ضحكت لأنه منذ عام انتهاء الدكتور لويس عوض عام النكسة عام 67 والدكتور لويس قد أبدع وأنتج أهم ملفاته على الإطلاق: كتابه المحيط عن اللغة العربية، ذلك العمل الخلاق الذي سيبقى ما بقيت اللغة العربية، كتابه عن: أعمدة الناصرية السبعة، كتابه عن جمال الدين الأفغاني، وذلك الذي أثار من الضجة وكتب عنه عدد من المقالات، ورغم أن معظمها كان نقدا متحيزا يعادل ما كتب عن كل الكتب التي طبعت ونشرت في تلك الحقبة، ثم على أثر خلاف حول النشر في الأهرام، فجأة استقال من الأهرام، واتخذ له مكتبا في شارع الهرم راح يقوم فيه بصناعة ثقيلة للحركة الثقافية، ولا يزال بكل همة، ينشط ويعمل.
بمعنى أن ما أنتجه لويس عوض بعدما انتهى - حسبما يقول - يعادل إن لم يتفوق كثيرا على إنتاجه قبل أن ينتهي وقبل النكسة! فلماذا هذا المعزى الكبير لينصبه لنفسه ولنا؟!
وإذا أخذنا بقية الجيل فسنجد أن ما أنتجه الدكتور زكي نجيب محمود خلال السبعينيات فقط يعتبر في رأيي أهم كتبه على الإطلاق، أما الأستاذ نجيب محفوظ فله كل عام رواية، وأحيانا روايتان، وتعتبر رواية الحرافيش أو ملحمة الحرافيش - في رأيي - عملا يرقى فوق مستوى العالمية، ويكفي أن يكتب كاتب في حياته عملا واحدا كملحمة الحرافيش ليخلد أبد الدهر، ودي سيرفانتس لم ينتج إلا رواية واحدة عظيمة هي «دون كيشوت»، ودانتي أنتج «الجحيم» وأنشأ بها فن الرواية الإيطالية ولغتها، وكذلك جوته في «فاوست»، ونجيب محفوظ لم يتوقف وإنتاجه من ناحية الحجم والانتظام أكثر بكثير من إنتاج أي من تولستوي ودستوفسكي.
فلماذا هذا الحكم بالإعدام يا أستاذ؟!
أما إذا تركنا جيل الكبار هؤلاء وجئنا إلى الجيل الحائر - جيلي - فإنتاجه أيضا لم يتوقف، فكتابة المقالة اكتسبت خصائص القصة، وكتابة القصة حفلت ببعض سخونة المقالة، وربما يكون ما أكتبه في الأهرام نوعا جديدا من «الأوتشرك» على رأي أستاذنا المرحوم الدكتور مندور، ورغم ذلك أيضا لم أكف عن كتابة القصة فقد أصدرت منذ «بيت من لحم»، مجموعتين من القصص: «أنا سلطان قانون الوجود»، و«اعقلها وتوكل»، ورغم المأساة التي تحياها الحركة المسرحية كتبت ما أعده في رأيي أهم مسرحية كتبتها على الإطلاق، وهي مسرحية «البهلوان»، تلك التي لم تر النور؛ للتسوس الذي حدث لمسرح القطاعين الخاص والعام على حد سواء والقائمين عليه.
إذن، هذا الجيل الذي حكمت عليه بالفناء رغم أنه في السن التي يجب أن يؤدي فيها إلى الشيخوخة الجميلة والتأمل الأعمق للحياة ولا يزال ينتج ويبدع ويناضل ويخوض المعارك كأي كادح شاب.
ولو كنت مثلي يا دكتور تتلقى إنتاج الشبان الجدد، كل عام، شبان جدد موهوبون خلاقون يكتبون ويصرفون على ما يكتبون لكي يطبعوه ويوزعوه بأنفسهم وهو إنتاج عالي المستوى تماما، أي قصة منه حتى لو كانت لمبتدئ تفوق ما كان يكتبه الأوائل في العشرينيات، في عز ازدهار فن القصة القصيرة آنذاك.
إذن، موضوعيا، لا يوجد ما يستدعي حكما بالإعدام، ولا إقامة جنازة؛ فالحركة الإبداعية تمشي ببطء، هذا صحيح، وليس لها توهج الستينيات هذا صحيح، ولكن الحركة الإبداعية غير منفصلة أبدا عن حركة الإنتاج في المجتمع ككل، فالخلق نوع من الإنتاج، ومجتمعنا بعهد انفتاحه «الملوث» كاد يئد حركة الإنتاج في المجتمع ككل، وإذا كان هذا لم يحدث، وإذا كانت هناك حركة عارمة تريد إعادة الإنتاج إلى سابق عهده، فلا بد أن يصاحبها حركة أشد فاعلية لإعادة الإنسان المنتج إلى سابق عهده، وهذا هو دور الفن والأدب والثقافة، فنحن نحيا في حالة مجاعة ثقافية، وأحوج ما نكون إلى أن نبقي على أفران الفن القليلة التي لا تزال تقدم لنا رغيف الثقافة والإبداع، وكلمة منك أيها الناقد المعلم، كانت كفيلة باستنهاض الهمم وفتح أبواب إنتاج مغلقة ورعاية حركة تسبح ضد تيار بشع يريد أن نظل نحيا في ظل التبعية البضائعية والثقافية.
وبعد أن طال ضحكي مع حديث الدكتور لويس عوض بدأت دموع تتجمع في أركان عيني؛ ذلك أني أدركت المشكلة وعرفت أن الدكتور لويس عوض يعاني من حالة من حالات اكتئابه، وما أكثرها! فالرجل يحس أنه يعيش في مجتمع يظلمه ويضطهده، وهذا ليس شعور شخص ولكنه حقيقة موضوعية؛ فالدكتور لويس عوض هو الوحيد الباقي من العمالقة الذي لم ينل جائزة الأدب التقديرية فقط، ولكنه حتى لم يرشح لها، ولو كنت من بعض من نالوا هذه الجائزة عن غير حق وعن غير جدارة إلا علو الصوت واحتلال المقاعد والمنابر والوجود ولو بالقوة في الصورة كما يقولون، لو كنت واحدا من هؤلاء لرفضت أن أنال جائزة الأدب بينما لويس عوض ذلك الذي لا يقل دوره عن دور مندور وطه حسين والعقاد في النقد لم ينلها وغير مرشح لها.
وأنا شخصيا لا أعترف ولا أعتبر أن جائزة الدولة في الأدب تعني شيئا بالمرة؛ فهي لا تصنع كاتبا، وعدم نوالها لا يهبط بكاتب، ولم أعرها التفاتا منذ أن أنشئت إلى الآن، ولن أعيرها، ولكن الأمر بالنسبة للدكتور لويس عوض مسألة مختلفة، فإن الجامعات لا ترشحه لأن الجامعيين لا يكنون له حبا كثيرا، والمجلس الأعلى للثقافة أغلب أعضائه كتاب لم يكتب عنهم لويس عوض شيئا ذا بال؛ ولذلك فهم يعادونه بل ويتمنون زواله، أما هو نفسه فهو لا يمكن بكبرياء مصري جميل أن يطلب لنفسه جائزة أو حتى يتطلع إليها.
Bog aan la aqoon