141

ربما تطلب إلي مثالا على جودهم وتعلق الناس بهم، فأبلغك، أرشدك الله، أن كتب الأدب مترعة بالمئات من ذلك، بلا مبالغة ولا غلو ولا تهويل ولا إغراق، وسنترك الكلمة في هذا الباب لمعاصرين؛ أحدهما: إسحاق الموصلي، والآخر: الإتليدي فيما يرويه من حديث جرى بين المأمون والمنذر بن المغيرة. وإنا نكتفي بإيراد هذين المثلين للإفصاح عن جود البرامكة وبيان ما جبلت عليه نفوسهم من المروءة وبعد الهمة وحب الخير.

أما مسألة إسحاق الموصلي، فتفصيل الخبر فيها أن الفضل بن الربيع دعا أحمد بن يحيى المكي وعلويه ومخارقا للاجتماع عنده - وذلك أيام المأمون بعد رجوعه ورضاه عنه - إلا أن حالة الفضل كانت ناقصة متضعضعة، فلما اجتمعوا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه، ويعلمه الحال في اجتماعهم عنده، فكتب إسحاق إليهم بحضوره، ولكن جاءهم متأخرا، وكان علويه يغني فأخطأ، فقال له إسحاق: أخطأت. فغضب علويه وعاتبه بكلام طويل، ومنه قوله له: إنه من صنيعة البرامكة، فقال إسحاق: أما البرامكة وملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده، وإني لحقيق فيه بالمعذرة، وأحرى أن أشكرهم على صنيعهم، وبأن أذيعه وأنشره؛ وذلك والله أقل ما يستحقونه مني، ثم أقبل على الفضل وقد غاظه مدحه لهم، فقال: أتسمع مني شيئا أخبرك به مما فعلوه، وليس هو بكبير في صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي؟ فإن وجدت لي عذرا وإلا فلم؛ كنت في ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره، فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة، كما يجري بين هذه الطبقات، فيشكونهم إليه فأتبين الضجر والتنكر في وجهه، فاستأجرت دارا بقربه وانتقلت إليها أنا وغلماني وجواري، وكانت دارا واسعة، فلم أرض ما معي من الآلة لها، ولا لمن يدخل إلي من إخواني أن يروا مثله عندي، ففكرت في ذلك وكيف أصنع، وزاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة، وأني لا آمن في وقت أن يستأذن علي وعندي من أحتشمه ولا يعلم حالي، فيقال: صاحب دارك، أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أحتشمه، فضاق بذلك صدري ضيقا شديدا حتى جاوز الحد، فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل على قلبي، فأسرجه وركبت برداء ونعل، فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد، فثواثب غلمانه إلي وقالوا: أين هذا الطريق؟ فقلت: إلى الوزير . فدخلوا فاستأذنوا لي، وخرج الحاجب فأمرني بالدخول، وبقيت خجلا قد وقعت في أمرين فاضحين: إن دخلت إليه برداء ونعل وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب، وإن قلت له: كنت مجتازا، ولم أقصدك، فجعلتك طريقا؛ كان قبيحا. ثم عزمت فدخلت، فلما رآني تبسم وقال: ما هذا الزي يا أبا محمد؟ احتبسنا لك بالبر والقصد والتفقد، ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا، فقلت: لا والله يا سيدي، ولكني أصدقك، قال: هات، فأخبرته القصة من أولها إلى آخرها، فقال: هذا حق مستو، أفهذا شغل قلبك؟

قلت: إي والله، وزاد فقال: «لا تشغل قلبك بهذا. يا غلام، ردوا حماره، وهاتوا له خلعة.» فجاءوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها، ودعا بالطعام فأكلت، ووضع النبيذ فشربت وشرب فغنيته، ودعا في وسط ذلك بدواة ورقعة، وكتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعا لي بجائزة، فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع وساره بشيء، فزاد طمعي في الجائزة، ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر شيئا فلا أراه إلى العتمة، ثم اتكأ يحيى فنام، فقمت وأنا منكسر خائب، فخرجت وقدم لي حماري، فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي: إلى أين تمضي؟ فقلت: إلى البيت، قال: قد والله بيعت دارك وأشهد على صاحبها، وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه، والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك، وأظنه اشترى ذلك للسلطان، لأني رأيت الأمر في استعجاله واستحثاثه أمرا سلطانيا، فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي، وجئت وأنا لا أدري ما أعمل، فلما نزلت على باب داري إذا أنا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي، فقال لي: ادخل، أيدك الله، دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه، فطابت نفسي بذلك، ودخلت ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى: يطلق لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره وجميع ما يجاورها ويلاصقها.

والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره، فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد، وبنائها على ما يشتهي.

والتوقيع الثالث إلى جعفر: قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه، وأمر له أخوك بدفع ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريد، فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله.

والتوقيع الرابع إلى محمد: قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا وأخواك بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه، ونفقة ينفقها عليه، وفرش يبتذله، فمر له أنت بمائة ألف يصرفها في سائر نفقته.

وقال الوكيل: قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم، وهذه كتب الابتياعات باسمي، والإقرار لك، وهذا المال بورك لك فيه فاقبضه. فقبضته وأصبحت أحسن حالا من أبي في منزلي وفرشي وآلتي، ولا والله ما هذا بأكثر شيء فعلوه لي، أفألام على شكر هؤلاء؟! فبكى الفضل بن الربيع وكل من حضره وقالوا: لا والله لا تلام على شكر هؤلاء.

أرأيت إلى أي مدى بلغت مكانة البرامكة من رجالات العصر وأدبائه حتى تملكوا من القلوب أعنتها، ومن النفوس أزمتها؟ وكيف استحوذوا على السويداء والمهج؟ ولم لهجت الألسنة بتمداحهم والإشادة بذكرهم؟

أما حديث المأمون والمغيرة بن المنذر الذي رواه لنا الإتليدي، فهاكه بحذافيره: قال خادم المأمون: طلبني أمير المؤمنين ليلة وقد مضى من الليل ثلثه، فقال لي: خذ معك فلانا وفلانا - سماهما لي؛ وأحدهما: علي بن محمد، والآخر دينار الخادم - واذهب مسرعا لما أقول لك، فإنه بلغني أن شيخا يحضر ليلا إلى آثار دور البرامكة وينشد شعرا، ويذكرهم ذكرا كثيرا، ويندبهم ويبكي عليهم ثم ينصرف، فامض أنت وعلي ودينار حتى تردوا تلك الخرابات، فاستتروا خلف بعض الجدر، فإذا رأيتم الشيخ قد جاء وبكى وندب وأنشد أبياتا فأتوني به، قال: فأخذتهما ومضينا حتى أتينا الخرابات، فإذا نحن بغلام قد أتي ومعه بساط وكرسي حديد، وإذا شيخ قد أتى وله جمال، وعليه مهابة ولطف، فجلس على الكرسي وجعل يبكي وينتحب ويقول هذه الأبيات:

ولما رأيت السيف جندل جعفرا

Bog aan la aqoon