وظيفتي مساعدة الآخرين
هذا يقودنا إلى سؤال هام أدخلت نفسك فيه دون أن تدري، كنت تقول إنك أكثر ميلا إلى العزف على العاطفة البشرية، وأقل حماسا للعقلانية المحضة على أساس أن التأثير على الوجدان يحدث أثرا أعمق من التأثير على العقل، لكنك في الفترة الأخيرة أوليت المقال عناية خاصة بحيث جعلته أشبه بالدراسة المركزة؛ الأمر الذي شكل - في رأيي - خطرا على إنتاجك الفني من ناحية، ويناقض قولك الأول من ناحية، فما قولك؟
ما إن انتهيت من السؤال حتى رأيته يتجهم ويصمت صمتا تاما ؛ من ميزات فناننا الكبير أن ما في داخله يتضح على وجهه في التو واللحظة، بعد فترة ليست بالقصيرة خرج عن صمته: سؤالك هذا ليس هو الأول، تلقيت رسائل كثيرة تطالبني بالكف عن كتابة المقال، كيلا أهدر موهبتي القصصية والمسرحية، لكن هناك عدة قضايا في هذا الشأن؛ القضية الأولى هي: أن الكتابة ليست فقط شكلا فنيا، والكاتب في عصرنا الحديث هو المنبه لقومه، المقلق، الموحي، هو الذي إذا نام الناس صحا، وإذا صحوا نام، إذا انحرفوا يمينا اتجه يسارا، وإذا سدروا في يساريتهم توسط أو أيمن؛ إنه الضابط للحركة، البوصلة، العازف على الناي إذا كان للحكمة ناي.
القضية الثانية هي: أنني لا أكتب بناء على تحديد دقيق لوظيفتي في الحياة؛ فلست أعرف لي وظيفة غير محاولة مساعدة الآخرين ليساعدوني، وحين أرى عقل أمتي هو الغائب، فلا أفكر لثانية واحدة في أي شيء سوى أن أعتبر نفسي مجندا، تماما كالمجند إجباريا في القوات المسلحة للدفاع عن الوطن العقل، أو العقل الوطن، يجب أن تعرف أن ثمة هجوما رهيبا - وبأشعة ليزر - على الأمة العربية، لا أعني الأرض العربية فقط، وإنما أعني العقلانية العربية.
عندما يكون عقل أمتي في خطر، فلتذهب جميع الأشكال الفنية - القصصية والروائية والمسرحية - إلى الجحيم، إن الكتابة ليست هزلا، وإذا كنا قد ذللناها وأسميناها أدبا أو فنونا جميلة، فأعتقد أننا فعلنا هذا عن تخلف شديد في إدراك، ليس فقط ماهية الفن ودوره في الحياة، بل ماهية الحياة ذاتها وقيمتها، الكتابة عمل خطير؛ إنها العقل والوجدان والروح تنسكب على الورق، وقد أدرك أعداؤنا هذا من زمن طويل، وتمكنوا من هزيمتنا فنيا وفكريا، وسهل عليهم بعد ذلك أن يهزمونا عسكريا، الهزيمة كانت إنسانيا أولا؛ لأن الإنسان هو الذي يقاتل وليس سلاحه، الجزء المقاتل في الإنسان هو إرادته، والكلمة الصادقة هي إرادة الإنسان، عندما أقول «الكلمة» فإنما أعنيها بمعناها الواسع الشامل لكافة ما يحرك النبضة في الكائن الحي.
إني أعتبر نفسي مجندا للدفاع عن عقلي وكياني أولا؛ لكي أدافع بهما عن عقل بني وطني، وحين يصل الأمر إلى مرحلة الالتحام بالسلاح الأبيض وأنعزل أنا فوق السطح لأكتب قصة أسلي بها المحاربين، أعتقد أن المسألة تصل عندئذ إلى درجة الخيانة. أما عن المؤرخين، فإنهم أحرار إذا اعتبروا ما أفعله هو العبث بعينه؛ لأنني - كما يقولون - أهدر موهبتي القصصية والمسرحية فيما يسمونه كتابة المقالات، ومن يدري، ربما لن يبقى مني - إذا بقي شيء - إلا ما يقال إني أهدره؟!
الحرام، والحلال
أثناء حديثه كانت عيناه تتوهجان، ترسلان ذلك البريق الذي لا تجده إلا عند أولئك الذين وصفوهم بأنهم ملئوا الدنيا وشغلوا الناس، ربما هو يمتاز عن الكثيرين منهم بأن الكلمة عنده مقرونة بالفعل في أكثر الأحيان؛ وربما لهذا السبب تجده يركز على الجانب الإيجابي في الضحية الإنسانية، وفي أغلب أعماله الفنية، وقلت لنفسي، وأنا أرى توتره، لا بد من سؤال جديد - وبأقصى سرعة - لنخرج عن جو السؤال السابق: سمعتك مرة في إحدى الندوات تقول: إن مشكلة «الخطيئة» مشكلة أجنبية غريبة علينا، ومع ذلك نعالجها في أعمالنا الفنية، بينما المشكلة التي نقابلها في مجتمعنا هي «الحرام»، والفارق دقيق بين الخطيئة والحرام، ولكنه أساس، ثم دارت مناقشة جانبية في الندوة نسيت بعدها أن تقول لنا عن هذا الفارق، ألا تعتقد أنها فرصة الآن لتكمل ما بدأته؟! - الخطيئة، بشكلها المسيحي، تتضمن أن الإنسان كائن خاطئ بطبعه، وقد جاء الإسلام ليغير هذا المعنى، ثم طورت المدارس الإسلامية هذا التغيير إلى فكرة «الحرام»، ومعناها أنه ليس هناك خطيئة أبدية، ولكن هناك أفعالا حلالا وأفعالا حراما، وهذا الفهم أكثر عدلا بالنسبة للإنسان وأكثر تحريرا لإرادته.
لكن أغرب ما في الأمر أن الديانة المسيحية - وفقا لتعاليم السيد المسيح، عليه السلام، ترفع هذه الخطيئة عن كاهل الإنسان باعتبار أن السيد المسيح قد حمل عن البشر خطاياهم كلها، بينما ارتدت المذاهب الأوروبية المسيحية إلى فكرة أن الإنسان كائن خاطئ أساسا لتستطيع أن تحكم قبضتها على الناس.
الشخصية العربية
Bog aan la aqoon