سؤال دار في عقل كل منهما.
وإذا كان السؤال قد دار بقليل من الدهشة عند «الثور»، فالدهشة الأكبر كانت لدى «سلطان»، لماذا حقيقة يأمره أن يعود للجلوس، ويؤكد أنه مستيقظ، وأنه يريد استمرار وجوده مع أن الوقت قد تأخر، والجميع حتى داخل البيت الذي يجلسون في بلكونته نيام؟
كانت الرعشة قد عادت له من جديد، آمرة، مدلهمة، لا يملك لها دفعا، وأيضا لا يملك لها تحقيقا.
حائرا ومرتبكا ارتباك مبتدئين، خجلا من نفسه خجلا أبشع من خجله من أي غريب، يكاد يبكي غيظا مما هو فيه، ومن وضع كان من المحال أن يتصور حدوثه، ولا يملك حياله أي تصرف. حتى لو كان سيثور ثورة المجنون حينذاك، ثورة الرجل، أبو الرجال، الزعيم الذي يحاول فأر، وإن كان اسمه «الثور» أن يعتدي عليه، على رجولته. وعاد الصمت الذي كان يبدو وكأنه الحل الوحيد للإشكال، يفرض نفسه. وعاد «سلطان» لا ليستعرض حياته ليعثر على بداية الكارثة أو مبعثها، وإنما عاد يقلب ماضيه، قريبا وبعيدا ليعثر على سبب لهذا الذي حدث، بل ليتأكد أن شيئا فعلا قد حدث له، أو أن واقعة ما كانت هناك موجودة، ووجدت ولكنه نسيها وطمرتها الحياة الحافلة التي عاشها، بينما هي طول الوقت كالسوسة، كالسرطان الخبيث البطيء تعمل عملها حتى أوصلته إلى الآن، حيث لا يستطيع مطلقا أن يتصور أنه بكل جلالة قدره خاضع، أو يكاد يكون خاضعا لفكرة الرغبة العارمة الطاغية التي يستميت - دون فائدة - في مقاومتها، فكرة أن يستسلم أمام ذلك الشاب المرعوب خوفا منه ومن فحولته ومن هيلمانه، حتى لقد وفدت إليه فيما وفد أفكار أن «الثور» يتصور العكس، ويرتعش خوفا من أن يطلب منه عمه السلطان ما يطلبه الأقوى من الأضعف، فطلبات السلطان أوامر مقدسة، تنفيذها لا مهرب منه، ولا إمكان للهرب. أمر مقدس لو طلبه السلطان لكان عليه - ويا للكارثة - أن يخضع لنزوته حتى لو كلفه ذلك الخضوع رجولته وكبرياءه، وكل ما بناه لنفسه من شخصية وسمعة وصلت به حد الشهرة أنه وحده الثور الطلوق الذي يغار منه كل الرجال، وتحلم به كل محرومة أو غير محرومة من جنس النساء.
احتمالات، كل احتمال منها كارثة أبشع من الأخرى، حتى بدأ جسد «الثور» يرتعش فعلا، ارتعاشات حقيقية، يكاد معها يرتمي بجسده تحت أقدام السلطان، ويستجير به أن يرحمه، أو أن يفض الصمت المخيف المليء كالأحراش بالأفاعي والوحوش، ويقولها له صريحة، ويفعلها أو لا يفعلها، وينتهي الأمر، وينتهي الصمت، وينتهي ذلك الموقف الذي أصبح امتداده أشد عذابا من أي شيء آخر، أشد عذابا من أي إحساس بالمهانة، حتى لو تحققت المهانة.
7
من العشة عند طرف سور الجامعة، إلى المدينة الجامعية، إلى العمار، من المعير بأبيه عاري المؤخرة غاوي الفشخرة، إلى المشاد بأصله الفلاحي المتين، وعصاميته، وأبوته التي رفعت لمرتبة الأصالة والعراقة الشعبية والنموذج الأعلى لما يجب أن يكون عليه الزعيم، قادما من قلب الشعب لا بد يجيء، سليل أب كادح، إذ أصبح النبل والعراقة صفات من يكون سليل شجرة بؤس أبا عن جد.
من «قصعة» الأسمنت تقطم الظهر في النهار والمراجع ينقلها نقلا، وهي بآلاف الصفحات من كتب زملائه التي كان يستعيرها منهم، من القصعة قاطمة الظهر، والنقل عن المراجع مضيع البصر مخدر الأصابع مقوس الجسد بالآلام المبرحة التي تئن لها عظام الظهر.
من الصبي النكرة المصفر الوجه بالأنيميا ونقص الغذاء، إلى الحاصل على درجتين؛ واحدة في الاقتصاد، والأخرى في التاريخ، مفخرة الجامعة، ثم بقية الجامعات، مفخرة جيله، وكل ما تلاه من أجيال، بل مفخرة من مفاخر مصر ووثبتها التي نقلتها من مجرد دولة محتلة في عالم قبيح قديم إلى دولة قائدة تحرر وزعيمة شعوب ومفجرة انتفاضات وثورات، حتى أصبح سلطان سلطانا فعلا.
وكان أول زعيم شباب يقابله الرئيس الزعيم، ويصافحه، بل ويمنحه وساما وتصبح له حظوة، وجاه، وصاحب مدرسة واتجاه، حوله ومعه جيش صغير تابع من النوابغ والمعجبين وتابعي التابعين.
Bog aan la aqoon