145

(1) توطئة

هذه فذلكة مجملة بمثابة توطئة لما سنعرض له بما يقتضيه المقام من شرح وإيضاح في العصر المأموني، فمهمتنا الآن أن نلم ببيان العناصر المهمة في الحياة العلمية العباسية.

نعلم من تاريخ اليونان القديم أن أثر اليونان في الثقافة الإنسانية عظيم عميق، لأنه إلى جانب إمداد العالم بمنتجات فلاسفتهم وعلمائهم وكتابهم ومفكريهم، قد أمدوه أيضا بالنخب والملح مما وقف عليه اليونان من زبدة علوم الأشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين والهنود والفرس واليونان والرومان، فإذا ما قلنا: إن العرب وقفوا على الفلسفة اليونانية ومنتجات العقول اليونانية، فكأننا نقول ضمنا: إنهم وقفوا على آثار العقليات الإنسانية العامة وآثار الثقافة القديمة والحضارات السالفة.

ونعلم أن الدولة العباسية كانت فارسية إلى حد ما، أو على الأقل كانت متسمة بالطابع الفارسي متأثرة به، ونعلم من تاريخ سقوط الدولة الرومانية للأستاذ «چيون» أن «جستنيان» اضطهد مدارس أثينا لأنه كان خصما للفلسفة الوثنية، وكانت الفلسفة الأفلاطونية حين ذاك قد آتت ثمرتها ونضجت، ثم هرع أصحابها إلى الفرس، واتصل بأنوشروان سبعة من علماء اليونان، فأكرم وفادتهم، وأفسح لهم مجال التأليف والنقل فيما هم أهله وأصحاب القدح المعلى فيه.

ويقول ابن النديم في الفهرست: إن الفرس نقلت في القديم شيئا من كتب المنطق والطب إلى اللغة الفارسية، فنقل ذلك إلى اللسان العربي عبد الله بن المقفع، فمن المعقول إذن أن يكون العرب حين اتصلت ثقافتهم بالثقافة الفارسية وتأثروا بها، تأثروا في الوقت نفسه بالثقافة اليونانية أيضا - ولم تكن الثقافة الفارسية مما يستهان بأمره أو يغمط قدره؛ لأنك إذا استقصيت تاريخ ملوكهم الكبار، مثل سابور بن أردشير، تجد أنه في خلال عهده بعث إلى بلاد اليونان وجلب كتب الفلسفة، وأمر بنقلها إلى الفارسية، واختزنها في مدينته، وأخذ الناس في نسخها وتدارسها وهكذا - فالثقافة العربية أفادت أيما إفادة من منتجات الفرس وآثارهم وتراجمهم. (2) حركة النقل

لنتدرج الآن إلى شيء من التوضيح فننقل لك ما يقوله ابن صاعد الأندلسي في هذا الباب؛ لأنه مختصر عما تعرض له أمثال الأساتذة «نللينو» و«ابن أبي أصيبعة» و«القفطي» و«ابن النديم» وغيرهم ممن سيكونون عدتنا وموئلنا حين نعرض لهذه البحوث في العصر المأموني.

يقول ابن صاعد: «إن أول علم اعتني به من علوم الفلسفة علم المنطق والنجوم، فأما المنطق فأول من اشتهر به في هذه الدولة عبد الله بن المقفع الخطيب الفارسي، فإنه ترجم كتب أرسطاطاليس المنطقية الثلاثة التي في صورة المنطق، وهي: كتاب «قاطاغورياس» وكتاب «باري أرمنياس» وكتاب «أتولوطيقا»، وذكر أنه لم يترجم منه إلى وقته إلا الكتاب الأول، وترجم ذلك المدخل إلى كتاب المنطق المعروف ب «إيساغوجي» ل «فرفوريوس الصوري»، وعبر عما ترجم من ذلك عبارة سهلة قريبة المأخذ، وترجم مع ذلك الكتاب الهندي المعروف بكليلة ودمنة، وهو أول من ترجم من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية ...»

وأما علم النجوم فأول من عني به في هذه الدولة محمد بن إبراهيم الفزاري، وذلك أن الحسين بن حميد، المعروف بابن الآدمي، ذكر في تاريخه الكبير المعروف بنظام العقد: «إنه قدم على الخليفة المنصور سنة ست وخمسين ومائة رجل من الهند عالم بالحساب المعروف بالسند هندي، في حركات النجوم مع تعاديل معلومة على كردجات محسوبة لنصف نصف درجة، مع ضروب من أعمال الفلك ومع كسوفين ومطالع البروج وغير ذلك، في كتاب يحتوي على اثني عشر بابا، وذكر أنه اختصره من كردجات منسوبة إلى ملك من ملوك الهند يسمى قبغر، وكانت محسوبة لدقيقة؛ فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، وأن يؤلف منه كتاب تتخذه العرب أصلا في حركات الكواكب، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري، وعمل منه كتابا يسميه المنجمون «بالسند هند الكبير» وتفسير السند هند باللغة الهندية: الدهر الداهر.»

وقد يكون من المستصوب أن نفهم حقيقة وجهة نظر العرب حين ذاك إلى علم الفلك، فهم كاليونانيين في زمن «بطليموس» كان غرضهم في الهيئة تبين الحركات السماوية مع كل اختلافاتها المرئية بأشكال هندسية تمكنهم من حساب أوضاع الكواكب لأي وقت فرض، فإن كانت تلك الأشكال تصلح لحساب الظواهر رضوا بها، وما اهتموا بالبحث في حقيقة حركات الأجرام السماوية؛ وذلك لظنهم أن البحث عن حقيقة الحركات وعللها يكون على المشتغلين بالحكمة والطبيعة والحكمة الإلهية.

ونحن نجد، بقطع النظر عن أحكام النجوم التي صارت غير مقبولة في أيامنا، أن الهيئة عند العرب كما يقول الأستاذ «نللينو»: قد اشتملت على علم الهيئة الكروي والعملي، وقسم صغير من النظري يخص الكسوفات واستتارات الكواكب السيارة، مع علم التاريخ الرياضي، وعلم أطوال البلدان وعروضها على طريقة كتاب الجغرافية لبطليموس، فقد خرج من علم الهيئة عند العرب علم الميكانيكا الفلكية وعلم طبيعة الأجرام السماوية وأكثر علم الهيئة النظري؛ إذ إنه يبحث عن حقيقة حركات الكواكب.

Bog aan la aqoon