أو ظفر، أو خلا بمن يطمئن إليه. ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم فما ظنك بهذه الحياة النبوية، التي تعطيك في كل حلقة من حلقاتها مرآة صافية لنفس صاحبها، فتريك باطنه من ظاهره، وتريك الصدق والإخلاص ماثلًا في كل قول من أقواله وكل فعل من أفعاله. بل كان الناظر إليه إذا قويت فطنته وحسنت فراسته، يرى أخلاقه العالية تلوح في محياه ولو لم يتكلم أو يعمل. ومن هنا كان كثير ممن شرح الله صدورهم للإسلام لا يسألون رسول الله على ما قال برهانًا، فمنهم العشير (٤) الذي عرفه بعظمة سيرته؛ ومنهم الغريب الذي عرفه بسيماه في وجهه) (٥) كما حصل لعبد الله بن سلام. ثم إن الكاذب لو استطاع أن يكذب على كل الناس؛ فإنه لن يكذب على نفسه ويصدِّقُ كذبه، ومن هذه الأمثلة على هذه الحقيقة قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة:٦٧] . عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ (يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ (فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ رَأْسَهُ مِنْ الْقُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ» . (٦)، فهل هذا فعل كاذب، كيف لكاذب أن يطرد الذين يحرسونه بزعم أن الله سيعصمه، وهو يعلم في قرارة ذاته كذب نفسه، والعرب قد رمته عن قوس واحدة تتربص له في كل طريق، ألا يخاف أن يغتال؟!. إن هذا الأمر لا يفعله إلا رجل صادق، يأوي إلى ركن شديد، واثق من أن الذي أرسله سيحميه من كل المخاطر.

(١) ذكره ابن تيمية في الجواب الصحيح (٦/٤٨٧) ولم يذكر من خرجه، وكذا ذكره ابن مفلح في الفروع (١/١٥٣) ولم يعزه لمصدر، ولم أجده بعد طول عناء في البحث في مظانه، ولكن المعنى صحيح على كل حال. (٢) استنباط خيلته: الخيلة في اللغة هي الكبر، ولكن اشتقاقات فعل: خال يخيل تظهر معاني الخفاء والاستشكال والتلون، فهنا قد تعني كلمة (استنباط خيلته): فهم وإظهار ما يراد إخفاؤه. (٣) كشف رغوته عن صريحه: الرغوة هي ما يكون فوق اللبن عند صبه في الإناء [أي الفقاقيع]، والصريح هو اللبن الخالص، وهذا التعبير يعني إجمالًا: كشف الزيف عن الحقيقة. (٤) العشير: الزوج أو المعاشر أو الصديق القريب، ومن هؤلاء أبو بكر الصديق ﵁. (٥) النبأ العظيم، ص:٣٨. (٦) أخرجه الترمذي (كتاب تفسير القرآن، باب من سورة المائدة، رقم:٣٠٤٦) وحسنه الألباني (صحيح الترمذي رقم:٢٤٤٠) .

ومن هذا الباب حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ، فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ (١)، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلَّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا. قَالَ: وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَسَيْفُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مُعَلَّقٌ بِشَجَرَةٍ، فَأَخَذَ سَيْفَ نَبِيِّ اللَّهِ (فَاخْتَرَطَهُ (٢)، فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَتَخَافُنِي؟ قَالَ: «لَا» . قَالَ: فَمَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: «اللَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْكَ» . وَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَجِئْنَا، فَإِذَا أَعْرَابِيٌّ قَاعِدٌ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذَا أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاخْتَرَطَ سَيْفِي، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِي مُخْتَرِطٌ صَلْتًا (٣)، قَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: «اللَّهُ، فَشَامَهُ -يعني أدخله في غمده- ثُمَّ قَعَدَ فَهُوَ هَذَا» . قَالَ: وَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ) (٤) . (ومن أعظم الوقائع تصديقا لهذا النبأ الحق، ذلك الموقف المدهش الذي وقفه النبي ﷺ في غزوة حنين، منفردًا بين الأعداء، وقد انكشف المسلمون وولوا مدبرين، فطفق هو يركض بغلته إلى جهة العدو، والعباس بن عبد المطلب آخذ بلجامها يكفها إرادة ألا تسرع، فأقبل المشركون إلى رسول الله (، فلما غشوه لم يفر ولم ينكص، بل نزل عن بغلته كأنما يمكنهم من نفسه، وجعل يقول: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب» (٥) . كأنما يتحداهم ويدلهم على مكانه، فوالله ما نالوا منه نيلا، بل أيده الله بجنده، وكف عنه أيديهم بيده) (٦) . ومن لطيف الاستدلال - في هذا المقام - استدلال بعضهم لصدقه بزواجه من أكثر من تسع نسوة؛ ووجه ذلك أن الإنسان الكاذب قد يستطيع أن يتحرز من الناس في حياته الخارجية، بحيث لا يستطيع أحد أن يجد عليه كذبا، لكن هذا لا يحصل للإنسان مع زوجته؛ فإن العادة جرت بسقوط كلفة وانبساط الرجل مع أهله، وزوجته أعلم الناس بحاله، فلما كان احتمال أن هذه الزوجة تتواطأ مع زوجها في إخفاء كذبه؛ إذن للنبي (أن يكثر من الأزواج، فالنبي ﷺ مع كثرة أزواجه لم تنقل إحداهن عن حياته الخاصة إلا كل كمال يمكن أن يوصف به إنسان، فلو أمكن أن تتواطأ واحدة، فإنه لا يمكن أن يتواطأن كلهن على ستر كذبه، وإخفاء عيبه فهذا في غاية من البعد، لاسيما أن بعضهن كصفية بنت حيي بن أخطب، التي تزوجها بعد أن حارب قومها، وقتل منهم الكثير، ثم سباها ثم أعتقها وتزوجها، وأم حبيبة كان متزوجا لها وهو يحارب أباها أبا سفيان، وجويرية بنت الحارث كانت من سبايا بني المصطلق، ثم أعاناها على مكاتبتها وتزوجها (٧)، ألم يكن لهؤلاء النسوة أكبر دافع للثأر منه، ولو بتشويه صورته حتى لو بعد موته؟ بلى، ولكن كل هذا لم يحصل فدل على صدقه. فهذا خلق واحد من أخلاقه (اُستدل به على صحة نبوته؛ فما بالك بأخلاقه الأخرى. المطلب السادس: جوابه الحاضر على أسئلة المشككين: لقد كان من أدلة صدق النبي ﷺ جوابه الحاضر على الأسئلة المفاجئة التي كان يواجهه بها المشككون في صدقه، ولا يتأتى ذلك لشخص كاذب مهما أوتي من فطنة، بل لا يصدر إلا عن نبي مؤيد بوحي من السماء، فمن أمثلة ذلك.

(١) العِضَاهُ: كل شجرة له شوك صغُر أو كبُر. واحدته: عِضَاهَةُ. المعجم الوسيط (ع ض و) (٢) اخترط السيف: اسْتَلَّه. القاموس المحيط (خ ر ط) (٣) سيفُ صَلْت: صقيلُ ماضٍ. والصَّلْت: البارز. المعجم الوسيط (ص ل ت) (٤) متفق عليه (البخاري: كتاب المغازي، باب: غزوة بني المصطلق، رقم: ٣٩٠٨، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة الخوف، رقم:٨٤٣) . (٥) متفق عليه (البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب: من قال خذها وأنا ابن فلان، رقم:٢٨٧٧، ومسلم: كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين، رقم:١٧٧٦) . (٦) النبأ العظيم، للعلامة د. محمد عبد الله دراز، ص:٤٩) . (٧) انظر في ترجمة أمهات المؤمنين: روائع البيان في تفسير آيات الأحكام من القرآن، لمحمد علي الصابوني (ص:٣٠٧-٣١٦) .

عَنْ أَنَسٍ قَالَ سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِقُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَهْوَ فِي أَرْضٍ يَخْتَرِفُ، فَأَتَى النَّبِيَّ (، فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ؛ فَمَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ وَمَا يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ ... الحديث السابق) (١) . وعن ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَجَاءَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ. فَدَفَعْتُهُ دَفْعَةً كَادَ يُصْرَعُ مِنْهَا فَقَالَ: لِمَ تَدْفَعُنِي؟ فَقُلْتُ: أَلَا تَقُولُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِنَّمَا نَدْعُوهُ بِاسْمِهِ الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَهْلُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ اسْمِي مُحَمَّدٌ الَّذِي سَمَّانِي بِهِ أَهْلِي» . فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أَيَنْفَعُكَ شَيْءٌ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟» قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. فَنَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِعُودٍ مَعَهُ، فَقَالَ: «سَلْ» . فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ» . قَالَ: فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ» . قَالَ الْيَهُودِيُّ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: «زِيَادَةُ كَبِدِ النُّونِ» . قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى إِثْرِهَا؟ قَالَ: «يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا» . قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: «مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» . قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: وَجِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ شَيْءٍ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ. قَالَ: «يَنْفَعُكَ إِنْ حَدَّثْتُكَ؟» . قَالَ: أَسْمَعُ بِأُذُنَيَّ. قَالَ: جِئْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ الْوَلَدِ؟، قَالَ: «مَاءُ الرَّجُلِ أَبْيَضُ وَمَاءُ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ، فَإِذَا اجْتَمَعَا فَعَلَا مَنِيُّ الرَّجُلِ مَنِيَّ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلَا مَنِيُّ الْمَرْأَةِ مَنِيَّ الرَّجُلِ آنَثَا بِإِذْنِ اللَّهِ» . قَالَ الْيَهُودِيُّ: لَقَدْ صَدَقْتَ وَإِنَّكَ لَنَبِيٌّ. ثُمَّ انْصَرَفَ فَذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَقَدْ سَأَلَنِي هَذَا عَنِ الَّذِي سَأَلَنِي عَنْهُ، وَمَا لِي عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى أَتَانِيَ اللَّهُ بِهِ) (٢) .

(١) أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، باب من كان عدوا لجبريل، رقم:٤٢١٠) . (٢) أخرجه مسلم (كتاب الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة، رقم:٣١٥) .

