ثمة تضام في «العزاء» بين الحوار الرؤيوي وما يسمى ب «النثر المنظوم أو النظم النثري»
،
3
وهو شكل من الإنشاء ذو أصل يوناني ثم دخل إلى اللاتينية، وفيه مقاطع نثرية تتبادل مع الشعر، كان هذا الشكل الكتابي معروفا قبل بوئثيوس، وأشهر أمثلته رائعة مارتيانوس كابيللا «زواج الفيلولوجيا وعطارد»، لم يكن إلمام بوئثيوس بهذا العمل ليقدم إليه كبير عون، وإن كان من المحتمل أن يكون قد ألهمه باختيار الشكل الأدبي، على أن بوئثيوس قد بلغ بهذا الجنس الأدبي ذرى عالية غير مسبوقة.
مشروعية الشعر
أول شيء فعلته «الفلسفة» حين هبطت إلى زنزانة السجين هو أن طردت ربات الشعر اللائي يحطن به ويلهمنه الشعر الباكي ويواسينه بالغناء الحزين، فربات الشعر «ليس لديهن علاج لأوجاعه بل سموم محلاة تزيدها سوءا ... فليغربن إذن وليتركنه لربات الفلسفة ترعاه وتداويه.»
ذلك أن علاج الصدمات الثقيلة والمحن الكبرى لا يكون بالمواساة السطحية بل بالمواجهة العميقة، إنها تريد أن تمنح «مريضها» حرية عقلية تخلصه من السجن المادي، يعرف ذلك كل معالج نفسي تخصص في علاج الصدمات، ويعرف أن العلاج الأمثل في هذه الحالة ليس العلاج التدعيمي السطحي، بل العلاج التبصيري العميق ... العلاج بمواجهة الصدمة واقتحامها، هذه المواجهة هي العلاج الحقيقي والكامل لهذا الاضطراب، والحق أن كل أصناف العلاج على اختلاف تقنياتها ومنطلقاتها النظرية تلتقي في هذه الفكرة العلاجية المحورية: مواجهة المحنة والألم النفسي وعدم التهرب منهما، وذلك بالتناول الاستيعابي أو الاختراق
working through
للأحداث المؤلمة، على جرعات متدرجة في الشدة، وتأويلها تأويلا سليما، ووضعها في نصابها الصحيح، وتحويلها من خبرة ناشزة خام إلى خبرة مهضومة ومتمثلة.
قد يكون ذلك مؤلما وممضا في الجلسات الأولى، تماما مثل تنظيف الجرح (نستعين عليه بوقفات تلطيف وتسكين واستراحة مثلما فعلت «الفلسفة» مع «بوئثيوس») ولكنه يؤدي فيما بعد إلى الالتئام التدريجي، وإلى سيطرة المريض على الصدمة بعد أن كانت مسيطرة عليه، وتحويل المحنة إلى جزء من خبرته الشخصية ومن بنائه النفسي، بعد أن كانت كيانا دخيلا مؤرقا كالجسم الغريب.
Bog aan la aqoon