قدر المفكرين
لا عجب أن ينفى الفلاسفة ويعذبوا ويقتلوا وتتقاذفهم العواصف الهوجاء؛ فقدر المفكرين أن يصطدموا بقوى الشر؛ لأن تفكيرهم مختلف عن تفكير العوام، ولأن من عملهم أن يقاوموا الأشرار ويكشفوا زيفهم. إنها «متاعب المهنة»، وعلى الفيلسوف، ومن طبيعة عمله، أن يتحملها بشجاعة، ويروض نفسه على معانقة مصيره وحب قدره، وأن يقهر في نفسه خشية الموت، وألا تفتنه السراء ولا الضراء. وإن الفلسفة، بعد، لتحمل في ذاتها الترياق والعزاء والسلوى.
لم تكن السلطة ولا الشهرة ولا الجاه ولا المنصب هو ما يطمع فيه بوئثيوس يوم أن زاول السياسة؛ فالفلسفة لا تترك في قلب مريدها مكانا لمطمع، إنما دخل بوئثيوس معترك السياسة حرصا على الصالح العام، ولكي يطبق في السياسة العامة ما تعلمه في درس الفلسفة، استجابة لدعوة أفلاطون بأن يزاول الحكماء السياسة حتى لا تترك دفة الحكم لأيدي الجهال والمجرمين فيلحقوا الدمار والخراب بالمواطنين الصالحين.
مارس الفيلسوف سلطته لحماية المستضعفين وكف الظلم والعسف والبطش. زاول الفيلسوف السياسة فكان المآل الطبيعي أن يثير عليه سخط الساسة غير الفلاسفة، وأن يجلب على نفسه العداوات والأحقاد، وتوقعه المكائد في فخاخها فيحكم عليه بالنفي والموت، وها هو يندب حظه، ويبدي دهشته من أن يتاح للشرير أن ينال غرضه من البريء على مرأى من الله ومسمع، وينوع على اللحن الأزلي «إذا كان الله موجودا فمن أين يأتي الشر؟!» ويصعد إلى السماء زفرة تشفع حرارتها لجرأتها: «أنت يا من تمسك بزمام كل شيء، انظر من فوق إلى بؤس الأرض؛ فالبشر ليسوا جزءا هينا من هذا العمل العظيم، البشر تتقاذفهم أمواج القضاء، أوقف، أيها الهادي، الطوفان الجارف، ومثلما توثق السماء اللانهائية بوثاق يحكمها، أوثق أصقاع الأرض وثبتها بوثاق مثله.»
معنى «الوطن»
لم تتأثر «الفلسفة» بهذه الحسرات الطويلة، بل قالت بهدوء وثبات: «إن شئت أن تعد نفسك منفيا فأنت الذي نفيت نفسك!» أي نفي تتحدث عنه؟ أنسيت وطنك الحقيقي؟ أنسيت أن وطنك لا نفي منه؟
ينقلنا ذلك إلى مفهوم «الوطن» كما يفهمه الرواقيون :
5
الوطن ليس جبلا أو واديا ألقت بي فيه اعتباطية المنشأ والميلاد ومسقط الرأس ، الوطن فكرة ... الوطن اختيار، الوطن وطن العقل ... مملكة تشمل في ظلها الناس جميعا بما يجمعهم من قرابة قائمة على شرف انتسابهم إلى عقل واحد (بتعبير ماركوس أوريليوس)، إنه «مجتمع عقلي» أو إمبراطورية مثالية هي ما كان يعنيه بلوطرخس بقوله: «إن ما مهدت له فتوحات الإسكندر من طريق التاريخ قد أتمته الفلسفة من طريق العقل.» إنه «جامعة روحية» تحل فيها الوحدة العقلية محل الوحدة السياسية.
الوطن ما يقطنني لا ما أقطنه، «يبدو أنك نسيت القانون الأقدم لبلدك: إنه حق مقدس لكل فرد اختار الإقامة فيه ألا ينفى منه أبدا؛ ومن ثم فلا وجه للخوف من النفي داخل أسواره وحماه، ولكن أيما فرد يرغب عن العيش فيه يكون بنفس الدرجة قد فقد استحقاقه أن يكون هناك؛ لذا فإن هذا المكان لا يزعجني بقدر ما يزعجني منظرك،
Bog aan la aqoon