عن ابْنِ عَبَّاسٍ (قال: حَضَرَتْ عِصَابَةٌ مِنَ الْيَهُودِ نَبِيَّ اللَّهِ (يَوْمًا، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنْ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ، لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ قَالَ: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ، وَلَكِنِ اجْعَلُوا لِي ذِمَّةَ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ يَعْقُوبُ ﵇ عَلَى بَنِيهِ، لَئِنْ حَدَّثْتُكُمْ شَيْئًا فَعَرَفْتُمُوهُ لَتُتَابِعُنِّي عَلَى الْإِسْلَامِ» . قَالُوا: فَذَلِكَ لَكَ. قَالَ: «فَسَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ» . قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعِ خِلَالٍ نَسْأَلُكَ عَنْهُنَّ؛ أَخْبِرْنَا أَيُّ الطَّعَامِ حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ مَاءُ الْمَرْأَةِ وَمَاءُ الرَّجُلِ كَيْفَ يَكُونُ الذَّكَرُ مِنْهُ؟ وَأَخْبِرْنَا كَيْفَ هَذَا النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ فِي النَّوْمِ، وَمَنْ وَلِيُّهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ؟ قَالَ: «فَعَلَيْكُمْ عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمْ لَتُتَابِعُنِّي» . قَالَ: فَأَعْطَوْهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ. قَالَ: «فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى ﷺ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيلَ يَعْقُوبَ ﵇ مَرِضَ مَرَضًا شَدِيدًا، وَطَالَ سَقَمُهُ، فَنَذَرَ لِلَّهِ نَذْرًا لَئِنْ شَفَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ سَقَمِهِ لَيُحَرِّمَنَّ أَحَبَّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ وَأَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبَّ الطَّعَامِ إِلَيْهِ لُحْمَانَ الْإِبِلِ وَأَحَبُّ الشَّرَابِ إِلَيْهِ أَلْبَانُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ، فَأَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ أَبْيَضُ غَلِيظٌ، وَأَنَّ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَصْفَرُ رَقِيقٌ، فَأَيُّهُمَا عَلَا كَانَ لَهُ الْوَلَدُ وَالشَّبَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ؛ إِنْ عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ عَلَى مَاءِ الْمَرْأَةِ كَانَ ذَكَرًا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِنْ عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ عَلَى مَاءِ الرَّجُلِ كَانَ أُنْثَى بِإِذْنِ اللَّهِ؟» . قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ، فَأَنْشُدُكُمْ بِالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ هَذَا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ» . قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» . قَالُوا: وَأَنْتَ الْآنَ فَحَدِّثْنَا مَنْ وَلِيُّكَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَعِنْدَهَا نُجَامِعُكَ أَوْ نُفَارِقُكَ؟ قَالَ: «فَإِنَّ وَلِيِّيَ جِبْرِيلُ ﵇ وَلَمْ يَبْعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا وَهُوَ وَلِيُّهُ» . قَالُوا: فَعِنْدَهَا نُفَارِقُكَ؟ لَوْ كَانَ وَلِيُّكَ سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَتَابَعْنَاكَ وَصَدَّقْنَاكَ. قَالَ: «فَمَا يَمْنَعُكُمْ مِنْ أَنْ تُصَدِّقُوهُ» . قَالُوا: إِنَّهُ عَدُوُّنَا. قَالَ: فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ ﷿ (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ (إِلَى قَوْلِهِ ﷿ (كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (فَعِنْدَ ذَلِكَ بَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) (١) .

(١) أخرجه الإمام أحمد (٢٥١٠) وهو حسن، وصححه الشيخ أحمد شاكر برقم:٢٥١٤.

وفي وراية عن عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلَتْ يَهُودُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ، فَإِنْ أَنْبَأْتَنَا بِهِنَّ عَرَفْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَاتَّبَعْنَاكَ، فَأَخَذَ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ إِسْرَائِيلُ عَلَى بَنِيهِ إِذْ قَالُوا: اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ. قَالَ: «هَاتُوا» . قَالُوا: أَخْبِرْنَا عَنْ عَلَامَةِ النَّبِيِّ؟ قَالَ: «تَنَامُ عَيْنَاهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ» . قَالُوا: أَخْبِرْنَا كَيْفَ تُؤَنِّثُ الْمَرْأَةُ وَكَيْفَ تُذْكِرُ؟ قَالَ: «يَلْتَقِي الْمَاءَانِ؛ فَإِذَا عَلَا مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَذْكَرَتْ، وَإِذَا عَلَا مَاءُ الْمَرْأَةِ آنَثَتْ» . قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ؟ قَالَ: «كَانَ يَشْتَكِي عِرْقَ النَّسَا، فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا أَلْبَانَ الْإِبِلَِ فَحَرَّمَ لُحُومَهَا» . قَالُوا: صَدَقْتَ، قَالُوا: أَخْبِرْنَا مَا هَذَا الرَّعْدُ؟ قَالَ: «مَلَكٌ مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ ﷿ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، بِيَدِهِ أَوْ فِي يَدِهِ مِخْرَاقٌ مِنْ نَارٍ يَزْجُرُ بِهِ السَّحَابَ، يَسُوقُهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ» . قَالُوا: فَمَا هَذَا الصَّوْتُ الَّذِي يُسْمَعُ؟ قَالَ: «صَوْتُهُ» . قَالُوا: صَدَقْتَ، إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاحِدَةٌ وَهِيَ الَّتِي نُبَايِعُكَ إِنْ أَخْبَرْتَنَا بِهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ يَأْتِيهِ بِالْخَبَرِ، فَأَخْبِرْنَا مَنْ صَاحِبكَ؟ قَالَ: «جِبْرِيلُ ﵇» . قَالُوا: جِبْرِيلُ ذَاكَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالْحَرْبِ وَالْقِتَالِ وَالْعَذَابِ عَدُوُّنَا، لَوْ قُلْتَ مِيكَائِيلَ الَّذِي يَنْزِلُ بِالرَّحْمَةِ وَالنَّبَاتِ وَالْقَطْرِ لَكَانَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﷿ (مَن كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ... إِلَى آخِرِ الْآيَةَ «١) . فلو كان النبي ﷺ رجلا كاذبا- وحاشاه -، هل يغامر هذه المغامرة، ويرضى بهذا الاختبار العلني من علماء وأحبار، وهو لا يعرف ما هي الأسئلة أو إجابتها، ويقول (سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ)؟! لو كان يأخذ من أساطير الأولين، أليس المفترض أنه يقول: انتظروني حتى أراجع مراجعي أو مشايخي، أم أنه كان مطمئنا إلى صدق نفسه، واثقا بمن أرسله وأنه لا يخذله أبدا، ومع أنهم يسألونه في علوم لم يدرسها، ولا يعرفها قومه، إلا أنه كان يجيب عليها بكل دقة، والعجب أن هذا الأسئلة ليست في علم واحد، بل هي في عدة علوم، فبعضها طبية، وبعضها غيبية لا يمكن لأحد أن يطلع عليها إلا بوحي، أليس في هذا أوضح دليل على صدق رسالته؟ . المطلب السابع: عدم استغلاله فرص التعالي: - في بعض المواقف تحصل للنبي (فرصة عظيمة للتعالي والتكبر والفخر، ولكنه يأبى أن يفعل ذلك، ولو كان كاذبا لاستغلها أعظم استغلال: يقول إميل درمنغم (٢): (ولد لمحمد ابنه إبراهيم فمات طفلا، فحزن عليه كثيرا ولحده بيده، ووافق موتُه كسوف الشمس، فقال المسلمون: إنها انكسفت لموت إبراهيم. ولكن محمدا كان من سمو النفس ما رأى به رد ذلك، فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته..» (٣)؛ فقول مثل هذا لا يصدر عن كاذب دجال..) (٤) . وهذا كلام حق، فلو كان غير النبي ﷺ من مدعي النبوة، لاهتبل هذه الفرصة وقال: انظروا إلى الشمس حزنت لحزني وانكسفت.

(١) أخرجه الإمام أحمد (٢٤٧٩)، وصححه أحمد شاكر رقم: ٢٤٨٣. (٢) مستشرق فرنسي، عمل مديرا لمكتبة الجزائر، من آثاره: (حياة محمد) في باريس عام (١٩٢٩)، وهو من أدق ما صنفه مستشرق عن النبي ﷺ،و(محمد والسنة الإسلامية) ألفه في باريس (١٩٥٥) .انظر: قالوا عن الإسلام: ص:٦٠. (٣) متفق عليه (البخاري: كتاب الجمعة، باب الدعاء في الخسوف، رقم:١٠١٢، ومسلم: كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، رقم:٩٠١) . (٤) حياة محمد له (ص:٣١٨)، نقله عنه كتاب" قالوا عن الإسلام " ص:٦٠.

ومن هذا الباب حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ لَهُمْ جَمَلٌ يَسْنُونَ (١) عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْجَمَلَ اسْتُصْعِبَ عَلَيْهِمْ فَمَنَعَهُمْ ظَهْرَهُ، وَإِنَّ الْأَنْصَارَ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالُوا: إِنَّهُ كَانَ لَنَا جَمَلٌ نُسْنِي، عَلَيْهِ وَإِنَّهُ اسْتُصْعِبَ عَلَيْنَا وَمَنَعَنَا ظَهْرَهُ، وَقَدْ عَطِشَ الزَّرْعُ وَالنَّخْلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِأَصْحَابِهِ: «قُومُوا» . فَقَامُوا فَدَخَلَ الْحَائِطَ وَالْجَمَلُ فِي نَاحِيَةٍ، فَمَشَى النَّبِيُّ (نَحْوَهُ، فَقَالَتَ الْأَنْصَارُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ صَارَ مِثْلَ الْكَلْبِ الْكَلِبِ (٢) وَإِنَّا نَخَافُ عَلَيْكَ صَوْلَتَهُ. فَقَالَ: «لَيْسَ عَلَيَّ مِنْهُ بَأْسٌ (٣)» . فَلَمَّا نَظَرَ الْجَمَلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتَّى خَرَّ سَاجِدًا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِنَاصِيَتِهِ أَذَلَّ مَا كَانَتْ قَطُّ حَتَّى أَدْخَلَهُ فِي الْعَمَلِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ بَهِيمَةٌ لَا تَعْقِلُ تَسْجُدُ لَكَ! وَنَحْنُ نَعْقِلُ، فَنَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَسْجُدَ لَكَ. فَقَالَ: «لَا يَصْلُحُ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، وَلَوْ صَلَحَ لِبَشَرٍ أَنْ يَسْجُدَ لِبَشَرٍ، لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا مِنْ عِظَمِ حَقِّهِ عَلَيْهَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ مِنْ قَدَمِهِ إِلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ قُرْحَةً تَنْبَجِسُ بِالْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْهُ فَلَحَسَتْهُ مَا أَدَّتْ حَقَّهُ» (٤) . فلم يستغل النبي ﷺ سجود الجمل له ليعظم نفسه أو يرفعها، بل قال: لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر. المطلب الثامن: استعداده للملاعنة والمباهلة على من خالفه، غير وجل ولا خائف أن يحيق به شيء (٥): المباهلة هي الملاعنة (٦)، قال في لسان العرب (٧): (وباهَلَ القومُ بعضُهم بعضًا وتَبَاهلوا وابتهلوا: تَلاَعنوا، والمُباهلة: المُلاَعَنَة؛ ويقال: باهَلْت فلانًا أَي لاعنته، ومعنى المباهلة: أَن يجتمع القوم إِذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لَعْنَةُ الله على الظالم منا، وفي حديث ابن عباس: من شاء باهَلْته أَن الحَقَّ معي) . قال ابن حجر ﵀ في سرده لفوائد حديث حذيفة القادم: (وَفِيهَا مَشْرُوعِيَّة مُبَاهَلَة الْمُخَالِف إِذَا أَصَرَّ بَعْد ظُهُور الْحُجَّة، وَقَدْ دَعَا اِبْن عَبَّاس إِلَى ذَلِكَ ثُمَّ الْأَوْزَاعِيُّ، وَوَقَعَ ذَلِكَ لِجَمَاعَةٍ مِنْ الْعُلَمَاء، وَمِمَّا عُرِفَ بِالتَّجْرِبَةِ أَنَّ مَنْ بَاهَلَ وَكَانَ مُبْطِلًا لَا تَمْضِي عَلَيْهِ سَنَة مِنْ يَوْم الْمُبَاهَلَة، وَوَقَعَ لِي ذَلِكَ مَعَ شَخْص كَانَ يَتَعَصَّب لِبَعْضِ الْمَلَاحِدَة فَلَمْ يَقُمْ بَعْدهَا غَيْر شَهْرَيْنِ) (٨) . ودلالة هذا المطلب على النبوة من وجهين: ١- ثقة النبي ﷺ الكاملة في دينه ومن أرسله جل وعلا، إذ من كان في قلبه أدنى شك في معتقده لا يمكن أن يقدم على مثل هذا المهلكة إلا أن يعتقد اتقادا جازما في صدق ما يقول. ٢- نكوص النصارى عن المباهلة، مما يدل على تصديقه في قلوبهم ولكنهم يعاندون. قال تعالى له: (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ([آل عمران:٦١] .

