الرؤية تدرك الشيء ولا تسببه، ومن الممكن للحدث أن يعرف دون أن تكون المعرفة سببا لحدوثه.
وكل ما يعرف فإنما يعرف وفقا للقدرة المعرفية للعارف لا لطبيعة الشيء المعروف (المدرك)، ومثلما أن معرفة الأشياء الحاضرة لا تضفي ضرورة على ما يجري في الحاضر، فإن سبق العلم الإلهي لا يضفي ضرورة على ما سوف يحدث في المستقبل، كل ما في الأمر أن القدرة المعرفية السرمدية تتيح لنظرة الله أن ترى كل شيء بطريقة تتجاوز طريقة العقل البشري في رؤية الأشياء، السرمدية ليس لها ماض وحاضر ومستقبل: السرمدية حضور مقيم، ولله في حضوره السرمدي معرفة تتخطى كل تغير زمني وتبقى قائمة في فورية حضوره، إنها تضم كل الأعماق اللانهائية للماضي والمستقبل وتنظرها في فورية عرفانها كما لو كانت تحدث في الحاضر، المعرفة الإلهية المسبقة لا تغير من طبيعة الأشياء أو خصائصها، بل، ببساطة، ترى الأشياء حاضرة لها تماما كما سوف تحدث ذات يوم في المستقبل، إن المعرفة لا وطأة لها على المجريات ولا توقع اضطرابا في الأشياء، والمعرفة الإلهية بحكم سرمديتها تميز بلمحة واحدة كل ما سوف يحدث دون أن تقحم عليه ضرورة ليست فيه، المعرفة الإلهية تقع على مستوى خارج عن المنظور البشري، ومن ثم فإن حرية الإرادة لا تضار بها على المستوى البشري من العرفان، والمسئولية الأخلاقية بالتالي لا تنتفي ولا تمتنع.
صحيح أن من الصعب على العقل البشري تصور ذلك، تماما مثلما أنه من الصعب على الحواس أو المخيلة فهم طريقة العقل في إدراك الكليات بينا لا ينظر إلا في كيانات مفردة، وينبغي أن نسلم بأن العقل البشري المحدود، المرتكز على قطعة لحم على حد تعبير شكسبير، لن يستوعب كل شيء عن ذات الله وطبيعة علمه وطرائقه في تصريف الخلق. «لله معرفة مسبقة، ويستوي في عليائه مشاهدا كل شيء، ولما كانت سرمدية نظرته تصرف المثوبة للأخيار والعقوبة للأشرار فهي تمضي بانسجام مع نوعية أفعالنا المستقبلية، الأمل في الله ليس عبثا، والدعاء لا يذهب سدى، فهما إن كانا صالحين لا يمكن إلا أن يجابا.»
جوهر العزاء
الفرق إذن هو فرق في «المنظور»
perspective
بين رؤية الله ورؤية البشر، وإنما يأتي العزاء من محاولة العلو إلى رؤية أحداث العالم كما يراها الله بقدر المستطاع، وبقدر ما يمكن أن يتاح للبشر، وإنما يأتي القنوط نتيجة للرؤية الضيقة والمغرقة في البشرية والأرضية، مهمة الفلسفة أن ترتفع ببصائر الإنسان وأن تهبه شيئا من الرؤية الإلهية، وما دام للفلسفة مثل هذه القدرة فإنها أمل الإنسان في العزاء، إن من المتعذر عليك أن تفهم المحنة بمعزل أو تفهم البلاء على حدة، بل يتعين أن تضعه في المخطط الكلي للأشياء، أن تفعل ذلك يعني أن تتفلسف، إن الفلسفة لا تغير الأحداث ولا تعكس الحظ، غير أنها تقدم فهما تعود بعده أحداث الحياة مقبولة بل ممتعة.
وإذا كانت الاستجابة المعتادة للكوارث هي النحيب والعويل، وطلب الخلاص حيث لا خلاص، فإن الفلسفة تعلم أن ما يحتاجه الإنسان حقا ليس التغيير بل الفهم، وبلمسة فنية محسوبة تتركنا «الفلسفة» في موعظتها الأخيرة ل «بوئثيوس» وقد ارتقينا إلى مستوى علوي، نشخص بأبصارنا إلى السماء ، ولدينا من حرية العقل ما يقهر القهر، فلا نعود نرى القيد قيدا، ولا نعود نرى السجن سجنا.
عادل مصطفى
5 / 4 / 2007
Bog aan la aqoon