كان الدعاة العباسيون يتنقلون في مختلف الأمصار، وكانوا في ظاهر الأمر طلاب رزق يزاولون التجارة، وكانوا في الواقع رجال سياسة ودهاء يبثون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدعون الناس إلى مناصرتهم بشتى الأساليب.
وظلوا كذلك إلى أن توفي محمد بن علي، وعهد بالأمر من بعده إلى ابنه إبراهيم الإمام، فكاتب هذا مشايخ خراسان ودهاقينها، وبعث إليهم الدعاة، وأرسل أبا مسلم لخراسان لبث الدعوة هناك، فكان يدعو إلى آل محمد - يريد أهل البيت - من غير أن يعين العباسيين ولا العلويين.
وقد كان أبو مسلم من أبطال الحرب والسياسة، شديد الإخلاص للعباسيين، مسرفا في خدمتهم، كثير الدهاء، واسع الحيلة، خبيرا بما يقتضي عمله من الحزم والقسوة، فلا تعرف الرحمة قلبه، ولا يتناول الأمور إلا بالحزم والبأس الشديد.
ونستطيع أن نتبين مرمى السياسة العباسية من الكتاب الذي بعث به إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخراساني فيما يرى أن يعمله لتأييد الدولة الجديدة، قال: «إنك رجل منا أهل بيت، احفظ وصيتي: انظر هذا الحي في اليمن فالزمهم، واسكن بين أظهرهم، فإن الله لا يتم هذا الأمر إلا بهم، واتهم ربيعة في أمرهم، وأما مضر فإنهم العدو القريب الدار، واقتل من شككت فيه، وإن استطعت ألا تدع بخراسان من يتكلم بالعربية فافعل، وأيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله.»
وقد حرص أبو مسلم على تنفيذ هذه الوصية، فكان يسرع إلى قتل كل من يتهمه، ويقضي على كل من يرتاب في أمره حتى بلغت ضحايا هذه الخطة فيما يقول المؤرخون العرب: ستمائة ألف نفس قتلت صبرا.
ومهما افترضت المبالغة والغلو في إيرادهم هذا العدد، فإن الواقع أن أبا مسلم قد أسرف أيما إسراف في القتل وسفك الدماء تنفيذا لوصية الإمام.
حل أبو مسلم خراسان سنة 128ه فساسها بحزمه ودهائه وقوته، وأقام بقرية من قرى مرو يقال لها: «سفيذنج»، وقد كثر أنصاره وانثال الناس عليه من كل صوب، فأعلن فيهم لبس السواد، واتخذه شعارا للعباسيين، ثم غير شكل صلاة العيدين بأن بدأ بها قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة - وكانت بنو أمية تبدأ بالإقامة كصلاة يوم الجمعة - وأمر بأن يكبر ست تكبيرات تباعا، وكاتب نصر بن سيار الوالي الأموي، ولما ضاقت «سفيذنج» عليه ولم تتسع لأنصاره رحل إلى الماخوان،
2
وكانت عدة رجاله - فيما يقول المؤرخون - سبعة آلاف رجل، ثم احتال في التفرقة بين نصر ورجاله حتى أخذ بناء خصمه ينهار، ويتخلى عنه أنصاره واحدا بعد واحد، وفي هذا يقول نصر شعرا بعث به إلى مروان الحمار الخليفة الأموي:
أرى بين الرماد وميض نار
Bog aan la aqoon