(١) يسنون عليه: أي يستقون عليه لسان العرب (س ن ي)، وسني الدابة: استقي عليها الماء. المعجم الوسيط (س ن ي) (٢) أي المسعور. يقال كَلِبَ الكَلِبَ يَكْلَبُ كَلَبًا: أصابة داءُ الكَلِبَ. انظر: الوسيط (ك ل ب)،ولسان العرب (١/٧٢٢) . (٣) فالذي عصمه من كل أذى الناس ألا يقدر أن يعصمه من الحيوان؟ . (٤) أخرجه الإمام أحمد (١٢٢٠٣) وإسناده حسن. (صححه الألباني في صحيح الترغيب، رقم: ١٩٣٦) وقد تقدم في ذكر آيات النبي ﷺ (٥) كتاب الداعي إلى الإسلام لكمال الدين الأنباري (ص:٤٣٧)، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولي،١٩٨٨، وتثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار (٢/٤٢٦) . (٦) انظر: مختار الصحاح (١/٢٧) . (٧) (١١/٧٢) . (٨) فتح الباري (٧/٦٩٧) .

قال ابن كثير ﵀: (وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران: أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى، ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية، فأنزل الله صدر في هذه السورة ردا عليهم، كما ذكره الإمام محمد بن إسحاق بن يسار وغيره، وقدم على رسول الله ﷺ وفد نصارى نجران ستون راكبا، وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم؛ وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم، وأبو حارثه ابن علقمة وكان أسقفهم صاحب مدارستهم، وكان رجلا من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها، وشرفوه وبنوا له الكنائس، وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم، وقد كان يعرف أمر رسول الله ﷺ، وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة، ولكن حمله ذلك على الاستمرار في النصرانية؛ لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها. قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على رسول الله ﷺ المدينة فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر، فكلم رسول الله ﷺ منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك، فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله ﷺ: «أسلما» . قالا: قد أسلمنا. قال: «إنكما لم تسلما، فأسلما» . قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولدا، وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير» . قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها، فلما أتى رسول الله ﷺ الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم، أن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه، ثم انصرفوا عنه ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمدًا لنبيُّ مرسلُ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبيا قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم أبيتم إلا إلفَ دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم. فأتوا النبي ﷺ فقالوا: يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا، يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فإنكم عندنا رضا فدعى أبا عبيدة فقال: «اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه») (١) . وفي الصحيحين عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ (٢) قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: لَا تَفْعَلْ فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّنا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا. قَالَا: إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا، وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلاَّ أَمِينًا. فَقَالَ: «لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ» . فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ» . فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» (٣) .

(١) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (١/٣٦٨) (٢) يعني بعد أن دعاهما النبي ﷺ لذلك، كما تبين من سبب النزول والأحاديث الأخرى. وانظر فتح الباري (٧/٦٩٦) . (٣) متفق عليه (البخاري: كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، رقم:٤١١٩، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة، رقم:٢٤٢٠) .

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ، لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ: فَقَال (َ: «لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوْا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ فِي النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا» (١) . فكيف لرجل كاذب أن يقحم نفسه في هذه المزلة، ويرضى أن يكون ملعونا بلعنة الله، مطرودا من رحمتة مستوجبا الهلاك ومستعجلا انتقام الله منه، إلا إن كان صادقا، عالما من صدق نفسه، واثقا بمن أرسله. المطلب التاسع: حمايته من كل ما يكاد به، ونجاته من كل محاولات الاغتيال: وهذا الدليل استدل به اليهود على صدق النبي ﷺ: ففي حديث عائشة عندما سحر النبي ﷺ لبيد بن الأعصم (٢)، (أَخْرَجَ اِبْن سَعْد بِسَنَدٍ لَهُ إِلَى عُمَر بْن الْحَكَم مُرْسَل قَالَ: لَمَّا رَجَعَ رَسُول اللَّه (مِنْ الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْحَجَّة، وَدَخَلَ الْمُحَرَّم مِنْ سَنَة سَبْع جَاءَتْ رُؤَسَاء الْيَهُود إِلَى لَبِيد بْن الْأَعْصَم - وَكَانَ حَلِيفًا فِي بَنِي زُرَيْق وَكَانَ سَاحِرًا - فَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا الْأَعْصَم، أَنْتَ أَسْحَرنَا، وَقَدْ سَحَرْنَا مُحَمَّدًا فَلَمْ نَصْنَع شَيْئًا، وَنَحْنُ نَجْعَل لَك جُعْلًا عَلَى أَنْ تَسْحَرهُ لَنَا سِحْرًا يَنْكَؤُهُ، وفي رواية اِبْن سَعْد: فَقَالَتْ أُخْت لَبِيد بْن الْأَعْصَم: إِنْ يَكُنْ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ، وَإِلَّا فَسَيُذْهِلُهُ هَذَا السِّحْر حَتَّى يَذْهَب عَقْله) (٣) . وفي الصحيحين عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ. قَالَ: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَيَّ» (٤)، ورواه أبو داود من حديث جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ: أَنَّ يَهُودِيَّةً مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً (٥)، ثُمَّ أَهْدَتْهَا لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الذِّرَاعَ فَأَكَلَ مِنْهَا، وَأَكَلَ رَهْطٌ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ» . وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ فَدَعَاهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَسَمَمْتِ هَذِهِ الشَّاةَ؟» قَالَتْ الْيَهُودِيَّةُ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟ قَالَ: «أَخْبَرَتْنِي هَذِهِ فِي يَدِي» . لِلذِّرَاعِ، قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا أَرَدْتِ إِلَى ذَلِكَ؟» . قَالَتْ: قُلْتُ: إِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَنْ يَضُرَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْهُ. فَعَفَا عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يُعَاقِبْهَا) (٦) . وقد بدأت هذه المحاولات من بداية البعثة:

(١) أخرجه الإمام أحمد (٢٢٢٦) بإسناد على شرط البخاري، وأخرج البخاري الجزء الأول من الحديث إلى قوله (لأخذته الملائكة عيانا) (كتاب التفسير، باب قوله (كلا لئن لم ينته لنسفعا..)،رقم:٤٩٥٨) . (٢) متفق عليه (البخاري: كتاب الطب، باب السحر، رقم:٥٤٣٣، ومسلم: كتاب السلام، باب السحر، رقم: ٢١٨٩)، وسيأتي نصه صفحة. (٣) فتح الباري (١٠/٢٣٧) . (٤) متفق عليه (البخاري: كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب قبول الهدية من المشركين، رقم:٢٦١٧، ومسلم: كتاب السلام، باب السم، رقم:٢١٩٠) . (٥) مصلية: مشوية. (لسان العرب (١٤/٤٦٧) (٦) سنن أبي داود (كتاب الديات، باب فيمن سقى رجلا سما أو أطعمه فمات أيقاد به، رقم:٤٥١٠) وهو صحيح لغيره كما قال الألباني في مشكاة المصابيح رقم: ٥٨٧٤.

فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (: أَنَّ الْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ، فَتَعَاهَدُوا بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى، لَوْ قَدْ رَأَيْنَا مُحَمَّدًا قُمْنَا إِلَيْهِ قِيَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَلَمْ نُفَارِقْهُ حَتَّى نَقْتُلَهُ. قَالَ: فَأَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَبْكِي حَتَّى دَخَلَتْ عَلَى أَبِيهَا، فَقَالَتْ: هَؤُلَاءِ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِكَ فِي الْحِجْرِ قَدْ تَعَاهَدُوا أَنْ لَوْ قَدْ رَأَوْكَ قَامُوا إِلَيْكَ فَقَتَلُوكَ، فَلَيْسَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا قَدْ عَرَفَ نَصِيبَهُ مِنْ دَمِكَ، قَالَ: يَا بُنَيَّةُ أَدْنِي وَضُوءًا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهِمْ الْمَسْجِدَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هُوَ هَذَا. فَخَفَضُوا أَبْصَارَهُمْ وَعُقِرُوا فِي مَجَالِسِهِمْ، فَلَمْ يَرْفَعُوا إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ، وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى قَامَ عَلَى رُءُوسِهِمْ، فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَحَصَبَهُمْ بِهَا، وَقَالَ: «شَاهَتِ الْوُجُوهُ» . قَالَ: فَمَا أَصَابَتْ رَجُلًا مِنْهُمْ حَصَاةٌ إِلَّا قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا) (١) . وحادثة الهجرة عندما أرادوا أن يقتلوا النبي ﷺ قبل هجرته، فجعل النبي ﷺ مكانه عليَّ بنَ أبي طالب، وخرج من بيته مع أن الكفار قد أحاطوا به من كل جانب؛ إلا أن الله قد أعمى أبصارهم عنه (٢)، وفي هذا يقول سبحانه: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ [الأنفال:٣٠] . وعن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (-في حديث الهجرة الطويل، وفيه-: الْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ قَدْ لَحِقَهُمْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا فَارِسٌ قَدْ لَحِقَ بِنَا. فَالْتَفَتَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اصْرَعْهُ» . فَصَرَعَهُ الْفَرَسُ، ثُمَّ قَامَتْ تُحَمْحِمُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ مُرْنِي بِمَا شِئْتَ. قَالَ: «فَقِفْ مَكَانَكَ لَا تَتْرُكَنَّ أَحَدًا يَلْحَقُ بِنَا» . قَالَ: فَكَانَ أَوَّلَ النَّهَارِ جَاهِدًا عَلَى نَبِيِّ اللَّهِ (، وَكَانَ آخِرَ النَّهَارِ مَسْلَحَةً لَهُ) (٣) . قال ابن حجر: (وفي قصة سراقة مع النبي ﷺ يقول سراقة مخاطبا أبا جهل: أبا حكم والله لو كنت شاهدا لأمر جوادي إذ تسوخ قوائمه علمت ولم تشكك بأن محمدا رسول ببرهان فمن ذا يقاومه) (٤) واستمرت هذه المحاولات في المدينة أيضا، كما تقدم في حديث لبيد بن الأعصم، وحادثة الشاة المسمومة في خيبر في السنة الخامسة وكذلك حادثة بني النضير الذي أرادوا أن يلقوا الصخرة على النبي ﷺ وهو جالس تحت بيت من بيوتهم، فكان هذا سببا لجلائهم من المدينة (٥) .

(١) أخرجه الإمام أحمد (٣٤٧٥) وإسناده صحيح كما قال الألباني في السلسلة الصحيحة (٦/٧٨١) رقم: ٢٨٢٤. (٢) انظر الروض الأنف في شرح سيرة ابن هشام، للسهيلي (٤/١٧٨) (٣) البخاري: كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلىالله عليه وسلم وأصحابه، رقم:٣٩١١) . (٤) الإصابة (٣/٤٢) . (٥) انظر: الرحيق المختوم في سيرة المعصوم، للمباركفوري (ص:٢٩٣)، دار الحديث، القاهرة.

