فأين عزاء الفلسفة من تلك السخرية المضحكة في عمل سينيكا «التقريع»؟ من الجلي إذن إننا لا يمكن أن نعتبر «عزاء الفلسفة» عملا هجائيا أو هزليا، فليس فيه من «الساتورا» سوى سمة الخلط بين الشعر والنثر.
الواقع أن هذا المزج بين الأجناس الأدبية المختلفة في عزاء الفلسفة لا يضاهيه سوى المزج الواضح كذلك في المضامين الفكرية والفلسفية في ثنايا العمل نفسه، ففي هذا العمل تجد إشارات واضحة أحيانا وتلميحات خفية أحيانا أخرى لكل مفردات التراث الإغريقي واللاتيني من هوميروس إلى يوريبيديس وأريستوفانفيس وسقراط وأفلاطون وأرسطو ... إلخ.
معظم المدارس الفلسفية الإغريقية ممثلة تمثيلا مقصودا في هذا العمل من الأبيقورية إلى الرواقية، ومن الكلبية إلى الغنوصية، ففكرة الأسرار والكشف عنها للمخلصين الأصفياء وراء ظهور آلهة الفلسفة أو الفلسفة مجسدة لواحد من صفوة أتباعها ألا وهو بوئثيوس .
ويقودنا هذا الحديث إلى أخطر مشكلة في هذا النص، فنحن أمام مفكر مسيحي لاهوتي له أكثر من مؤلف في اللاهوت المسيحي، يمر بلحظات عمره الأخيرة ويودع الدنيا بعمل سماه عزاء الفلسفة، ولا يذكر كلمة واحدة عن العقيدة المسيحية، أليس هذا أمرا غريبا؟ والأغرب أن هذا المسيحي - وهو أحد الشهداء بحق - يركز حديثه تماما في التراث الكلاسيكي الوثني، ومن النظرة الأولى يستوقفنا العنوان «عزاء الفلسفة» فالفلسفة مجسدة هي اللاعب الأول
في هذا العمل الأدبي الإبداعي، هي التي توجه كل صغيرة وكبيرة، وهي التي تقود المؤلف إلى بر الطمأنينة ورباطة الجأش بعد الجزع الذي استولى عليه تماما في السجن، ومنذ القدم عرف أن الفلسفة تأتي على حساب الفكر الأسطوري والعقائدي؛ ولذا عمد السوفسطائيون إلى هدمها، وكان أفلاطون ميالا للهجوم على الأسطورة والشعر - وهما صنوان - إلا أنه لم ينج منهما تماما لأنه بطبعه شاعر، ولما جاءت المسيحية حاربت التراث الوثني برمته ونفته من مملكتها تماما، فألغت الدورات الأوليمبية والمسارح وكل ما يمت للوثنية بصلة، ولا سيما الفلسفة فهي العدو الأول للدين والعقيدة، والمثل الصارخ على ذلك ما فعله مسيحيو الإسكندرية المتطرفون والمنتقمون بالفيلسوفة والرياضية هيباتيا حيث مزقوها إربا إربا، أما في «عزاء الفلسفة» فتظهر إلهة الفلسفة وقد نزلت من عليائها لتواسي الفيلسوف في أزمته الطاحنة، هنا تبدو إحدى مخلفات التراث الوثني - الفلسفة - وهي تعالج أحد معتنقي المسيحية ومفكريها، هنا تتجلى أروع صورة للزواج المقدس بين المسيحية والتراث الكلاسيكي وعندما يصرح إرازموس في القرن السادس عشر «صل من أجلنا يا سقراط»
ora pro nobis Socrate
فإنه يردد صدى هذا الزواج المقدس ويؤذن لقيام النهضة.
رويدا رويدا عبر القرون الأولى الميلادية بدأ الحوار بين المسيحية والوثنية يحل محل التنافر والعداء، وكان ذلك أمرا طبيعيا، فالمسيحية وإن ولدت في فلسطين إلا أن محيطها المؤثر كان العالم الإغريقي الروماني، وكان على آباء الكنيسة الأوائل أن يتعلموا اللغة الإغريقية واللاتينية ليشرحوا العقيدة الجديدة ويردوا على أقطاب التراث الوثني، وكان من نتائج ذلك أن البلاغة الإغريقية واللاتينية كما فهموها من كتابات أرسطو وشيشرون أصبحت سلاحهم في الانتصار للمسيحية، وتشهد بذلك كتابات القديس أوغسطين الملقب بشيشرون المسيحية.
واستخدم المنطق الأرسطي في الجدل الديني المسيحي، تماما كما سيحدث بعد ذلك عندما يستخدم بعض فلاسفة الإسلام المنطق الأرسطي في جدلهم الديني، سواء داخل حظيرة الإسلام أو مع أصحاب الديانات الأخرى.
والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان الآن هو: مع خلو عزاء الفلسفة من كلمة واحدة مباشرة عن المسيحية، ومع انغماسها الكلي في التراث الوثني هل يرد في هذا العمل الإبداعي ما هو ضار بالمسيحية أو ما يناهضها؟ هل عزاء الفلسفة الذي يحتفي بالوثنية هذا الاحتفاء الظاهر يحوي ما يناقض أو يحارب المسيحية ويهدمها؟ الإجابة قطعا بالنفي المؤكد، ذلك أن الروح المسيحية ترفرف على هذا العمل الإبداعي وتشع من بين كل سطوره، فالمؤلف وبذكاء شديد تجنب ذكر المسيحية تماما، ولكنه دعم هذه العقيدة دعما غير مباشر، فمما لا شك فيه أنه اختار الموضوعات والشخصيات الوثنية التي تتوافق مع المسيحية، فمبادئ الرواقية عامة ورواقية سينيكا خاصة تنسجم مع المسيحية بما فيها من زهد ورحمة وقدرة على التحمل، ويقال إن هناك رسائل متبادلة بين سينيكا والقديس بولس، ويقال الشيء نفسه تقريبا عن التوافق بين الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة من جهة، والمسيحية من جهة أخرى ولا سيما فكرة الاتحاد مع الإله واختلاط ما هو بشري بما هي إلهي.
Bog aan la aqoon