ولم تكن هذه المحاولات قاصرة على اليهود، بل حتى كفار قريش كانوا مستمرين في ذلك؛ فـ (عن ابن شهاب قال: لما رجع كل المشركين إلى مكة، فأقبل عمير بن وهب حتى جلس إلى صفوان بن أمية في الحِجْر، فقال صفوان: قبح الله العيش بعد قتلى بدر. قال: أجل والله ما في العيش خير بعدهم، ولولا دين عليَّ لا أجد له قضاء، وعيال لا أدع لهم شيئا، لرحلت إلى محمد فقتلته إن ملأتُ عيني منه، فإن لي عنده علة أعتل بها عليه، أقول قَدِمْتُ من أجل ابني هذا الأسير. قال: ففرح صفوان وقال له: عليَّ دينُك وعيالك أسوة عيالي في النفقة، لا يسعني شيء فأعجز عنهم. فاتفقا وحمله صفوان وجهزه، وأمر بسيف عمير فصُقِلَ وسُمَّ، وقال عمير لصفوان: اكتم خبري أياما. وقدم عمير المدينة فنزل بباب المسجد وعقل راحلته، وأخذ السيف وعمد إلى رسول الله (، فنظر إليه عمر وهو في نفر من الأنصار، ففزع ودخل إلى رسول الله (، فقال: يا رسول الله لا تأمنه على شيء. فقال: «أدخله علي» . فخرج عمر فأمر أصحابه أن يدخلوا إلى رسول الله (ويحترسوا من عمير، وأقبل عمر وعمير حتى دخلا على رسول الله (ومع عمير سيفه، فقال رسول الله (لعمر: «تأخر عنه» . فلما دنا عمير قال: أنعموا صباحا -وهي تحية الجاهلية -فقال رسول الله (: «قد أكرمنا الله عن تحيتك، وجعل تحيتنا تحية أهل الجنة وهو السلام» . فقال عمير: إن عهدك بها لحديث. فقال: «ما أقدمك يا عمير؟» . قال: قدمت على أسيري عندكم، تفادونا في أسرانا، فإنكم العشيرة والأهل. فقال: «ما بال السيف في عنقك؟» . فقال: قبحها الله من سيوف، وهل أغنت عنا شيئا، إنما نسيته في عنقي حين نزلت. فقال رسول الله (: «اصدقني ما أقدمك يا عمير؟» . قال: ما قدمت إلا في طلب أسيري. قال: «فماذا شرطت لصفوان في الحجر؟» . ففزع عمير وقال: ماذا شرطت له؟ قال: «تحملت له بقتلي على أن يعول أولادك، ويقضي دينك، والله حائل بينك وبين ذلك» . فقال عمير: أشهد أنك رسول الله وأشهد أن لا إله إلا الله، كنا يا رسول الله نكذبك بالوحي وبما يأتيك من السماء، وإن هذا الحديث كان بيني وبين صفوان في الحِجْر -كما قلتَ-لم يطلع عليه أحد، فأخبرك الله به، فالحمد لله الذي ساقني هذا المساق. ففرح به المسلمون وقال له رسول الله (: «اجلس يا عمير نواسك» . وقال لأصحابه: «علموا أخاكم القرآن» . وأطلق له أسيره، فقال عمير: ائذن لي يا رسول الله، فألحق بقريش، فأدعوهم إلى الله وإلى الإسلام لعل الله أن يهديهم، فأذن له فلحق بمكة، وجعل صفوان يقول لقريش: أبشروا بفتح ينسيكم وقعة بدر. وجعل يسأل كل راكب قدم من المدينة هل كان بها من حدث، حتى قدم عليهم رجل فقال لهم: قد أسلم عمير. فلعنه المشركون وقال صفوان: لله عليَّ إلا أكلمه أبدا ولا أنفعه بشيء. ثم قدم عمير فدعاهم إلى الإسلام، ونصحهم بجهده، فاسلم بسببه بشر كثير) (١) . وغير ذلك من المحاولات التي باءت بالفشل، مما يدل على صدق قوله تعالى: ﴿والله يعصمك من الناس﴾ [المائدة: ٦٧] . وهذا يدل على صدق النبي ﷺ، وأنه محفوظ من كل أذى حتى يبلغ دين الله كاملا، لذلك كان النبي ﷺ يدخل في فم الأسد -كما يقال- وهو مطمئن القلب رابط الجأش، كما فعل في حنين وأحد وغيرها من المعارك، ومنع الناس من حراسته لما علم بحفظ الله، وفي حادثة الهجرة عندما طوق المشركون الغار، ولم يكن بينهم وبين النبي ﷺ إلا أن ينظر أحدهم إلى قدمه، في هذه الحال العصيبة أحس النبي ﷺ بتوتر أبي بكر الصديق (وشدة اضطرايه وخوفه فقال له: «لا تحزن إن الله معنا» (٢) .

(١) الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر (٤/٧٢٦) وذكر أنه أخرجه موسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب مرسلا، وابن إسحاق في المغازي عن محمد بن جعفر مرسلا أيضا، وجاء موصولا أخرجه ابن مندة والطبراني عن أنس، مما يدل أن للقصة أصلا. (٢) أخرجه البخاري (كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، رقم:٣٦١٥) .

يقول تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة:٤٠] . أي ثبات هذا وأي قلب يستطيع أن يهدأ في مثل هذا الموقف؟ إنها حقا النبوة. ومن هذا الباب قول الله تعالى عن نوح (: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [يونس:٧١] . وقول هود (: ﴿... قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود:٥٤-٥٦] . المطلب العاشر: انتفاء الغرض الشخصي: من أدلة صدق النبي ﷺ عدم إرادة المصلحة الشخصية لنفسه من هذه الدعوة؛ وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل بقوله: ﴿قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾ [ص:٨٦] . وهذا على خلاف أصحاب المذاهب والأفكار الباطلة والدجالين والكذابين؛ فإنهم يسعون لتحقيق مصالح شخصية ومآرب ذاتية من جاه ومال ونساء واتباع ومنصب وشهرة وغير ذلك، بينما لا تجد هذا في النبي ﷺ، فهو من أفقر الناس؛ حيث كان تمر ثلاثة أهلة ولا يوقد في بيت رسول الله ﷺ نار، وإنما كان طعامه التمر والماء (١)، وتأتي الفقيرة إلى بيت رسول الله، فلا تجد عائشة (إلا تمرة واحدة فتعطيها إياها (٢)، وأحيانا يأتي الفقير فيرسل النبي ﷺ إلى بيوته التسعة، فلا يجد فيها شيئا حتى التمرة، ليس في بيوته التسعة إلا الماء (٣) . ولقد خَيرَّه ربه بين أن يكون عبدا رسولا أو ملكا رسولا، فاختار أن يكون عبدا رسولا؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ (فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ. فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ، قَالَ: أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ أَوْ عَبْدًا رَسُولًا؟ قَالَ جِبْرِيلُ: تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: «بَلْ عَبْدًا رَسُولًا» (٤) . وكان أزهد الناس في الدنيا وزخرفها، عن عُمَر بْن الْخَطَّابِ: رأيت النبي ﷺ وإِنَّهُ لَعَلَى حَصِيرٍ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ شَيْءٌ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ وِسَادَةٌ مِنْ أَدَمٍ (٥) حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِنَّ عِنْدَ رِجْلَيْهِ قَرَظًا (٦) مَصْبُوبًا، وَعِنْدَ رَأْسِهِ أَهَبٌ (٧) مُعَلَّقَةٌ، فَرَأَيْتُ أَثَرَ الْحَصِيرِ فِي جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقَالَ: «مَا يُبْكِيكَ؟» . فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كِسْرَى وَقَيْصَرَ فِيمَا هُمَا فِيهِ وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمْ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةُ» (٨) .

(١) متفق عليه عن عائشة (البخاري: كتاب الهبة، باب الحديث، رقم:٢٥٦٧، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، باب منه، رقم:٢٩٧٢) . (٢) متفق عليه عن عائشة (البخاري: كتاب الزكاة، باب اتقوا النار ولو بشق تمرة، رقم:١٤١٨، ومسلم: كتاب البر والصلة، باب فضل الإحسان إلى البنات، رقم:٢٦٢٩) . (٣) متفق عليه عن أبي هريرة (البخاري: كتاب المناقب، باب قول الله: (ويؤثرون على أنفسهم ...)، رقم:٣٧٩٨، ومسلم: كتاب الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره، رقم:٢٠٥٤) . (٤) أخرجه الإمام أحمد (٧١٢٠) صححه الألباني في السلسة الصحيحة (٣/٣) رقم: ١٠٠٢. (٥) الأدم: الجلد. مختار الصحاح (١/٤) . (٦) القرظ: ورق شجر يُدبغ به. لسان العرب (٧/٤٥٤) . (٧) أَهَب: جمع إهاب وهو الجلد ما لم يدبغ. لسان العرب (١/٢١٧) . (٨) متفق عليه (البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله (تبتغي مرضات أزواجك..)، رقم:٤٩١٣، ومسلم: كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء، رقم:١٤٧٩) .

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود (قَالَ: اضْطَجَعَ النَّبِيُّ (عَلَى حَصِيرٍ فَأَثَّرَ فِي جِلْدِهِ، فَقُلْتُ: بِأَبِي وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ كُنْتَ آذَنْتَنَا فَفَرَشْنَا لَكَ عَلَيْهِ شَيْئًا يَقِيكَ مِنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (: «مَا لي وللدُّنْيَا إِنَّمَا أَنَا وَالدُّنْيَا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» (١) . وكان لا يحب أن يرفعه الناس فوق قدره: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه سَمِعَ - عُمَرَ ﵁ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (يَقُولُ: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» (٢) . وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا سَيِّدَنَا وَابْنَ سَيِّدِنَا وَيا خَيْرَنَا وَابْنَ خَيْرِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِتَقْوَاكُمْ، وَلَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ تَرْفَعُونِي فَوْقَ مَنْزِلَتِي الَّتِي أَنْزَلَنِي اللَّهُ ﷿» (٣) . وعن عبد الله بن الشخير العامري (: انْطَلَقْتُ فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُلْنَا: أَنْتَ سَيِّدُنَا. فَقَالَ: «السَّيِّدُ اللَّهُ ﵎» . قُلْنَا: وَأَفْضَلُنَا فَضْلًا وَأَعْظَمُنَا طَوْلًا، فَقَالَ: «قُولُوا بِقَوْلِكُمْ أَوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، وَلَا يَسْتَجْرِيَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ» (٤) . وكان لا يحب أن يقوم له أحد إذا دخل: وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا؛ لِمَا يَعْلَمُوا مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ) (٥) . ولا يحب أحدا أن يقف فوق رأسه كما تفعل الملوك والقياصرة: فقد أخرج مسلم عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ وَهُوَ قَاعِدٌ وَأَبُو بَكْرٍ يُسْمِعُ النَّاسَ تَكْبِيرَهُ، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا فَرَآنَا قِيَامًا، فَأَشَارَ إِلَيْنَا فَقَعَدْنَا فَصَلَّيْنَا بِصَلَاتِهِ قُعُودًا، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: «إِنْ كِدْتُمْ آنِفًا لَتَفْعَلُونَ فِعْلَ فَارِسَ وَالرُّومِ، يَقُومُونَ عَلَى مُلُوكِهِمْ وَهُمْ قُعُودٌ، فَلَا تَفْعَلُوا؛ ائْتَمُّوا بِأَئِمَّتِكُمْ إِنْ صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا، وَإِنْ صَلَّى قَاعِدًا فَصَلُّوا قُعُودًا» (٦) . وهذا أمر عجيب؛ فقد ذكر الفقهاء أن القيام في صلاة الفريضة من أركان الصلاة (٧)، ومع هذا لما أحسَّ النبي ﷺ أن هذا الأمر سوف يؤدي إلى تعظيمه أمرهم بالقعود. وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ (رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: «هَوِّنْ عَلَيْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ (٨)» (٩) . بل كان النبي ﷺ يلزم خاصته وأهله بالزهد أيضا، فقد خير أمهات المؤمنين بين البقاء معه على هذه الحال ولهن الجنة، وبين الدنيا ويطلقهن، فاخترن البقاء معه (١٠): قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا () وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ([الأحزاب:٢٨-٢٩] .

(١) أخرج الترمذي (كتاب الزهد، باب ما جاء في أخذ المال بحقه، رقم:٢٣٧٧)، وابن ماجه (كتاب الزهد، باب مثل الدنيا، رقم:٤١٠٩) وإسناده صحيح؛ انظر: صحيح سنن ابن مجاه للألباني (٢/٣٩٤) رقم ٣٣١٧. (٢) أخرجه البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله (واذكر في الكتاب مريم ...)، رقم:٣٤٤٥) . (٣) أخرجه الأمام أحمد (رقم:١٢١٤١) وإسناده صحيح. كما في غاية المرام للألباني ص ٩٧ رقم: ١٢٣المكتب الإسلامي، بيروت الطبعة الثالثة ١٩٨٥. (٤) أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، باب في كراهية التمادح، رقم:٤٨٠٦) وأحمد (١٥٨٧٦) وإسناده صحيح انظر: غاية المرام في تخريج الحلال والحرام للألباني ص ٩٩، رقم ١٢٧، وصحيح سنن أبي داود (٣/٩١٢) رقم ٤٠٢١. (٥) أخرجه الإمام أحمد (١١٩٣٦) والترمذي (كتاب الأدب، باب ما جاء في كراهية قيام الرجل للرجل، رقم:٢٧٥٤) وإسناده صحيح. انظر السلسلة الصحيحة للألباني (١/٦٩٨) رقم ٠٣٥٨ (٦) أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، رقم:٤١٣) . (٧) انظر كتاب الكافي لابن قدامة المقدسي (١/٢٧٩)، تحقيق د. عبد الله التركي، دار هجر، الطبعة الأولي،١٩٩٧. (٨) القَدِيدُ من اللحم: ما قُطِعَ طولًا ومُلَّح وجُفَّف في الهواء والشمس. (المعجم الوسيط ٌ د د) (٩) أخرجه ابن ماجه (كتاب الأطعمة، باب القديد، رقم:٣٣١٢) وهو صحيح كما قال الألباني في صحيح ابن ماجه (٢/٢٣٢) رقم: ٢٦٧٧. (١٠) الحديث متفق عليه عن عائشة (البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى (يا أيها النبي قل لأزواجك ...)،رقم:٤٧٨٦، ومسلم: كتاب الطلاق، باب أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا ...، رقم:١٤٧٥) .

وجاءته فاطمة ابنته تسأله خادما من السبي، فوزعه النبي ﷺ على الناس، ولم يعط فاطمة منها شيئا، مع شدة حبه لها وشدة حاجتها له: عن عَلِيًّ قَالَ: شَكَتْ فَاطِمَةُ إِلَى النَّبِيِّ (مَا تَلْقَى فِي يَدِهَا مِنْ الرَّحَى، فَأُتِيَ بِسَبْيٍ فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ، فَلَمْ تَرَهُ فَأَخْبَرَتْ بِذَلِكَ عَائِشَةَ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ (أَخْبَرَتْهُ، فَأَتَانَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا» . فَجَاءَ فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي، فَقَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» (١) . وفي روايةِ أبي داود قَالَ عَلِيٌّ لِابْنِ أَعْبُدَ: أَلَا أُحَدِّثُكَ عَنِّي وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَكَانَتْ أَحَبَّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، وَكَانَتْ عِنْدِي فَجَرَّتْ بِالرَّحَى حَتَّى أَثَّرَتْ بِيَدِهَا، وَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِي نَحْرِهَا وَقَمَّتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتِ الْقِدْرَ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا وَأَصَابَهَا مِنْ ذَلِكَ ضُرٌّ، فَسَمِعْنَا أَنَّ رَقِيقًا أُتِيَ بِهِمْ إِلَى النَّبِيِّ (، فَقُلْتُ: لَوْ أَتَيْتِ أَبَاكِ فَسَأَلْتِيهِ خَادِمًا يَكْفِيكِ. فَأَتَتْهُ فَوَجَدَتْ عِنْدَهُ حُدَّاثًا (٢) فَاسْتَحْيَتْ فَرَجَعَتْ، فَغَدَا عَلَيْنَا وَنَحْنُ فِي لِفَاعِنَا (٣)، فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهَا فَأَدْخَلَتْ رَأْسَهَا فِي اللِّفَاعِ حَيَاءً مِنْ أَبِيهَا، فَقَالَ: «مَا كَانَ حَاجَتُكِ أَمْسِ إِلَى آلِ مُحَمَّدٍ؟» فَسَكَتَتْ مَرَّتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَنَا وَاللَّهِ أُحَدِّثُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إِنَّ هَذِهِ جَرَّتْ عِنْدِي بِالرَّحَى حَتَّى أَثَّرَتْ فِي يَدِهَا، وَاسْتَقَتْ بِالْقِرْبَةِ حَتَّى أَثَّرَتْ فِي نَحْرِهَا، وَكَسَحَتِ الْبَيْتَ حَتَّى اغْبَرَّتْ ثِيَابُهَا، وَأَوْقَدَتِ الْقِدْرَ حَتَّى دَكِنَتْ ثِيَابُهَا، وَبَلَغَنَا أَنَّهُ قَدْ أَتَاكَ رَقِيقٌ أَوْ خَدَمٌ، فَقُلْتُ لَهَا: سَلِيهِ خَادِمًا ...) (٤) . فانظر كيف قسم النبي ﷺ السبي ولم يعط فاطمة منه شيئا! . فالنبي ﷺ قبل النبوة كان له مكانة عظيمة في قومه، ولا ينادونه إلا الأمين والصادق، وإذا اختلفوا في شيء تحاكموا إليه (٥)، وكان متزوجا من امرأة غنية، وله أعرق نسب في قريش، فعنده المال والمرأة الجميلة والمكانة المرموقة والسمعة الطيبة والنسب الشريف، فكيف يترك هذا كله ويحارب الناس أجمعين، ويكفرهم إلا من كان على طريقته، ويحارب الناس ويقول لقريش: «جئتكم بالذبح» (٦) . وترميه العرب عن قوس واحدة، ثم بعد هذا كله ليس له من فعله أي مصلحة دنيوية لا له ولا لأبنائه ولا لأهله، بل حتى لما مات لم يُعْطِ الخلافة لأحد قرابته، فما كان لرجل يترك الكذب أربعين سنة، حتى صار طبعا له وسجية من سجاياه الثابتة التي يصعب انتزاعها منه، بل حتى لو أراد الكذب لأبت عليه طباعه وسجاياه ذلك، ثم بعد هذا التاريخ الطويل والسمعة السامية يقوم وينتحل الكذب، وليس أي كذب بل أشد أنواعه وهو الكذب على الله تعالى، وهو مع هذا لا يهدف لمصلحة ولا لغرض شخصي؟ إن هذا لا يمكن أن يتصوره عاقل. إن عدم رغبة النبي ﷺ في متاع الدنيا دليل أنه إنما فعل هذا طاعة لله، بوحي منه سبحانه.

(١) متفق عليه (البخاري: كتاب فرض الخمس، باب الدليل أن الخمس لنوائبه، رقم:٣١١٣،ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب التسبيح أول النهار وعند النوم، رقم:٢٧٢٧) . (٢) أي رجالا يتحدثون (انظر: عون المعبود في شرح سنن أبي داود للعظيم أبادي (٨/١٤٩)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي،١٩٩٠) . (٣) أي في غطائنا، فاللَّفاعُ ما يجلَّل به الجسدُ كلُّه، كِساءً كان أو غيره. (الوسيط ل ف ع) (٤) أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، باب في التسبيح عند النوم، رقم:٥٠٦٢) . (٥) كما حصل عندما اختلفت قريش عند بناء الكعبة، فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه، فاحتكموا إلى النبي ﷺ، ففض الخصام بأن بسط عباءته ووضع الحجر الأسود عليها، وأمر كل رأس قبيلة أن يأخذ طرفًا من أطراف العباءة، فحملوه كلهم حتى وضعوه في مكانه. (انظر الرحيق المختوم، (ص:٥٨) . (٦) أخرجه الإمام أحمد (رقم:٦٩٩٦) وإسناده صحيح.

وقد وُفق بعض المستشرقين المنصفين لفهم هذا المعنى وإدراكه؛ يقول (كارليل) (١): (ومما يبطل دعوى القائلين أن محمدا (لم يكن صادقا في رسالته، أنه قضى عنفوان شبابه وحرارة صباه في تلك العيشة الهادئة المطمئنة، ولم يحاول أثناءها إحداث ضجة ولا دوي، مما يكون وراءه ذكر وشهرة وجاه وسلطان، ولم يك إلا بعد أن ذهب الشباب وأقبل المشيب) (٢) . وقد استدل بهذا الدليل حبيب النجار (٣) الذي في سورة يس؛ كما قال تعالى: ﴿وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَن لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مهْتَدُونَ﴾ [يس:٢٠-٢١] . وهذا الدليل حق، وكان كل نبي يأتي إلى قومه يقول لهم هذا الأمر، ففي سورة الشعراء قال نوح وهود وصالح ولوط وشعيب ﵈: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء:١٠٩، ١٢٧، ١٤٥، ١٦٤، ١٨٠] . المطلب الحادي عشر: إخباره بالنهايات في البدايات: فقد أخبر النبي ﷺ بكثير من الأمور قبل حصولها، أو حتى حصول مقدماتها، مع أن هذا لا يتأتى من بني بشر (٤) . فالغيب بيننا وبينه حجاب كثيف، ولا ينخرق هذا الحجاب إلا بوحي من السماء. نعم، قد يستشرف الإنسان المستقبل ويستقرئه ويستشفه عن طريق مقدمات ودلائل يلتمس منها النفوذ إلى حجاب المستقبل، كما يفعل الساسة والاقتصاديون وغيرهم، ولكنه في الغالب لا يكون صوابا، والصواب منه إنما حصل بسبب حصول مقدماته، كرجل مر على بيت قديم متهاوي، فقال: احذروا هذا البيت فإنه سيقع. قإننا نقول: قد يكون لكلامه شيء من الصحة باعتبار هذه الإشارات التي حصلت. وأما لو مر على بيت جديد محكم البناء، وقد بنُي على أحدث الطرق الهندسية بإشراف مهندسين ومتخصصين وخبراء، فقال: احذروا هذا البيت فإنه سيقع. لقلنا: هذه ترهات وسفاهات لا تصدر من عاقل. لذلك إذا لم يكن هناك مقدمات وإشارات وقرائن، فلا يمكن لأحد أن يعرف ماذا سيحصل في المستقبل، بل ولا يمكن أن يعرف ماذا سيحصل بعد ثانية: ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل:٦٥] . فمثلا لو أن النبي ﷺ انتصر على العرب، ثم بشر بأنه سينتصر على العجم، لقلنا: إنما قال هذا لحصول مقدمات لهذا الحدث، وهو انتصاره على العرب، ولكن الأمر الغريب أن النبي ﷺ يبشر بهذه الأمور في ظروف هي أبعد ما تكون توقعا لها. عَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَن قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» (٥) .

(١) تقدمت ترجمته ص ١٠٠ (٢) الأبطال، لكارليل، (ص:٥١) عن كتاب الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده، د. محمود ماضي، (ص:١٢٧)، مكتبة دار الدعوة، الإسكندرية، الطبعة الأولي،١٩٩٦. (٣) انظر تفسير البيضاوي (٤/٤٢٩)، وتفسير القرطبي (١٥/١٥) وتفسير ابن كثير (٣/٥٦٩) وغيره من كتب التفسير. (٤) انظر كتاب: تثبيت دلائل النبوة، للقاضي عبد الجبار الهمذاني (٢/٣١٤)، حققه د. عبد الكريم عثمان، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، وهو كتاب حافل مليء بالفوائد، لاسيما الأدلة العقلية على نبوة النبي ﷺ؛ لأنه من مدرسة المعتزلة العقلية. (٥) أخرجه البخاري (كتاب المناقب، باب ما لقي النبي ﷺ وأصحابه بمكة، رقم:٦٩٤٣) .

فـ (الدعوة المحمدية في مكة عشر سنوات كلها إعراض من قومه عن الاستماع لقرآنه، وصد لغيرهم عن الإصغاء له، واضطهاد وتعذيب لتلك الفئة القليلة التي آمنت به، ثم مقاطعة له ولعشيرته ومحاصرتهم مدة غير يسيرة في شِعب من شِعاب مكة، ثم مؤامرات سرية أو علنية على قتله أو نفيه، فهل للمرء أن يلمح في ثنايا هذا الليل الحالك الذي طوله عشرة أعوام، شعاعًا ولو ضئيلًا من الرجاء أن يتنفس صبحه عن الإذن لهؤلاء المظلومين برفع صوتهم وإعلان دعوتهم؟ ولو شام المصلح تلك البارقة من الأمل في جوانب نفسه من طبيعة دعوته، لا في أفق الحوادث، فهل يتفق له في مثل هذه الظروف أن يربوا في نفسه الأمل حتى يصير حكمًا قاطعًا؟ وهَبْهُ امتلأ رجاء بظهور دعوته في حياته ما دام يتعهدها بنفسه، فمن يتكفل له بعد موته ببقاء هذه الدعوة وحمايتها وسط أمواج المستقبل العاتية؟ وكيف يجيئه اليقين في ذلك وهو يعلم من عبر الزمان ما يفت في عضد هذا اليقين؟، فكم من مصلح صرخ بصيحات الإصلاح فما لبثت أصواته أن ذهبت أدراج الرياح، وكم من مدينة قامت في التاريخ ثم عفت ودرست آثارها، وكم من نبي قتل، وكم من كتابٍ فقد أو انتقص أو بدل، وهل كان محمد ﷺ ممن تستخفه الآمال فيجري مع الخيال؟ إنه ما كان قبل نبوته يطمع في أن يكون نبيًا يوحى إليه ﴿وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمةً من ربك﴾ [القصص:٨٦] ولا كان بعد نبوته يضمن لنفسه أن يبقى هذا الوحي محفوظًا لديه ﴿ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلًا إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرًا﴾ [الإسراء: ٨٦-٨٧]؛ فلابد إذًا من كفيل بهذا الحفظ من خارج نفسه، ومن ذا الذي يملك هذا الضمان على الدهر المتقلب المملوء بالمفاجآت؟ إلا رب الدهر الذي بيده زمام الحوادث كلها، والذي قدر مبدأها ومنتهاها، وأحاط علمًا بمجراها ومرساها، فلولا فضل الله ورحمته الموعود بهما في الآية الآنفة، لما استطاع القرآن أن يقاوم تلك الحروب العنيفة التي أقيمت ولا تزال تقام عليه بين آن وآن. سل التاريخ: كم مرةٍ تنكر الدهر لدول الإسلام، وتسلط الفجار على المسلمين فأثخنوا فيهم القتل، وأكرهوا أممًا منهم على الكفر، وأحرقوا الكتب، وهدموا المساجد؛ وصنعوا ما كان يكفي القليل منه لضياع هذا القرآن كلًا أو بعضًا كما فعل بالكتب قبله؛ لولا أن يد العناية تحرسه فبقي في وسط هذه المعامع رافعا راياته وأعلامه، حافظا آياته وأحكامه، بل اسأل صحف الأخبار اليومية كم من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة تنفق في كل عام لمحو هذا القرآن، وصد الناس عن الإسلام بالتضليل والبهتان والخداع والإغراء، ثم لا يظفر أهلها من وراء ذلك إلا بما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال:٣٦]، ذلك بأن الذي يمسكه أن يزول هو الذي يُمسك السماوات والأرض أن تزولا، ذلك بأن الله ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ [التوبة: ٣٣]، والله بالغ أمره ومتم نوره فظهر، وسيبقى ظاهرا، لا يضره من خالفه حتى يأتي أمر الله) (١) . ومثل ذلك ما حصل في حادثة الهجرة وهو مطارد من قريش، وليس معه إلا رجل واحد، والكل يتربص به ليقتله أو يسلمه ليأخذ الجائزة، ثم يقول لسراقة: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى» ثم يتحقق هذا الأمر ويلبسهما في زمن عمر بن الخطاب (٢) . المطلب الثاني عشر: إخباره بالغيب:

(١) النبأ العظيم، ص:٣٨-٤٧. (٢) انظر الإصابة لابن حجر في ترجمة سراقة (٣/٤٢) .

من أدلة صدق النبي صلي الله عليه وسلم إخباره بالغيب سواء كان غيبًا لاحقًا أو سابقًا أو حاضرًا فقد أخبر بالردة في زمن أبي بكر (، والفتنة في زمن علي (، وأخبر بأن الخلفاء الثلاثة عمر وعثمان وعلي يقُتلون شهداء، وأخبر بفتح القسطنطينية والحيرة ومصر وفارس والروم وبيت المقدس، وبأويس القرني، وأخبر بخروج كثير من الفرق كالخوارج والقدرية، وبشر كثير من الصحابة بالجنة فماتوا على الإيمان، وبشر الكثير بالنار فماتوا على الكفر، وأخبر بكثير من أشراط الساعة الصغرى (١) وقد تحققت. ولم تتحقق هذه الأمور إلا بعد موته، ومثل هذا لا يمكن، إن يكون إلا بوحي. ومثل هذا أيضا إخباره بالغيب الماضي، كقصص السابقين والأنبياء وبني إسرائيل، فهذه الغيبيات الماضية ليس لها مقدمات يستدل بها عليها، ومع هذا أخبر بها النبي ﷺ موافقة للواقع، قد يقول قائل: إنه قرأ التاريخ. قلنا: إنه لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ولو سلمنا بهذا، فإنه كان يخبر بالغيب الحاضر أيضا، كإخباره الصحابة بغزوة مؤتة وهو في المدينة، وهي قريب من الشام، فعَنْ أَنَسٍ (: أَنَّ النَّبِيَّ (نَعَى زَيْدًا وَجَعْفَرًا وَابْنَ رَوَاحَةَ لِلنَّاسِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُمْ خَبَرُهُمْ، فَقَالَ: «أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَ ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ -وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ- حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» (٢) . وعندما جاء رسول كسري إلى النبي ﷺ ليتوعده ويتهدده قال له النبي ﷺ: «إن ربي قتل ربكما» فنظروا فإذا بكسرى مات في ذلك اليوم (٣)، ومثل هذا ليس له مقدمات تدل عليه، ولم يكتب بعد في أي كتاب، ولكنها النبوة. المطلب الثالث عشر: إحكام التشريع (٤): لا يوجد قانون في الإحكام والتنظيم مثل التشريع الذي جاء به النبي ﷺ، فإن شريعته جاءت لتسد حاجة الإنسان في كل نواحي الحياة، وتبين الحكم في كل ما يحتاج الإنسان، وتنظم حياة المسلم من ولادته إلى موته؛ تسير معه جنبا إلى جنب ترعاه وتحضنه وتقومه وتسدده وتبصره وتهديه ﴿فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:٩٧]، شريعة كاملة، فيها من اللين واليسر والموافقة للعقل ما يجعل كل من يلتزم بها سعيدا فخورا، وفيها من المرونة ما يجعلها تصلح لكل زمان ومكان وأمة، لا تميز بين الناس في الأحكام، فالعدل أساسها والحكمة نبراسها. على حين لا تجد هذا في كل شريعة وقانون وضعي، ولا يعرف هذا حق معرفته إلا القانونيون والمطلعون على القانون الوضعي، فهو يعدل في كل سنة عدة مرات، والقانون لو نجح في بلد فإنه قد لا ينجح في بلد آخر، ولو صلح في وقت فقد يكون وبالا في وقت آخر، وانظر ماذا فعلت الشيوعية الحمراء (٥) بأهلها التي لم يلتزم بها من التزم إلا بعد جريان أنهار الدم، واستخدام أبشع أنواع التعذيب، ثم سقطت إلى الهاوية وألقيت في زبالة التاريخ غير مأسوف عليها. ولم يستطع أحد أن يأتي بشريعة تخدم الإنسان في جميع شؤون حياته، فقصارى جهد من وضعها أن تكون فكرة في مجال معين؛ ففي الاقتصاد برزت الاشتراكية والرأسمالية، فالأولى قتلت الإبداع وساوت بين النشيط والخامل، وبين المضحي واللامبالي، والذكي والغبي (٦) . والأخرى جعلت شعوبها شعوبا طبقية ما بين كل طبقة وطبقة مفاوز، فبعض الطبقات طبقة مسحوقة لا تجد قوت يومها، وبعضهم يتمتعون بكل متاع الدنيا، وليس على هؤلاء حق لأولئك (٧) .

(١) انظر الصحيح المسند من دلائل النبوة للوادعي، باب الإخبار عن أمور مستقبلية (ص:٣٩٩-٥٤٠) . (٢) أخرجه البخاري (كتاب المناقب، باب مناقب خالد بن الوليد، رقم:٣٧٥٧) . (٣) انظر: " الخصائص الكبرى " للسيوطي (٢/١٤) باب ما وقع عند كتابه إلى كسرى، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي، ١٩٨٥ (٤) المستشرقون وشبهاتهم حول القرآن، للحكيم (ص:٤٧) (٥) القرآن وإعجازه التشريعي، لمحمد إسماعيل إبراهيم، ص ٣١، دار الفكر العربي، القاهرة. (٦) القرآن والسنة والعلوم الحديثة، لمحمد أحمد مدني، ص ١٠١، مبحث الماركسية وتناقضاتها (٧) انظر: الموسوعة المسيرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (٢/٩٢٠)

وفي السياسة برزت الديمقراطية والدكتاتورية، فالأولى (١) فتحت الباب على مصراعيه وأطلقت الحريات بلا عنان، وجعلت الحكم للشعب طارحة أي حكم شرعي غير مبالية فيه، فحكم الناس يقدم على حكم رب الناس، والأخرى (٢) جعلت الحكم محصور بشخص واحد ولا يحق لأحد التدخل مهما بلغ من الثقافة والعلم، وغيرها من الأفكار والمذاهب التي لا يسع المجال لذكرها. وهذه القوانين مع كثرة الواضعين لها والمنقحين والمراجعين والمصححين إلا أنه لا زالت تغير يوما بعد يوم، فمن وضعها غير راض عنها فضلا عن غيره. وكل هذه الأفكار والمذاهب والتشريعات والقوانين على اختلاف مجالاتها كان منتهى قدراتها مجتمعة أن تخدم بدن الإنسان وجسمه، ولم تستطع أن تقدم للروح شيئا، فكان غاية ما عندها أن تقول للناس: ليتخذ كل منكم الدين الذي يريد، فإننا لا نعرف كيف تسعد الروح. فكل هذه العقول لم تستطع أن تأتي بشريعة خالدة شاملة لجميع نواحي الحياة كما أتى به النبي ﷺ في شريعته، وهذا من أدلة صدقة، فالبشر لا يقدرون على هذا، ولا حتى النبي ﷺ يقدر على ذلك، إنما هذه الشريعة تنزيل من عزيز حميد، شريعة لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها، يقول برناردشو (٣): (لو كان محمد - نبي الإسلام - حيًّا يرزق لاستطاع أن يحل مشاكل العالم وهو جالس على حصيرته يحتسي القهوة) (٤) . المطلب الرابع عشر: الإعجاز العلمي: وقد أُلَّفت في هذا مؤلفات كثيرة، تبين مدى الإعجازات العلمية الدقيقة التي تكلم عنها النبي ﷺ قبل أربعة عشر قرنا، ولم نعرف معناها إلا الآن في هذا القرن، وقد ألف الدكتور مختار سالم كتابا بعنوان (الإبداعات الطبية لرسول الإنسانية) (٥)، ذكر فيها أنواعًا كثيرة من العلاجات النبوية لأمراض بعضها لم يعرف له دواء إلى الآن، وكيف أن النبي ﷺ تنبأ بخروج طاعون العصر (الإيدز)؛ كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ؛ لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا ...» (٦) . وفي الصحيحين (٧) عن أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا إحداهن في التراب» فقد ثبت طبيًا أن لسان الكلب يحمل فطريات ضارة جدًا بالإنسان، وهذه الفطريات لا تزول ولا تقتل إلا بالتراب مع الماء (٨) . وفي صحيح البخاري (٩) أيضًا أن النبي ﷺ قال: «إذا سقط الذباب في إناء أحدكم فليغمسه، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء» . وأثبتت التجارب الطبية أن الذبابة تحمل في أحد جناحيها جراثيم مضرة، وفي الآخر فطريات تقتل هذه الجراثيم (١٠) . وغير ذلك من أنواع الإعجاز وألوانه، الذي يدل أن النبي ﷺ لا يقول هذا من عند نفسه بل من الوحي. المطلب الخامس عشر: الوصف الدقيق للغيب: إن وصف أمور الغيب بدقة لا يكون إلا ممن رآه أو سمع من رآه، ولذلك يمكن القول بأن وصف النبي ﷺ لربه وللملائكة وللجنة والنار وصف عجيب، لا يمكن أن يأتي به بشر.

(١) انظر: السابق (٢/١٠٦٦) (٢) انظر: السابق (٢/٩٢٩) (٣) برنارد شو: المفكر والأديب والفيلسوف الإنكليزي المشهور: ولد برنارد شو في دبلن عاصمة ايرلندا في ٢٦ يوليو ١٨٥٦ وكان أبواه من البروتستانت ذوي الأصل الإنجليزي. تلقى شو مبادئ التعليم الأولى على يد قريب له كان قاسيًا بروتستانتيًا ثم دخل إحدى المدارس الدينية في سن العاشرة، لكنه تركها إلى مدرسة أخرى ثم أخرى حتى ترك الدراسة المنتظمة نهائيًا ولكنه كان نهمًا في القراءة بشكل غير عادي وكثيرًا ما كان يتحف رفاقه التلاميذ بقصص من الإلياذة والأوديسة التي كان يحفظها عن ظهر قلب. في عام ١٨٧٢ لحق شو بلندن فعمل في شركة اديسون للتلفونات لفترة طويلة، وكان في هذه الفترة يرسل إبداعه الأدبي لعدد من الصحف لكن لم ينشر له إلا القليل مما كان يرسله، وحين بلغ الثالثة والعشرين من عمره قرر الاشتغال بكتابة الرواية ووضع لنفسه برنامجًا يوميًا التزم به بشدة فألف خمس روايات في أربع سنوات، كما كان يختلط بالأوساط الموسيقية والفنية في لندن والذهاب إلى جمعيات المناظرة والخطابة وحضور الاجتماعات السياسية، في عام ١٨٨٤ انضم شو إلى الجمعية الفابية السياسية التي تدعو إلى تحقيق الاشتراكية بالتدريج وظل شو اثنتي عشرة سنة يتحدث في الجمعية الفابية بمعدل ثلاث مرات أسبوعيا حتى اصبح من المع من اعتلى منابر لندن واصبح له جمهور من المستمعين لا يفوت له محاضرة أو حديثًا وكانت الهيئات والجمعيات تتسابق إلى دعوته، وخلال الفترة من ١٨٨٥ و١٨٩٨ كان شو يكتب بالأجر لعدة صحف يومية ومجلات نقدية في الأدب والموسيقى والمسرح، وألف عدة مسرحيات مثل (بيوت الأرامل) و(الغائب) و(مهنة مسزوارين) و(السلاح والإنسان) وبعدها بدأ الجمهور يعجب بشو ككاتب مسرحي من الطراز الأول واشتهر عالميا. وقد أُخرج عدد كبير من هذه المسرحيات أثناء حياة شو على مسارح إنجلترا وأمريكا وألمانيا والنمسا وروسيا وهنجاريا، وكسب شو شهرة في أوروبا منذ ما قبل الحرب العظمى الأولى ككاتب من الرواد، بل لقد قالت صحف برلين عنه: إنه (ملك من ملوك المسرح الألماني) وبحلول عام ١٩١٥ كانت شهرته قد بلغت الآفاق ومسرحياته يتم تمثيلها في شتى أنحاء المعمورة من إنجلترا إلى اليابان، وألف كتاب (دليل المرأة الذكية عن الرأسمالية والاشتراكية) وأعطي جائزة نوبل عام ١٩٢٥ بسبب إنتاجه الأدبي الضخم، توفي شو في ٢ نوفمبر عام ١٩٥٢ بعد أن تجاوز الرابعة والتسعين بثلاثة شهور واحرق جسده عملًا بوصيته وخلط رماده برماد زوجته ودفن في حديقة بيتهما الريفي ويحتفظ المتحف البريطاني بعدد كبير من مخطوطات شو ورسائله بوصفها من الآثار القومية. (جريدة البيان الإماراتية، العدد ٩١ بتاريخ ٧أكتوبر ٢٠٠١، بقلم أمنية طلعت) (٤) القرآن والسنة والعلوم الحديثة، لمحمد أحمد مدني، صفحة: ٧١، مطابع خالد للأوفست، الرياض. (٥) طبعته مؤسسة المعارف في بيروت، الطبعة الأولي،١٩٩٥. (٦) أخرجه ابن ماجه (كتاب الفتن، باب العقوبات، رقم:٤٠١٩) وهو حديث حسن (انظر: صحيح سنن ابن ماجه للألباني (٢/٣٧٠) . رقم: ٣٢٤٦، والسلسة الصحيحة (١/٢١٦) رقم: ١٠٦. (٧) متفق عليه (البخاري: كتاب الوضوء، باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان رقم: ١٦٧، ومسلم: كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب، رقم: ٤٢١) . (٨) انظر: القرآن والسنة في العلوم الحديثة، ص: ٦٩. (٩) أخرجه (البخاري: كتاب الطب، باب إذا ارقع الذباب في الإناء، رقم: ٥٣٣٦. (١٠) انظر: معجزات في الطب للنبي العربي محمد ﷺ، تأليف الطبيب محمد سعيد السيوطي، ص ٦٤ مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الثانية ١٩٨٦.

فوصف النبي ﷺ لله سبحانه وصف خالٍ من التنقص، ملئ بكل كمال واجب لله سبحانه (١)؛ فيصفه بالقدرة المطلقة والحكمة الباهرة والرحمة الواسعة والحياة الكاملة، وغير ذلك من الأسماء والصفات، فسماه بأحسن الأسماء، ووصفه بأجمل الأوصاف: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ [الأعراف:١٨٠]، و(الحسنى) أفعل تفضيل مؤنث من الحسن، يعني أن لله أحسن الأسماء، ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى﴾ [النحل:٦٠]-والمثل يعني الصفة كقوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ ...﴾ [محمد:١٥]-، يعني أن له سبحانه أعلى الأوصاف. وهذا الوصف لا يمكن لمخلوق أن يتصف به ﴿فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ﴾ [النحل:٧٤] ﴿فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا﴾ [البقرة:٢٢] ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤]، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١ٍ] ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:٦٥]؛ فهو سبحانه لا مثل له ولاند له ولا كفو له ولا سمي له. ولكن انظر إلى البشر إذا أرادوا أن يصفوا الله ماذا يقولون (٢)، فبعضهم يجعل الإله حيوانا كمن يعبد البقر أو الفأر، وبعضهم يجعله جمادا كمن يعبد الأصنام والنار، وبعضهم يعدد الآلهة كالمجوس الذين جعلوا إلها للظلمة وإلها للنور، والإغريق الذين جعلوا إلها للحب وآخر للرزق وثالثا للكواكب، وفي ضمن هذا تنقص واضح، كأنهم يقولون إن إلههم لا يستطيع أن يحوي جميع هذه القدرات، وبعضهم يعبد ما هو أقبح من ذلك كالفروج، بل بعضهم شطح عقله حتى عبد عدو الإنسانية الأول إبليس، ولكن لنرتفع عن هذه الديانات ونذهب إلى الديانات السماوية، ونرى كيف وصف الرب سبحانه عندهم. أما اليهود فهم من أجرأ الناس على مدار التاريخ على الجبار سبحانه، فقد قالوا: ﴿إن الله فقير ونحن أغنياء﴾ [آل عمران:١٨١] وقالوا: ﴿يد الله مغلولة﴾ [المائدة:٦٤]، يعني بخيل (٣) .

(١) انظر: كتاب (الله أهل الثناء والمجد)، د. ناصر الزهراني، مؤسسة الجريسي، الرياض، الطبعة الأولي،٢٠٠٠، فهو جيد في هذا الباب. (٢) انظر: هداية الحيارى لابن القيم، فصل: ثمرة إنكار النبوات جحد الخالق والجهل بأسمائه وصفاته، ص:٣٥٤، ولقد ألف عباس محمود العقاد كتابا حافلا بعنوان (الله)،تكلم فيه عن وصف الله تعالى في الأديان والأفكار والشعوب المحرومة من نور الوحي، فذكر وصف الله تعالى عند الحضارات السابقة في مصر والهند والصين وفارس وبابل واليونان، وفي الأديان السماوية كاليهود والنصارى، وعند الفلاسفة، وغير ذلك وهو كتاب مفيد. طبعته دار نهضة مصر، في القاهرة، الطبعة الثانية، ١٩٩٧ وبالمقارنة بين هذه الأديان وبين وصف النبي ﷺ لربه، يتضح الفرق بين الوصفين، ويتبين لك أن هذا الوصف لا يتأتى إلا لمن كان مؤيدا بالوحي. (٣) أنظر: فتح القدير للشوكاني (٢/٦٠) .

وقال ابن القيم ﵀: (وأما اليهود فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم وغباوتهم وضلالهم، ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل، التي بعضها فوق بعض، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب، ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان وأقله فطانة، الذي يضرب المثل به في قلة الفهم، فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد، كيف عبدوا مع الله إلها آخر، وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله، ما لم يشاهده سواهم، وإذ قد عزموا على اتخاذ إله دون الله، فاتخذوه ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم، بل من الجواهر الأرضية، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض عالية عليها، كالجبال ونحوها بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض والصخور والأحجار، عالة عليها، وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة وإدخال النار وتقليبه وجوها مختلفة وضربه بالحديد وسبكه بل من جوهر يحتاج إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه، وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان أرضي، وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعا من الضيم كالأسد والفيل ونحوهما بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان وأقبله للضيم والذل بحيث يحرث عليه ويسقى عليه بالسواقي والدواليب ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها، فيعبد إلها مجعولا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات، أن لا يعرف حقيقة الإله ولا أسماءه وصفاته ونعوته ودينه، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره، ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، ولا قالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا. ولا قتلوا نفسا وطرحوا المقتول على أبواب البُرَآءِ من قتله ونبيهم حي بين أظهرهم، وخبر السماء والوحي يأتيه صباحا ومساء، فكأنهم جوزوا أن يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس، ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له: (يا أبانا انتبه من رقدتك كم تنام) ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم، ولما تحيلوا على تحليل محارمه، وإسقاط فرائضه بأنواع الحيل ...) (١) . إلى آخر تلك السلسلة من الشتائم التي لم يقلها حتى عباد الأصنام لآلهتهم. وأما النصارى الذين هم أحسن حالا من اليهود وأقرب لنا منهم، فقد اجتمع أكثر من ألفي عالم من علمائهم في مؤتمر الأمانة -ويسميه علماء الإسلام الخيانة (٢) - ليحددوا عقيدتهم في الله، فنسبوا لله -كما يقول ابن القيم- أفعال الحمقى والمجانين (٣)، فلو أن ملكا غضب على شعبه بسبب ذنبٍ واحدٍ، ارتكبه رجل واحد، ثم حاول شعبه إرضاءه بكل سبيل فلم يفلح، ثم قال لهم بعد أزمان طويلة: إذا أردتم إرضائي وذهاب غضبي، فإني أرسل لكم ابني فاقتلوه، فعندها فقط أرضى عليكم. من يفعل هذا الفعل؟!. فالنصارى يقولون: إن الله غضب على البشرية بسبب خطيئة آدم، فلم يرض عن البشرية مع من فيها من الأنبياء والمرسلين إلا بعد أن أرسل ابنه للبشرية، فلم يزل غضبه مستمرا حتى قاموا بضربه وصفعه والبصق في وجهه وصلبه، ووضع الشوك على رأسه، وتسمير يديه باللوح وبقاؤه مصلوبا حتى مات ابنه؛ عندها فقط رضي عن كل البشر، وسامحهم على تلك الخطيئة، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. * وَصَفَ النبيُّ (الملائكةَ وصفًا عجيبًا؛ فهم جند الله والقائمون بأمره، العابدون لربهم في كل وقت لا يفترون، ولا ينامون، ولا يأكلون، ولا يشربون بل يسبحون الله الليل والنهار لا يسأمون، أين هذا من وصف الكفار لهم بالإناث وغير ذلك.

(١) هداية الحيارى من اليهود والنصارى، لابن القيم (ص:٣٥٧-٣٥٩) . (٢) انظر: تفسير ابن كثير (١/٣٦٦) . (٣) انظر: هداية الحيارى من اليهود والنصارى، لابن القيم (ص:٣٢٣) .

* ووصف الجنة وصفا هو في غاية من الدقة والاستثارة والتشويق، بحيث لا تتمالك نفسك إذا سمعت هذا الوصف أن تقول: اللهم اجعلني من أهلها ولا تحرمني دخولها (١) . لكنك عندما تسمع لكثير من الفلاسفة في وصف ما سموه (بالمدينة الفاضلة) ستضحك من قصور وصفهم، وسذاجة تفكيرهم، وسترى البون الشاسع والفرق الواسع بين وصف النبي ﷺ ووصف هؤلاء، وهم معذورون؛ لأن النبي ﷺ لم يأت به من عنده بل من الوحي. * وأما وصفه النار، فهو وصف بليغ، يقذف في قلبك الخوف والفزع والرهبة من هذه الدار. يقول جفري لانغ: (عندما يترجم كتاب مقدس إلى لغة ما، فإنه ينجم عن ذلك ضياع كبير في المعنى، ولكن إذا كان دافع المترجم الالتزام والتقوى، فقد يشع في النص المترجم بيرق مقدس، لا يمكن أن تقيده حدود الإنسانية، وعلى الرغم من أن القرآن بالتأكيد هو أشد تأثيرا على القارئ في اللغة الأصلية (العربية) من الترجمات، إلا أن شيئا من الروعة والرهبة والجمال والإشراق من التصوير الفني القرآني قد يحيى في الترجمة، ليثير في النفس انعكاسا عميقا، كالمشاهد التصويرية والمرعبة للنار على سبيل المثال ... إلى أن قال: وعلى الرغم من أن جميع معتنقي الإسلام الغربيين، مجبرون على الاعتماد على التفسير للقرآن، إلا أني واثق من أن جميع هؤلاء قادرون على التمييز والانتباه إلى أن أكثر ما يثير الإعجاب بالقرآن هو أسلوبه الأدبي؛ لأنه يغرس في قارئه ذلك الشعور اللاملموس من أنه صادر عن وحي سماوي) (٢) . المطلب السادس عشر: تأليف قلوب العرب: لقد كان العرب قبل الإسلام قبائل متنازعة متناحرة، لا هم لها إلا المفاخرة والتعالي على بعض، تشتعل الحرب بينهم لأتفه أمر، وقد تستمر الحرب بينهم لعشرات السنوات لأجل ناقة - على سبيل المثال - كما حصل في حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة بين تغلب وبكر ابني وائل؛ لأن كليب بن ربيعة التغلبي قتل ناقة البسوس خالة جساس بن مرة الكلبي (٣) . وحرب داحس والغبراء التي كانت بين قبيلتي عبس وذبيان، لخلاف على سباق خيل بين فرسين - وهما داحس والغبراء - واستمرت هذه الحرب اربعين سنة أيضًا، وشارك في بعض حروبها عنتر، وذكرها زهير بن أبي سلمى في معلقته (٤) . فهذه النفوس كان فيها من الأنفة، وعدم الرضا بالضيم والحمية القبلية، مما يجعلها أصعب ما يكون للاتحاد وجمع الكلمة، فالقدرة على جمع كلمة العرب قاطبة بقبائلها المتنافرة، وإسقاط ما في نفوس بعضهم لبعض من البغض والثأر من رجل واحد، أمرُ يكاد يصل إلى حد الإعجاز، قال تعالي ممتنًا على هذه الأمة بهذه النعمة: ﴿واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾ [آل عمران:] وقال سبحانه مبينًا صعوبة تأليف القلوب: ﴿... هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم﴾ [الأنفال: ٦٢، ٦٣]، فكانوا بعد هذا التآلف قوة ضاربة أسقطت فارس والروم، وقد تلمح بعض الشعراء هذا المعنى فقال: هل تطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأحداث أحياه فكانوا يدًا في الحرب واحدة من خاضها باع دنياه بأخراه المطلب السابع عشر: الإلزام: نريد أن نسأل اليهود: كيف آمنتم برسولكم موسى ﵇؟ فإن قالوا: بسبب معجزاته، أو أخلاقه، أو تشريعه، أو تأييد الله له ونصرته، أو استجابة دعائه، أو عدم رغبته في المصلحة الذاتية، أو غير ذلك من الأدلة. قلنا: كل ما ذكرتموه هو موجود في النبي ﷺ . وكذلك النصارى نسألهم هل هم يؤمنون بنبوة موسى (٥) ﵇؟، فإن الجواب سيكون: نعم. قلنا: كيف استدللتم على نبوته؟ . فإن قالوا: لأنه قد ذكره لنا عيسى. قلنا: هل هناك دليل آخر؟ .

(١) وكانت رسالتي في الماجستير بعنوان "اليوم الآخر في القرآن"، وعقدت فيها فصلا عن الجنة ووصفها استغرق مائة وسبعا وثلاثين صفحة (من ٥٢١إلى ٦٥٨)، وقد طبعتها -بفضل من الله - دار البشائر في بيروت، الطبعة الأولي،٢٠٠٢. (٢) الصراع من أجل الإيمان، لجعفري لانغ (ص:٨١) . (٣) المعجم المفصل في الأدب، د. محمد التونجي (١/١٨٧)، ودار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولي، ١٩٩٣م. (٤) المصدر السابق (٢/٤٣٠) . (٥) ولم نقل عيسى ﵇؛ لأنهم يرونه إلها لا رسولا.

إن قالوا: لا يوجد دليل آخر على نبوة موسى ﵇. قلنا: إذن أنتم صَحَّحْتم مذهب مَن كفر بموسى ﵇ من قومه؛ حيث إن موسى ﵇ لم يأت بدليل على رسالته، ولم ينزل عيسى ﵇ في ذلك الوقت، وأثبتم لمن آمن به أنه آمن بغير بينة ولا علم ولا دليل، وأن رسالة موسى علقت عن التصحيح قرونا متطاولة حتى بعث الله عيسى ﵇. فإن قالوا: نعم، هناك أدلة أخرى على رسالة موسى ﵇. قلنا: كل دليل استدللتم به على نبوة موسى ﵇ هو موجود في محمد ﷺ . وبعد هذا فلا حجة لرجل لا يؤمن بالنبي ﷺ، ولكن صدق الله إذ يقول: ﴿وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ١٩٨]، يعني ينظرون إلى النبي ﷺ ودلائل صدقه، ثم لا يبصرون كأنهم عميان (١) . فإذا ثبت أن النبي ﷺ صادق، فإنه أخبرنا أن هذا القرآن كلام الله ﷿ منزل من عنده سبحانه حقا، فحصل بهذا المراد، وهو إثبات أن القرآن من الله تعالى.

(١) وهذا أحد معان الآية، فبعض رأى أن المقصود بالآية هم الأصنام، فهي كأنها تنظر ولكنها لا تبصر، وبعضهم قال: إن المقصود بالآية هم المشركون - كما روى عن مجاهد وغيره - أي وإن كانوا ينظرون إليك يا محمد ﷺ ولكنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية. انظر: "محاسن التأويل"، للقاسمي (٣/٦٨٣)، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، الطبعة الأولي، ١٩٩٤.

Bog aan la aqoon